ليس في دنيا الأنساب نسب أسمى، ولا أرفع من نسب الإمام أبي جعفر (عليه السلام)، فهو من صميم الأسرة التي هي من أجلّ الأُسر التي عرفتها الإنسانية في جميع أدوارها، تلك الأسرة التي أمدّت العالم بعناصر الفضيلة والكمال، وأضاءت جوانب الحياة بالعلم والإيمان. أمّا أبوه فهو الإمام علي الرضا ابن الإمام موسى بن جعفر ابن الإمام محمّد الباقر بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، وهذه هي السلسلة الذهبية التي لو قرأت على الصمّ والبكم لبرؤا بإذن الله عزّوجلّ.
كنّى الإمام الرضا (عليه السلام) ولده الإمام محمّد الجواد بأبي جعفر، وهي ككنية جدّه الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) ويفرق بينهما، فيقال للإمام الباقر: أبو جعفر الأوّل، وللإمام الجواد: أبو جعفر الثاني. أمّا ألقابه الكريمة، فهي تدل على معالم شخصيته العظيمة، وسموّ ذاته، وهي: (الجواد، التقي، القانع، المرتضى، الرضي، المختار، المتوكل، الزكي، باب المراد). هذه بعض ألقابه الكريمة، وكلّ لقب منها يشير إلى إحدى صفاته الرفيعة، ونزعاته الشريفة التي هي من مواضع الاعتزاز والفخر لهذه الأُمّة.
نشأ الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) في بيت النبوة والإمامة، ذلك البيت الذي أعزّ الله به المسلمين وقد ترعرع (عليه السلام) في ظلاله وهو يتلقى المُثُل العليا من أبيه، وقد أفاض عليه أشعة من روحه العظيمة، وقد تولى بذاته تربيته، فكان يصحبه في حلّه وسفره، ويطعمه بنفسه. إنّ هذا اللون من التربية المطعّم بالحبّ والتكريم، له أثره البالغ في التكوين النفسي وازدهار الشخصية حسبما قرره علماء التربية والنفس.
وملك الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) في سنّه المبكّر من الذكاء والعبقرية ما يثير الدهشة ويملك النفس إكباراً وإعجاباً.
من أروع صور الفكر والعلم في الإسلام الإمام أبو جعفر الثاني محمّد الجواد (عليه السلام) الذي حوى فضائل الدنيا ومكارمها، وفجّر ينابيع الحكمة والعلم في الأرض، فكان المُعلِّم والرائد للنهضة العلمية، والثقافية في عصره، وقد أقبل عليه العلماء والفقهاء، ورواة الحديث، وطلبة الحكمة والمعارف، وهم ينتهلون من بحر علومه وآدابه، وقد روى عنه الفقهاء الشيء الكثير مما يتعلّق بأحكام الشريعة الإسلامية من العبادات والمعاملات وغير ذلك من أبواب الفقه، وقد دوّنت في موسوعات الفقه والحديث.
لقد كان هذا الإمام العظيم أحد المؤسسين لفقه أهل البيت (عليهم السلام) الذي يُمثِّل الإبداع والأصالة، وتطوّر الفكر. وروى عنه العلماء ألواناً ممتعة من الحكم والآداب التي تتعلق بمكارم الأخلاق وآداب السلوك، وهي من أثمن ما أثر عن الإسلام من غرر الحكم التي عالجت مختلف القضايا التربوية والأخلاقية.
ودلّل الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) بمواهبه وعبقرياته، ومَلكاته العلمية الهائلة التي لا تُحدّ على الواقع المشرق من أنّ الإمام لابدّ أن يكون أعلم أهل زمانه وأفضلهم من دون فرق بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، فإنّ الله أمدَّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بالعلم والحكمة وفصل الخطاب، كما أمدَّ أُولي العزم من أنبيائه ورسله.
لقد برهن الإمام أبو جعفر (عليه السلام) على ذلك، فقد تقلّد الإمامة والزعامة الدينية بعد وفاة أبيه الإمام الرضا (عليه السلام) وكان عمره الشريف لا يتجاوز السبع سنين، وهو دور لا يسمح لصاحبه -حسب سيكولوجية الطفل- أن يخوض في أي ميدان من ميادين العلوم العقلية، أو يدخل في عالم المناظرات والبحوث الجدلية، مع كبار العلماء والمتخصصين، فإنّ ذلك غير ممكن لمن كان في سن الطفولة، إلّا أنّ الإمام الجواد (عليه السلام) وهو بهذا السن قد خرق هذه العادة.
إنّ مواهب الإمام الجواد (عليه السلام) وعبقرياته قد ملكت عواطف المأمون، ومشاعره فأخلص له في الحبّ والولاء فقدَّمه على أبنائه، وأهل بيته، ووفّر له العطاء الجزيل، وأوعز إلى جهاز حكومته وسائر الأوساط الرسمية باحترامه وتبجيله.
أُحيط الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) بهالة من الحفاوة والتكريم، وقابلته جميع الأوساط بمزيد من الإكبار والتعظيم، فكانت ترى في شخصيته امتداداً ذاتياً لآبائه العظام الذين حملوا مشعل الهداية والخير إلى الناس، إلّا أنّه لم يحفل بتلك المظاهر التي أُحيط بها، وإنّما آثر الزهد في الدنيا والتجرد عن جميع مباهجها.
كانت هذه الظاهرة إحدى العناصر البارزة في سيرة الإمام محمّد الجواد (عليه السلام)، كما كانت السمة البارزة في سيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فلم يؤثر عن أي أحد منهم أنّه سعى للدنيا، أو اتّجه نحو مباهجها، وإنّما آثروا جميعاً طاعة الله وابتغوا الدار الآخرة، وعملوا كلّ ما يُقرِّبهم إلى الله زلفى.
عاش الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) في تلك الفترة القصيرة من حياته متجهاً صوب العلم فرفع مناره، وأرسى أُصوله وقواعده، فاستغلّ مدّة بقائه في بغداد بالتدريس وإشاعة العلم، وبلورة الفكر بالمعارف والآداب الإسلامية، وقد احتف به جمهور كبير من العلماء والرُّواة وهم يأخذون منه العلوم الإسلامية من علم الكلام والفلسفة، وعلم الفقه، والتفسير.
هذا جزء بسيط من سيرة هذا الإمام العظيم الذي ملأ الدنيا بفضائله وعلومه وزهده وتقواه، وكانت هذه بعض معالم شخصيته التي هي امتداد ذاتي -بلا شك- لحياة آبائه الطاهرين الذين أضاءوا الحياة الفكرية والاجتماعية في الاسلام.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق