• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الدعاء.. مصباح الظلمة

نبيل شعبان

الدعاء.. مصباح الظلمة

◄قال أمير المؤمنين عليّ (ع): "الدعاء مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة".

أي ظلمة تحيط بالإنسان أشد من ظلمة القلب حينما يغفل عن ذكر الله؟

وأي نور يبصره الإنسان إذا ما عشى عن نور الله؟ وإنما يبصر المؤمنون بنور الله وبذكره فإذا أظلم القلب فلا تنفع الإنسان بقية جوارحه (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46).

فبالذكر يعيش الإنسان مع خالقه العظيم ويشاهد عن قرب جميل صفاته وأسمائه فيمتلىء قلبه بحبه ويزهر بنور قدسه وجلاله.

ومن هنا كانت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تحث على ذكر الله الدائم:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (٤٢)هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب/ 41-43)

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/ 16).

(وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة/ 10).

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة/ 152).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون/ 9).

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ) (آل عمران/ 41).

(نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة/ 67).

أما ما ورد في الحديث من ذكر الله فهو يشعر بلزوم ذكر الله الدائم في كلّ الأحوال والمناسبات، في الفراغ وفي الاشتغال، وفي الغفلة وفي الخلوة، وفي الملأ وفي السر، وفي المجالس وفي أوقات العبادة وفي غيرها من الأحوال الشخصية والاجتماعية. كما يتضح في الروايات التالية:

 

ذكر الله في الفراغ:

قال رسول الله (ص): "أكسل الناس عبد صحيح فارغ لا يذكر الله بشفه ولا بلسان".

قال الله عزّ وجلّ لموسى: "أكثر ذكري بالليل والنهار وكن عند ذكري خاشعاً".

ذكر الله في الاشتغال:

قال أمير المؤمنين (ع): "أكثروا ذكر الله عزّ وجلّ إذا دخلتم الأسواق وعند اشتغال الناس فإنّه كفارة للذنوب وزيادة في الحسنات ولا تكتبوا في الغافلين".

ذكر الله في الغفلة:

عن أبي عبد الله (ع) قال: "شيعتنا الذين إذا خلوا ذكروا كثيراً".

ذكر الله في الملأ:

عن أبي عبد الله (ع) قال: "قال الله تعالى: ابن آدم اذكرني في نفسك، أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في الخلاء أذكرك في خلاء، ابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملائك".

وقال (ع) في حديث آخر: "ما من عبد يذكر الله في ملأ من الناس إلّا ذكره الله في ملأ من الملائكة".

ذكر الله في السر:

قال رسول الله: "يا أبا ذر اذكر الله ذكراً خاملاً، قلت ما الخامل، قال الخفي".

قال الصادق (ع): "قال الله تعالى مَن ذكرني سراً ذكرته علانية".

وقال أمير المؤمنين (ع): "مَن ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيراً، إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر".

ذكر الله في المجالس:

قال رسول الله (ص): "ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا الله ولم يصلوا على نبيهم إلّا كان ذلك المجلس حسرة ووبالاً عليهم".

ومن وصية لقمان لابنه قال:

"يا بني احذر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله عزّ وجلّ فاجلس معهم فإنّك إن لم تكن عالماً يزيدوك علماً، وإن كنت جاهلاً علّموك، ولعلّ الله إن يطلعهم برحمة فيعمك معهم...

وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإنّك أن تكن عالماً لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً يزيدوك جهلاً ولعلّ الله إن يظلهم بعقوبة فيعمك معهم".

 

ماهية الذكر:

إنّ ذكر الله في نظر الإسلام مسألة أساسية ينبغي أن تأخذ أبعادها في حياة المؤمن وذلك لأنّ المقصود بالذكر إنما هو ذكر القلب أساساً أو استشعار حضور الله تبارك وتعالى في كلّ مكان وكلّ زمان وكلّ حال، فالذاكر لله هو الذي يعيش قلبه مع الله حيث يرى آثار عظمته وقدرته وحلاله في كلّ شيء من أشياء هذا الكون العظيم فليس هناك شيء غير الله في الواقع وكلّ ما سواه هو أثر من أثاره وانعكاس لصفاته وأسماءه.

فتلك الصورة الجميلة العذبة التي تنشد إليها النفوس في بعض ما خلق الله، ما هي إلّا جزء من فيض جماله وحسن فعاله، وتلك القدرة الفذة التي أوجدها الله في بعض مخلوقاته إنما هي جزء من قدرة الله وعظمته، وتلك الصفات الجميلة التي تهفوا إليها الأرواح إنما هي مظهر من مظاهر كماله، وهكذا لا يرى الذاكر لله غير الله تبارك وتعالى في كلّ ما حوله ولا يرى غير إرادته ومشيئته شيئاً فاعلاً في هذا الوجود.

وحين يسود مثل هذا الشعور فإنّ القلب يزهر بحب الله تبارك وتعالى فيسارع المؤمن إلى طاعة مولاه والتقرُّب إليه بما يحب من الأعمال الصالحة ويترك مما يبغضه من المعاصي والسيئات التي تمنع رضاه وتحول دون قرب العبد منه.

