الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) من أفذاذ العترة الطاهرة، ومن أعلام أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ومن أبرز رجال الفكر والعلم في الإسلام. قام (عليه السلام) بدور إيجابي وفعّال في تكوين الثقافة الإسلامية وتأسيس الحركة العلمية في الإسلام، فقد تفرّغ لبسط العلم وإشاعته بين المسلمين في وقت كان الجمود الفكري قد ضرب نطاقه على جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد سار بها خطوات واسعة في ميادين البحوث العلمية مما يعتبر عاملاً جوهرياً في ازدهار الحياة الإسلامية وتكوين حضارتها المشرقة في الأجيال التي جاءت بعده.
كان الإمام الباقر (عليه السلام)، مؤسس الحركة الفكرية الذي أراد بفكره أن يشيع السلام في العالم من خلال الإسلام، وأن يُحرِّك السلام في عقل الإنسان وفي روحه وفي حركته من خلال علاقة الإنسان بالله فيما شرَّع الله من شرائع، وفيما ركّز من قيم، وفيما أنزل من وحي، وفيما أطلق من مفاهيم حتى يتحسس الإنسان الحياة على أساس أنّها ليست الحياة التي يتحرك فيها الهوى، وتنطلق فيها نقاط الضعف؛ ولكنّها الحياة التي يتحرك فيها الخطّ الإسلامي في العقيدة والشريعة والمنهج والحركة والمفاهيم. وكان من أهم ما عنى به الإمام (عليه السلام) نشر الفقه الإسلامي الذي يحمل روح الإسلام وجوهره وتفاعله مع الحياة، فسهر على إحيائه فأقام مدرسته الكبرى التي زخرت بكبار الفقهاء.
ولم يقتصر الإمام (عليه السلام) في محاضراته وبحوثه على الفقه الإسلامي، وإنّما خاض جميع ألوان العلوم من الفلسفة وعلم الكلام والطب. أمّا تفسير القرآن الكريم، فقد استوعب اهتمامه، فقد خصص وقتاً له، وقد دوّن أكثر المفسرين ما يذهب إليه وما يرويه عن آبائه في تفسير الآيات الكريمة، وقد ألّف كتاباً في التفسير. لقد ترك الإمام (عليه السلام) ثروة فكرية هائلة تعد من ذخائر الفكر الإسلامي ومن مناجم الثروات العلمية في الأرض وليس من المستطاع تسجيل جميع ما أثر عنه من العلوم والمعارف.
إنّ التاريخ لم يعرف إماماً كمحمّد الباقر (عليه السلام) قد جعل حياته كلّها لنشر العلم وإذاعته بين الناس، فكان -فيما يقول الرواة- قد أقام في يثرب سنداً أميناً كالجبل أو كالبحر وهو يغذي رجال الفكر وروّاد العلم بفقهه وعلمه التي تحمل عناصر التقدم، وعناصر الحياة لا لهذه الأُمّة فحسب، وإنّما للناس جميعاً. لقد ملأ الإمام (عليه السلام) الواقع الإسلامي في عقله بما أعطاه من ثمرات العقل، وفي روحه بما انفتح عليه من سموّ الروح، وفي حركته من خلال كلّ الخطوط التي تتحرّك بالإنسان نحو الحياة المُثلى، وفي منهجه من خلال ما خطط له من المناهج التي تتحرك مع منهج الإسلام في كلّ مواقعه.
كان الإمام الباقر (عليه السلام) من عمالقة الفكر والعلم في الإسلام، فقد كان من أبرز أئمة المسلمين فيما أوتي من عظيم الأخلاق والتجرد من كلّ نزعة مادّية أو أنانية، فكان في سلوكه يمثّل روح الإسلام وفكره وانطلاقه في هداية الناس وتهذيب أخلاقهم.
كما أنّه كان مشغولاً في أكثر أوقاته بذكر الله، وأنّه كان ينفق لياليه ساهراً في الصلاة لله ومناجاته شأنه شأن آبائه الذين هم مصابيح الهداية والتقوى في الأرض، وقد تحرج الإمام في حياته كأشد ما يكون التحرج، فزهد في الدنيا، وابتعد عن جميع زخارفها، واتجه بقلبه وعواطفه نحو الله فآثر طاعته على كلّ شيء، وعلى كلّ ما يقربه إليه زلفى، فلم ينقاد لأيّة نزعة من نزعات الهوى، وإنّما تحرر منها تحرراً كاملاً، ولم يعد لها أي سلطان عليه. إنّ دراسة التراث الكبير الواسع الذي تركه الإمام الباقر (عليه السلام) وولده الإمام الصادق (عليه السلام)، يعني الالتقاء بالآفاق الفلسفية في حركة العقيدة الإسلامية، والالتقاء بالآفاق الفقهية في كلّ ما انفتح عليه في الشريعة الإسلامية، والقيم الإسلامية المتحركة في السلوك وفي العلاقات وفي المواقف وفي الأوضاع الداخلية التي يعيشها الإنسان مع ربّه ومع الإنسان الآخر.
إنّنا نستطيع من خلال هذه الثروة أن نرى في عقل هذا الإمام الكبير عقلاً ينفتح على الله من خلال الألطاف التي أغدقها الله عليه، ونرى فيه ثقافة واسعة منفتحة على كلّ الواقع الإسلامي في كلّ المشاكل التي أحاطت بالواقع، وفي كلّ التحديات التي قفزت لتطبق على الواقع الإسلامي. لقد كانت كلمته متحركة في كلّ المجالات، ومن هنا ناخذ الدرس من حياة هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) أنّهم كانوا يحدّقون بكلّ ما يحدث في واقع الإسلام والمسلمين من قضايا تتصل بالسياسة وتتصل بالثقافة وتتصل بالاجتماع وتتصل بحركة الإنسان في كلّ قضاياه الخاصّة والعامّة، لنعرف أنّ علينا أن نسير في هذا الخطّ وأن لا نكون معزولين عن الواقع كلّه، فأن تكون الإنسان المسلم يعني أن يكون همّك العقلي والعاطفي والروحي والحركي همّ الإسلام والمسلمين. عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: «مَن لم يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق