• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرحمة كقيمة روحية إنسانية

عمار كاظم

الرحمة كقيمة روحية إنسانية

يقول سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (الفتح/ 29)، ويقول تعالى في حديثه عن عيسى بن مريم (عليه السلام): (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (الحديد/ 27)، ويقول سبحانه وتعالى: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد/ 17). في هذه الآيات وفي غيرها، يتحدّث الله عزّوجلّ عن الرحمة كقيمة روحية في شخصية الإنسان الذي يؤمن بالله وبرسالاته، ولا سيّما أنّ هذه الرحمة هي صفة الله «الرّحمن الرّحيم»، الذي أرادنا أن نذكره بها عندما نتكلّم بالبسملة، فنقول: (بسم الله الرّحمن الرحيم)، وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى أنّ (رَحْمَة اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 55).

 وفي هذا المجال، نقرأ بعض الأحاديث الواردة عن عطاءات الله للإنسان الذي يعيش الرحمة، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الرّاحمون يرحمهم الرّحمن يوم القيامة»؛ أن يرحم الإنسان من حوله، أن يرحم زوجته، ولده، جاره، العامل، وهكذا، أن يرحم من في الأرض ليرحمه من في السّماء. وفي حديثٍ آخر عن الإمام عليّ (عليه السلام): «أحسن كما تحبّ أن يُحسَن إليك»، أحسن إلى الناس يحسن الله إليك جزاءً لإحسانك، ارحم تُرحَم، وهكذا يقول الإمام عليّ (علیه السلام) في بعض ما رُوي عنه: «ارحم من دونك ـ أي من هو تحت يديك أو الأضعف منك ـ يرحمك من فوقك ـ وهو الله ـ وقس سهوه بسهوك ـ بأن تفكر في أنّه إذا أخطأ، فأنت أيضاً عرضة للخطأ، فكيف تريد ممن أخطأت معه أن يغفر خطأك، ولا تغفر خطأ من أخطأ معك ـ ومعصيته لك بمعصيتك لربّك ـ فإذا كان يقع تحت مسؤوليّتك وعصاك، وترى في ذلك شيئاً كبيراً، فأنت تعصي ربّك، فهل ترى أن معصيته لك أقلّ من معصيتك لربّك؟ ولذلك عليك أن تتعامل مع الذي هو دونك إذا عصاك، كما تريد أن يتعامل معك ربّك ـ وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك». ألا تفكّر في أنّ هذا الإنسان الذي عصاك يفتقر إلى رحمتك، فتذكّر فقرك إلى رحمة ربّك، واغفر له حتى يغفر لك ربّك.

وقد ورد في الدُّعاء الذي يرويه أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللّهمّ إنك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعف عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا». ويقول الإمام عليّ (عليه السلام): «عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه، كيف لا يرحم من دونه»، أنت عندما تكون تحت يد إنسان آخر، ألا ترجو منه أن يرحمك إذا أخطأت؟! فارحم أيضاً من هو تحت يدك، وهكذا، عندما يرجو الإنسان رحمة الله، فعليه أن يرحم من هو دونه، كما يرجو رحمة من هو فوقه. «من رحم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة»، وهو مثال لأضعف المخلوقات، حيث يجب أن لا تقتصر رحمة الإنسان على الإنسان فحسب، بل عليه أن يرحم حتى الحيوان. وبمعنى آخر، أن تكون الرحمة طبيعة، أي أن تكون رقيق القلب، كما تتألم لآلام الإنسان، تألم لآلام الحيوان، وهكذا.

وفي الحديث: «ينادي مَن في النار: يا حنّان يا منّان، نجّنا من النّار، فيأمر الله ملكاً، فيخرجه حتى يقف بين يديه، فيقول الله عزّوجلّ: هل رحمت عصفوراً؟»، وقد لا يلتفت الكثيرون إلى هذا المعنى، فيأخذ بعضنا حريته في التصرّف بالحيوان، فيؤلمه ويؤذيه. وقد ورد في الحديث، أنّ امرأةً دخلت النّار في هرّة ربطتها حتى ماتت جوعاً. وورد في الحديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «من لا يرحم لا يُرحَم»، و«من لا يغفر لا يُغفَر له»، و«من لا يرحم النّاس لا يرحمه الله». وهكذا، «والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة إلّا رحيم ـ يعني أنّه لا يدخل الجنّة الإنسان القاسي القلب الذي لا يرحم أحداً ـ قالوا: كلّنا رحيم، قال: لا، حتى ترحَم».

وفي المقابل، وردَت بعض الأحاديث عن الله سبحانه في رحمته لعباده، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّي لأرحم ثلاثاً، وحقّ لهم أن يُرحَموا: عزيز أصابته مذلّة بعد العزّ، وغنيّ أصابته حاجة بعد الغنى، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة».

وورد أيضاً: «ارحم المساكين»، بأن تخرجهم من مسكنتهم بحسب إمكاناتك. وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيّته لأنس: «يا أنس، ارحم الصّغير، ووقّر الكبير، تكن من رفقائي ـ أن نرحم صغارنا، بأن نلاحظ ذهنيّتهم وعقليّتهم وآلامهم ومشاكلهم، وهكذا ـ من لم يرحم صغيرنا، ولم يعرف حقّ كبيرنا، فليس منّا»، ويخرج إذا لم يعمل بهذه القاعدة من دائرة الإسلام.

ثم بعد ذلك، على الإنسان أن يرحم نفسه: «فارحموا نفوسكم، فإنّكم قد جررتموها في مصائب الدُّنيا. ويا أيّها الإنسان، ما جرأك على ذنبك؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك؟». فلا توقع نفسك في المعصية أو الذّنب، لأنك تظلم نفسك بذلك وتعرّضها لغضب الله سبحانه وتعالى.

هذه هي الخطوط الإسلامية في مسألة الرّحمة، ولابدّ من أن نربي أطفالنا وأنفسنا على ذلك، لأنّنا عندما نعيش هذا الإحساس بالرحمة، يجب أن تكون قلوبنا نابضةً بالرحمة، وأن نتحمل مسؤولية كلّ الفئات المحرومة والجاهلة والضالّة في المجتمع، بأن نعمل على رعاية المحرومين، وعلى هداية الضالّين، وعلى تعليم الجاهلين، أن نعيش الإحساس بالمسؤوليّة تجاه كلّ القضايا الموجودة في مجتمعنا، عند ذلك، يمكن لنا أن ننطلق في مجتمع يتراحم أفراده، ويتعاونون ويتواصلون فيما بينهم، وهذا هو المجتمع الذي يحبّه الله ويرضاه، ويعيش فيه أهل الجنّة، لأنّ أهل الجنّة هم الرّحماء فيما بينهم هناك، وعلينا أن نعيش أخلاق الله، وأخلاق رسول الله، وأخلاق أوليائه، وأخلاق أهل الجنّة، لنحصل على رحمة الله في الدُّنيا وفي الآخرة، يوم لا رحمة إلّا رحمته، ولا ظلّ إلّا ظلّه.

ارسال التعليق

Top