• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصوم والقرآن الكريم

أسرة البلاغ

الصوم والقرآن الكريم

قال الله - تعالى - في سورة البقرة، الآية (183-187):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

نداء الله - تعالى - إلى أعزّ عباده، نداؤه إلى المؤمنين به الذين أشرِب الإيمان في نفوسهم وضمائرهم وخالط عقولهم وأفكارهم، فذابت لذلك أجسادهم في خدمته عندما سخّروها ونذروها لله - تعالى - فجاء النداء لهم دون غيرهم:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا):

ولم يقل يا أيها النّاس أو يا أيّها المسلمون فهو - سبحانه - خصَّ الذين آمنوا فقط بالنداء، لأنّ الإيمان مرتبة لا يبلغها كلّ النّاس، مرتبة عالية عند الله - تعالى - لها منزلة رفيعة يتوفر لصاحبها الاستجابة الكاملة لأوامر الله والانصياع التام لأحكام الله، والانصهار الحقيقي في دين الله.. تصفهم الآية الكريمة في سورة الأحزاب، الآية (36): (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

فالخيرة خيرة الله، يريدون ما أراد الله لهم، ويتبعون ما يأمرهم ربهم ويستجيبون له استجابة كاملة، لذلك خصّهم بالنداء لأنّهم دون غيرهم يُطبّقون أوامره وينتهون عن نواهيه وهم فقط يُلبّون النداء بالقبول والرضا، فوجه تخصيص النداء لهم لأنّهم أكثر الناس صفاءاً لله - تعالى - وأكثرهم استجابة لأوامره - سبحانه - .. ولو أردنا أن ننظر إلى جميع التكاليف التي يقوم بها الإنسان نرى أنّها تحتاج إلى شيء من المعاناة سواء كان ذلك التكليف في المجال العلمي أو في المجال الديني.

فالمخترعون والمكتشفون مثلاً يتحمّلون ما يتحمّلون في سبيل الوصول إلى اكتشاف معيّن.. يَفْنُونَ العمر ويرهقون النفس وهم صابرون حتى يصلوا إلى نتيجة معينة مرضية، فإذا وصلوا إليها تزيل عنهم كلّ أتعابهم وتعوض ما قد بذلوه من أجل غايتهم.

ونفس الشيء بالنسبة للتعاليم الشرعية.. فإنّ فيها شيئاً من المعاناة من قبل الإنسان المسلم عند تأديته لهذه التعاليم وإقامتها في حياته فلا يتحمّل مثل هذه التكاليف كلّ الناس بالرغم من قدرتهم على أدائها، وإذا رأينا من يؤديها من دون إيمان أو فَهْم ووعي لها، فإنّه إنّما يؤديها أداءاً جامداً لا يستفيد من عطائها شيئاً ولا تترك من آثارها على شخصيته.

لذلك خصَّ الله - تعالى - المؤمنين بالنداء لأنّهم وحدهم القادرون على تحمّل المعاناة والأتعاب في جَنْب الله - تعالى - وهم وحدهم القادرون على اجتياز الطريق دون انحراف أو التواء بالرغم من كلّ العقبات التي تقف أمامهم وبالرغم من كلّ العراقيل التي تعترضهم يهون ذلك عليهم أنّه في جَنْب الله وطاعته وفي سبيل مرضاته كلّ ذلك بفضل الإيمان الذي حلَّ في نفوسهم وعُجِنَ مع ضمائرهم وأرواحهم.

وبعد ذلك تتعرض الآية إلى موضوع التقوى، وأنّها النتيجة الطبيعية لامتثال أوامر الله - تعالى - فهي ملازمة للطاعة، والتقوى تعني بمفهومها الاصطلاحي الديني هو إطاعة أوامر الله عزّ وجلّ في واجباته ونواهيه.. ومثال الأمر بالواجبات كقوله - تعالى - في سورة البقرة، الآية (43): (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).

وقوله - تعالى - في سورة البقرة، الآية 21: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وقوله - تعالى - في سورة آل عمران، الآية (133): (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

ومثال النواهي كقوله - تعالى - في سورة لقمان، الآية (13): (لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وقوله - تعالى - في سورة الإسراء، الآية (32): (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا).

قوله - تعالى - في سورة الإسراء، الآية (29): (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ).

إلى غيرها من النواهي التي تمثِّل الجانب السلبي من التقوى وهو ما يُطلَق عليه (الورع عن محارم الله)، وهو كما يقول الرسول الأعظم (ص) إنّه أفضل الأعمال في شهر رمضان وعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "فيما ناجى الله - عزّ وجلّ – به موسى (ع) ما تقرّب إليَّ المتقرِّبون بمثل الورع عن محارمي".

