• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

انسجام فاطمة الزهراء (عليها السلام) روحياً وعاطفياً مع خطّ الرسالة

عمار كاظم

انسجام فاطمة الزهراء (عليها السلام) روحياً وعاطفياً مع خطّ الرسالة

قال تعالى: (إنّما يُريدُ اللهُ ليُذهِبَ عنكمُ الرِّجسَ أهلَ البيتِ ويُطَهِّرَكم تَطهيراً) (الأحزاب/ 33). فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي مظهرٌ حيّ لفضائل أهل البيت (عليهم السلام) في كلِّ كلماتها وأعمالها، وفي زهدها وعبادتها، وفي أخلاقها ومشاعرها، وفي إيمانها وتقواها، فقد فتحت عينها على قصّة الرسالة الإسلامية، وهي تدعو الإنسانية إلى السير في طريق الله، وانطلقت بعد ذلك لتشاهد مظاهر الصراع بين الإسلام والوثنية، وهو يزداد حدّةً وضراوةً، وترقبه وهو يتعاظم ويطغى. وكانت في كلِّ ذلك تتلفت إلى أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يقابل الموقف بوداعة الرسالة المطمئنّة إلى سلامة موقفها، وهدوء الرسول الواثق بربّه وبرسالته، فلا يكلّ ولا يملّ ولا يتراجع، وإنّما يتلقّى المصاعب والعقبات بابتسامته الرسالية السمحة، التي تشرق وتمتدّ في إشراقة حتى لتكاد تزرع صفاء الإيمان ونقاءه في قلوب التائهين. وكانت الزهراء (عليها السلام) مع أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلّ موقف، تحسّ بحزنه على قومه فتتألّم، وتستمع إلى ابتهالاته في جوف الليل، وهو يسأل ربّه الغفران لقومه لأنّهم لم يطّلعوا على الجانب المشرق من الدعوة، في دعاء خاشع رحيم: «اللّهُمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»، فتخشع لروعة الدُّعاء وروحية الدعوة.

ودرجت الزهراء (عليها السلام) في مرابع الوحي ومشارق الرسالة، تتغذى بالإيمان المتدفق من روح أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحتضن في قلبها وروحها خطوات الوحي وآياته، حتى لتفيض روحها بروحانيته إشراقاً وصفاءً، وتتلمّس أخلاق النبوّة وقيمتها في أخلاق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفائه. فتنطبع بطابعها الأصيل في وعي وأصالة.. وشهدت قصّة الهجرة، في هجرة أبيها إلى المدينة، ليضع قواعد المجتمع الإسلامي الجديد، وفي تضحية ابن عمها الإمام عليّ (عليه السلام) المنقطعة النظير في مبيته على فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، غير عابئ بالخطر المحقّق المحدق به، وبدأت في المدينة حياةً جديدةً تختلف عن كلِّ ما عاشته في مكّة، فقد بدأ المجتمع الجديد ينفتح على تعاليم القرآن وآياته في إقبال منقطع النظير.

وأحسّت بمسؤولياتها تجاه أبيها، وهو ينهض بعبء قيادة الدعوة الجديدة إلى النصر، فمضت تعطيه كلَّ ما تملك من حنان الأُمومة والنبوّة، وترعى حياتها بروحها وقلبها ومشاعرها الرقيقة الفياضة، حتى انطلقت كلمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لتخلّد لها هذا الحنان، ولتمجّد هذه العاطفة، فتعطيها كُنية مميزة على مدى إحساس النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بروعة هذا الحنان، فكان يقول عنها إنّها «أُمّ أبيها».. وبهذا نعرف الدور الصامت الذي قامت به الزهراء (عليها السلام) في الجهاد، برعايتها لأبيها، وهو في أشدّ الأوقات حراجةً وأعظمها قسوةً، وقد حفظ لها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الدور، والتقت عاطفته بحنانها، فكان إذا أراد السفر سلَّم على مَن أراد التسليم عليه من أهله، ثمّ يكون آخر من يسلِّم عليه فاطمة (عليها السلام).. فيكون وجهه إلى سفره من بيتها، وإذا رجع بدأ بها.. لقد كانت تشعر أنّ أباها (صلى الله عليه وآله وسلم) يمثِّل كلّ شيء في حياتها كأب، وكنبيّ، فقد كانت تحسّ أنّ عليها أن تبذل له كلّ شيء. كانت ترقب انفعالات وجهه وخلجات نظراته، لتفهم منها كلّ ما يريده وما لا يريده، دون أن يقول شيئاً أو ينهاها عن شيء، فتبادر لامتثال أوامره ونواهيه دون إبطاء أو تردّد، مدفوعة إلى ذلك بعامل المحبّة له والتقديس لشخصه كنبيّ.

وهكذا كانت الزهراء (عليها السلام) منسجمةً كلّ الانسجام روحياً وعاطفياً مع الخطّ الإسلامي الأصيل الذي انطلق في الحياة من خلال تعاليم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم تستسلم إلى صلتها الوثيقة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسكن إلى هذا الشرف العظيم. كانت تريد أن تكون ابنة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) روحاً وأخلاقاً وتقوىً وعبادةً وصلةً بالله وانسجاماً مع تعاليمه، قبل أن تكون ابنة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) جسداً وقرابةً. كما كانت الزهراء (عليها السلام) تتخذ من بيتها المتواضع محراباً وملاذاً.. فقد كانت (عليها السلام) تريد لأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجد في بيتها المتواضع زهد الرسالة، وروحانية الإيمان، وبساطة العيش، وقناعة النفس، وصفاء الروح، كمَثَلٍ حيٍّ للبيت المسلم الذي يعيش الأجواء الإسلامية، ويتنفّس في جوٍّ إسلاميٍّ خالص، وهكذا انطلقت لتكون مَثَلاً أعلى للمرأة المسلمة، في قداستها وطهرها، وعبادتها المنقطعة النظير. فيما رُوِي ما كان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمة (عليها السلام)، إنّها كانت تقوم حتى تتورّم قدماها. وتمتدّ القضية إلى أبعد من ذلك، فهي لا ترضى بعبادتها أن تختص نفسها بالدُّعاء أو تحتكر لذاتها القربى إلى الله.. كانت تتضرّع لربّها من أجل الآخرين، وتحاول أن تطلب الخير للمؤمنين والمؤمنات، قبل أن تطلبه لنفسها. هذا هو ما يحدّثنا به ولدها الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام)، قال: «رأيتُ أُمّي فاطمة (عليها السلام) في محرابها ليلةً، فلم تزل راكعةً ساجدةً حتى اتّضح عمودَ الصبح وسمعتُها تدعو للمؤمنينَ والمؤمناتِ وتُسمِّيهم وتكثرُ من الدُّعاءِ لهم، ولا تدعو لنفسِها بشيءٍ، فقلت لها: يا أُمّاهِ لِمَ لا تَدعينَ لنفسِك كما تَدعين لغيرِك؟ فقالت: يا بُنيَّ الجارُ ثمّ الدار».

ارسال التعليق

Top