◄أراد الله سبحانه وتعالى للمجتمع، أن يعيش أفراده على أساس أن يكونوا متآخين، متعاونين، متفاهمين، متناصرين، ولذلك أكّد تعالى المبدأ الذي يربط الإنسان المؤمن بأخيه المؤمن، وهو مبدأ الأخوّة بين المؤمنين، لأنّ علاقة المؤمن بالمؤمن الآخر، هي علاقة يرعاها الله وتتّصل به، فالإيمان بالله وبرسوله وبدينه، هو الذي يربط المؤمن بالمؤمن، وربما يكون أقوى من علاقة الأخوّة النسبية، لأنّ العلاقة النَّسَبية هي علاقة الدّم من خلال القرابة، بينما العلاقة الإيمانية هي علاقة تشمل حياة الإنسان المؤمن في التزاماته العقلية والروحية وحركته العملية، فهي أخوّة تجعل المؤمن ملتصقاً التصاق الكيان بالإنسان الآخر. وعلى هذا الأساس جعل الله مسؤوليةً على المؤمن للمؤمن من الآخر، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات/ 10)، الأخوّة تفرض علينا الإصلاح بين الأخوين المؤمنين إذا حدثت بينهما بعض الخلافات وبعض المنازعات. عندما تَحدُث هناك بعض المشاكل بين المؤمنين أو بين الناس بشكلٍ عام، لأنّ المجتمع إذا اختلّ نظامه أو انقطعت علاقاته، فإنّ النتائج السلبية ستمتدّ إلى جميع أفراده، حتى أنّه عندما يختلف غير المسلمين في المجتمع المختلط، فإنّ ذلك سيترك تأثيره السلبي على المسلمين، سواء من الناحية الاقتصادية أو الأمنيّة أو الاجتماعية.
المؤمنون والإصلاح:
ولذلك، ففي المجتمع المختلط، لابدّ للمؤمنين من أن يبادروا إلى الإصلاح بين الناس، "وتقارب بينهم إذا تباعدوا"، إذا تباعد الناس بعضهم عن بعض، فإنّ علينا أن ندرس أفضل الوسائل لنقرّب بعضهم من بعض، لأنّ التقارب بين الناس يحقّق الكثير من المكاسب على جميع المستويات، في أمورهم الخاصة وأمورهم العامّة.
فقد وضع الله لنا منهجاً إذا اختلفنا في خطوطنا الإسلامية: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء/ 59). فأنتم تؤمنون بالله، فانظروا ماذا يقول الله فيما تنازعتم فيه، وإذا كنتم تؤمنون بالرسول، فانظروا ماذا يقول الرسول في هذا الأمر أو ذاك. هذا هو المنهج الإسلامي فيما يختلف فيه الناس من الشؤون وتفاصيل العقيدة، أو في تفاصيل الشريعة، أو الخطوط الإسلامية. ولابدّ من أن ينطلق المصلحون، ممن يهمّهم أمر الإسلام والمسلمين، للقيام بعمليةٍ إصلاحيةٍ على مستوى الأُمّة، لتوجيه الأُمّة، وتوعيتها إلى الحوار فيما بينها عندما تختلف في أمورها وشؤونها.
مثل عنوان الإصلاح في الرسالات التي أرسل الأنبياء من أجلها هدفاً أساسياً في حركة النبوّة، بحيث ظلّ هذا الهدف نُصب أعين الأنبياء، وقد حدّثنا الله في القرآن الكريم على لسان أحد أنبيائه، أنّه خاطب قومه قائلاً: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود/ 88)، وامتدّ هذا العنوان إلى حركة المصلحين والأولياء في الأُمّة، حيث جعله الإمام الحسين (ع) عنواناً شرعياً أساسياً لنهضته وثورته، حيث قال: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
نجاة المجتمع في الإصلاح:
إنّ الإصلاح لابدّ أن يتجسّد في الممارسة والسلوك ولا يتجمّد عند حدود الكلمات والشعارات. ولعلّ الإصلاح يتقدّم ويترتّب في أولويات المسؤوليّات وعظائم المهام في المجتمع، حيث تعصف بالمجتمع ريح الفساد وتهدّد أركانه وتُهدِّد كيانه وتجعله قاب قوسين أو أدنى من شفير الانهيار، فلا ملاذ ولا إنقاذ إلّا عندما يهبّ المصلحون، يصدّون الفساد ويوقفون مدّة الأسود، وينشرون الفضيلة ويبعثون في البلاد روح النهضة والصلاح، فبعملهم يكونون قد أنجوا المجتمع، ولولا جهودهم لدمِّرت البلاد. يقول تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود/ 117).