فالذكر يقترن على الدوام بالشوق للطاعة والوقوف عند حدود المولى فيما أحلّ وحرّم.

 

ذكر اللسان:

حينما يمتلىء وعاء القلب بالمشاعر والإحساسات الغامرة بعظمة المولى وكمال صفاته وأسمائه فإنّه يفيض على الجوارح والأعضاء من هذه المشاعر الخاشعة فتتحرك بدورها متجاوبة مع خلجات النفس وما تطويه من انفعالات، وذكر اللسان هو أهم مظهر من مظاهر التعبير عن الإحساس النفسي الذي يقابل تلك المشاعر والأحاسيس حيث ينطلق اللسان بتمجيد الله وحمده والثناء عليه وذكر آلائه ونعمه ولذا فقد ورد عدد من الروايات في مدح الذاكرين لله بألسنتهم.

قال رسول الله (ص): "مَن أُعطي لساناً ذاكراً فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة".

ولذلك نجد أنّ الذاكر لله حقّ ذكره لا يردد كلمات ميتة لا يحس بها قلبه، ولا يكتفي بعمل عبادي محدود يقتصر في أثنائه على ذكر الله، إذ إنّ الذاكر لله يرى آثار الله تبارك وتعالى تملأ هذا الوجود فكيف يمكن أن يكون هناك ذكر لله في بعض الأعمال والممارسات المحدودة فقط ولا يخلو عمل من الأعمال ولا شيء من الأشياء من آثار الله وإرادته؟ وكيف يمكن الفصل بين ذكر الله وبين الممارسات الحياتية العامّة والحياة الدنيا كلّها قائمة بإرادة الله وتجري مجاريها بيده وبكلماته إلى أجل معلوم وهو الذي قدّره وقضاه وحتمه؟!

ولذا فتوفيق الذكر هو عطاء رباني ونعمة إلهية عظيمة يعد الله فيها العبد لفيوضات الكمال في الدنيا والآخرة ولا ينال توفيق الذكر إلّا مَن أخلص لله وأطاعه وعرف حقّه وحرمته. فعندئذ يفتح الله عليه من أبواب العرفان والحكمة ما تقصر بقية قلوب الناس عن استيعابه والوصول إليه.

وبهذا تتجلى عظمة ذكر الله وأثره في تربية الإنسان وإنارة قلبه ويتجلى مكان الذاكرين وقربهم من الله عزّ وجلّ، وبعد معرفة هذه الحقيقة تظهر أهمية الدعاء ودوره كوسيلة تربوية فعّالة في شدّ الإنسان إلى خالقه ليذكره على الدوام وليعيش معه وله يستلهم معاني الكمال منه تبارك وتعالى.

فالدعاء في محتواه أساساً علاقة وطيدة متينة بين العبد وربّه، يقف العبد فيها بين يدي مولاه في كلّ مكان وكلّ حال يدعوه ويناجيه ويشكو إليه ويخاطبه بكلّ خلجات قلبه وجوارحه وبالمقابل يتلطّف المولى الكريم الغني عن عبده خالق العبد ومحييه ومغنيه يتلطّف هذا المولى الرحيم فيغدق على عبده من مننه وعطاياه ما يسعده في الدنيا والآخرة.

أي وسيلة أفضل من هذه الوسيلة في تربية الإنسان وإصلاح أمره؟ وأي أداة تربوية قادرة على إعطاء مثل هذا الشدّ العميق المحكم للإنسان نحو ربّه ومولاه؟

ولذا وصف رسول الله (ص) الدعاء بقوله: "أفضل العبادة الدعاء وإذا أذن الله لعبد بالدعاء فتح له أبواب الرحمة".

فبمثل هذه العلاقة المتينة بين الخالق والمخلوق يتربى الإنسان ويحقِّق معنى الكمال الإنساني بتمحيص العبودية المطلقة لله ومعرفة حقيقة وجوده ودوره في الحياة الدنيا. فحينما يرجع العبد إلى مولاه في كلّ مكان وكلّ حال فإنّ الله سبحانه وتعالى سيكون أمامه قبل كلّ أمر وبعده وقبل كلّ فكر وسلوك وبعده، ومثل هذا الإحساس العميق الدائم بوجود المولى وإطلاعه على الأفكار والدخائل لقادر على رفع الإنسان من واقع الدنيا المادي إلى العيش مع سبحات الكمال فيوضات القدس الإلهي الغامر وبذا تصلح نفسه ويصلح دينه، فتصلح دنياه وآخرته حيث يكون العبد مثال الكمال والإنسانية والسمو في الفكر والعمل.

فأوّل دور للدعاء إذن هو إنّه مصباح لظلمات النفس يشدّ الإنسان إلى خالقه ويبصره حقيقة الدنيا والآخرة.►

 

المصدر: كتاب الدعاء المستجاب/ بحث في أهمية الدعاء وأثره على الفرد والمجتمع المسلم

ارسال التعليق

Top