والصوم من العوامل المهمة التي تنمّي جانب التقوى لدى الإنسان المؤمن وهو الطريق السليم لمساعدته لكبح جماح نفسه وتخفيف غلواء شهوته وبالتالي تقوية إرادته.. فالإنسان الذي يختَلي بنفسه ويأمن من أنظار النّاس يمتنع عن تناول الطعام أو الشراب بالرغم مما يشعر به من جوع وعطش لأنّه يستشعر الرقابة الإلهية في نفسه، هذا الإنسان يستطيع أيضاً أن يمنع نفسه من ارتكاب المحرّمات عندما تدهمه وتحاول إجباره.. ثمّ تتعرض الآيات الكريمة إلى القرب الإلهي والدعاء فتقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي) فإضافة العباد إليه تدلُّ على ما بعدها من القرب ولم يقل - سبحانه وتعالى - فقل لهم إنّي قريب.. وإنما تكفَّلَ - عزّ وجلّ - هو الرد على عباده (فإنِّي قَرِيبٌ).. وعندما يشعر العبد بهذا القرب الإلهي فماذا يبقى لديه من مشقة الصوم وتعبه، بل مشقة أي تكليف شرعي آخر، ما دام العبد بهذا القرب من الله - سبحانه وتعالى - ولهذا القرب تكفّل - سبحانه وتعالى - الإجابة لدعاء عبده بمجرد السؤال إذا كان الدعاء جامعاً لشروطه.

(أجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ).

وفي شهر رمضان بشكل خاص، هذا الشهر العظيم يزداد الشعور بالقرب من الله - سبحانه وتعالى - فالعبد قريب من ربّه بكلّ جوارحه، قريب من الله بكلّ أحاسيسه ومشاعره.. قريب منه بكلّ عواطفه.. لأنّه قد طرح كلّ شهواته جانباً، فبقيت نفسه متوجِّهة بكلّها إلى الله، فكان حقّاً على الله أن يستجيب دعاءه بلطفه وكرمه وأن يزداد قرباً منه.. وفي الحديث القدسي:

"يا ابن آدم، إن ذكرتني في نفسك، ذكرتك في نفسي.. وإن ذكرتني في ملأ، ذكرتك في ملأ من الملائكة.. وإن دنوت مني شبراً، دنوت منك ذراعاً.. وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً.. وإن أتيتني تمشي، أتيتك هرولةً".

والدعاء وسيلة القرب من الله - سبحانه وتعالى - وذلك بالذوبان بين يديه، والتلاشي أمام عظمته والتذلل من خشيته.. فعندما يقف الإنسان موقف العبد الذليل الحقير المسكين المستكين بكلّ ضعفه وبكلّ تذلُّله وبتمام استصغاره أمام القوة الغير متناهية وبين العظمة الإلهية، يستشعر عندئذ بصغره وضعفه وتلاشيه إلّا أنّ هذا الضعف والتلاشي هو مصدر القوة والعزيمة، فيستند إلى تلك القوة الجبارة ويرتكز على الحيِّ الذي لا يموت ليتعلّق بالغيب الذي لا تنتهي عظمته، وعندئذ يرتفع بنفسه وروحه عن مستوى المادة.. عن الأرض وقيودها وعن الشهوات وميولها، ليتعلّق بالله وحده.. فأي كرامة لهذا الإنسان العبد أفضل وأثرى من هذه الكرامة وهكذا نجد في الدعاء بشكل عام وأدعية شهر رمضان المبارك بشكل خاص بالغ الأثر في بناء الشخصية المثالية وتربية النفس تربية إيمانية صحيحة.. في دعاء السحر في ذلك الجو المنعش اللذيذ تحلو المناجاة ويصعب فراق الله - تعالى - على أحبائه وصفوته الذين خصّهم بأحسن ما عنده بقوله - تعالى - في سورة السجدة، الآية (17):

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

أولئك هم الذين يصفهم بأنّهم في سورة السجدة، الآية (16):

(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا).

فنرى في دعاء السحر يتضاءل ويصغر هذا العبد الضعيف.. يقف ويشكو إلى الله - تعالى - خوفه ورهبته، همومه وحوائجه، فقرهُ واستكانته وقلّة حيلته ويرجو منه عفوه، فيقول في الدعاء:

"يا ربِّ هذا مقام العائذ بك من النار، هذا مقام المستجير بك من النار، هذا مقام المستغيث بك من النار، هذا مقام الهارب إليك من النار، هذا مقام من يبوء لك بخطيئته، ويعترف بذنبه، ويتوب إلى ربّه، هذا مقام البائس الفقير، هذا مقام الخائف المستجير، هذا مقام المحزون المكروب، هذا مقام المغموم المهموم، هذا مقام الغريب الغريق، هذا مقام المستوحش الفرق، هذا مقام من لا يجد لذنبه غافراً غيرك ولا لضعفه مقوياً إلّا أنت، ولا لهمّه مفرّجاً سواك، أي ربِّ ارحم ضعفي وقلّة حيلتي وَرِقّة جلدي وتبدّد أوصالي وتناثر لحمي وجسمي وجسدي ووحدتي ووحشتي في قبري وجزعي من صغير البلاء.. الحمد لله الذي أرجوه عوناً في حياتي وأعدّه ذخراً ليوم فاقتي، الحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوت غيره لخيّبَ دعائي، الحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره ولو رجوت غيره لأخلف رجائي".

فهذه الأدعية المباركة وغيرها دروس متكاملة في توجيه الإنسان الوجهة الصحيحة التي يريدها الله سبحانه وتعالى.

ارسال التعليق

Top