فالأمر ليس سيّان، وإن كان الجوهر واحداً، والأثر متّحداً، بين كلمة إصلاح تُطفئُ نارَ الغضب التي أشعلها الشيطان بين شخصين، أو كلمة إصلاح تخمد كلمة سوءٍ تُشعلُ نار الحرب التي أوقدها بين شعبين أو دولتين.. وهكذا سائر الخطوات على طريق الصُّلح، أو على طريق الإصلاح، على مستوى الفرد أو المجتمع والدولة، فلكلّ دورها ولكلّ أثرها.
صلاح الفرد هو الأساس:
يبدأ الإصلاح الفرد لذاته وتزكيته لنفسه، من خلال تطهيرها من الذنوب والآثام والتدرُّج بها على طريق الصالحين، بالعمل الصالح والخير النافع، للفرد والمجتمع، على المجتمع أن يعمل على دعم حركة الإصلاح فيه، من قِبَل الأفراد وسائر الجماعات، لأنّ في ذلك صلاحه وفلاحه، بل وجوده وبقاءه، حيث إنّ جود المُصلحين ونجاحهم في عملهم يعمّ سائر مرافق المجتمع بالبركة والآثار الطيِّبة، إشاعة جوّ الصُّلح والخير والوئام بين أفراد المجتمع، بدلاً من البغضاء والتقاطع والتقاتل، وبذا يعيش المجتمع بعيداً عن كثير من الصراعات ليحتفظ بطاقاته للبناء والتقدّم، قال تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء/ 128)، وهو شعار ينبغي أن يرفع في كلّ مكان من هذا العالم، ليكون دليلاً للمحبة وطريقاً للسلام. وتأصيل روح الأخوّة بين المؤمنين، ممّا يُعمِّق ارتباطهم وتعاونهم على البرّ والتقوى ويبعدهم عن الإثم والعدوان، وفي ذلك يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات/ 10)، وبذلك تُحقن الدماء وتُحفظ الأرواح وبسط العدل وإقامة القسط، لأنّ الصلح فرصة لوقف العدوان وبذلك يعمّ القانون المجتمع فينعم بالعدالة، قال تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) (الحجرات/ 9)، ونشر الإيمان وانتشار أجواء الطاعة للرحمن، لأنّ الاختلاف موئل وموطن للشيطان، والصُّلح والائتلاف يسدّ الطريق عليه وهو طريق إلى القُرب من الله تعالى وتصفية النفوس وتطهيرها من الأحقاد والآثام ومعصية الله، يقول تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال/ 1).
نعمة الإصلاح:
إنّ الفساد مرتع خصب للشيطان ومجال واسع للذنوب والآثام، وكلّ ما يبعد عن الله تعالى، ولذلك فإنّ تشديد الإصلاح وتوسيع حركته بالشكل الذي يُضيِّق على الفاسدين المنافذ ويسدّ عليهم الأجواء يجعل مساحة المعصية ضيِّقة وأبواب الجنّة مفتوحة، بالعمل الصالح والبناء. إنّ الله تعالى يدفع البلاء عن البلاد بالإصلاح وبوجود الناس المُصلحين، أفراداً وجماعات، إذ لولا هم لعمّ الفساد وأُهلِكَ الحَرثُ والنسلُ، وفي ذلك يقول تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود/ 117). بل لولا جهود المُصلحين وإرادة ربّ العالمين، لطغى الفاسدون وامتدّوا بآثارهم ليُخرِّبوا ويدمِّروا كلّ شيء على الأرض. من برٍّ وبحر وأرض وسماء، فهم فاسدون مُفسدون.. ولكنّ الله تعالى يوفِّق المصلحين لكي لا تفلح جهود المفسدين ولا تثمر خطواتهم، والمصلحون يعملون من أجل وعي الناس وحثِّهم لمكافحة الباطل وفساده، يقول تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) (الأعراف/ 85).►
المصدر: كتاب مفاهيمُ خيرٍ وصلاح
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق