• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أوهام الحب

أوهام الحب
  مررتُ البارحة في الأسواق، فأبصرت زحاماً لا يُطاق، وسمعت صياحاً ومساومات لم أعهدهما من قبل، فالبائع ينهر الزبون، ويستعرض أمامه عضلات شمشون، ويقول بانتفاش: السعر لا يقبل النقاش، والكل مستاء، الشفاه مزمومة، والحواجب معقودة، فغلاء الأسعار وارتفاع ثمن كل شيء أصبح مشكلة تستلزم الحل.

كعادتي.. دفعني الفضول إلى كشف المستور، معرفة ما يدور، فجلتُ ببصري بين العربات، ورأيت العَجَب العجاب، فالعربات ممتلئة بما يهم وما لا يهم، أساسيات وكماليّات، ما هو صحي وما هو غير صحي، ما هو ضروري وما هو غير ضروري..

وبينما أنا على هذه الحال، أستكشف حال القوم في هذا المقام، أستغرب شكواهم وتذمّراتهم، وإذا بي أتسّمر في مكاني كالبلهاء فاغرة الفيه، وأنسى فضولي ومرحي، وأجد نفسي وجهاً لوجه أمام نهال.

نهال.. هل أنت نهال؟ متى عدت؟ أين اختفيت؟ ماذا حل بك؟

أجابتني وكأنها صفعتني: يبدو أنك مخطئة في التشبيه. وأشاحت بوجهها مسرعة.. عندها تيقّنت أنها نهال.. وحاولت جاهدة أن أسيطر على ذهولي وصدمتي..

نهال صديقة الطفولة، الدراسة، العمل.

مستحيل.. كيف اختفت وكيف ظهرت.

كانت نهال صورة رائعة لفتاة صادقة، تفيض بالحيوية والإقبال على الحياة، تعيش بنبضات قلبها، كانت معجونة بالحب، مُلوَّنة بالحنان، مغلفة بالعاطفة، معطاءة تعطي من دون أن تسأل كيف ومتى، تنشر جواً من المرح والسعادة أينما تحل.

شاركتني نهال أيام الطفولة والبراءة، أيام المراهقة والأحلام، أيام الشقاوة والحماس، وأيام العمل وتجارب الحياة.

منذ ما يقارب العشر سنوات كانت أولى تجاربنا العملية، حيث توظفنا معاً في تلك الشركة العالمية، ومنذ الوهلة الأولى وقعت نهال في حُب مديرنا المشرف علينا، وكان هو المقابل يبادلها حباً راقياً هادئاً رقيقاً.. كانت نهال تعيش أروع ساعات عمرها، يسكنها الحب، يرتدي جسدها، يتحدث بصوتها، يتنفس أنفاسها، كان هذا الحب هو منبع سعادتها.
وفجأةَ.

تزوج المدير.. بامرأة أخرى غير نهال..

وانهارت نهال، هوت بقوة من قمة سعادتها لترتطم بقوة بالألم والأحزان، بكت بمرارة، ورددت كثيراً: ليتك جنبتني ألم النهاية منذ البداية.

تعبت نهال، لملمت جراحها وسافرت، هربت ولم نسمع عنها خبراً من يومها.

طوت نهال صفحة ألمها وقررت نسيان تلك الفترة المؤلمة وكل من كان فيها..

واستمرت الحياة، كلٌّ يسير في طريقه.

عدت إلى بيتي جامدة الوجه، زائغة العينين، مشتتة الفكر، تناولت كتابي، وقرأت الآتي:

نظم شاعر مرة أغنية حُب، وكانت رائعة. وكتب نسخاً عدة عنها، وأرسلها إلى أصدقائه ومعارفه من الرجال والنساء على السواء، ولم يَنْسَ أن يرسلها حتى إلى امرأة شابة لم يسبق له أن شاهدها سوى مرة واحدة، وكانت هذه تُقيم وراء الجبال.

وجاءه رسول من قبل تلك الشابة، بعد يوم أو يومين، يحمل رسالة تقول له فيها:

(دعني أؤكد لك أنني تأثرت تأثراً عميقاً بأغنية الحب التي نظمتها لي. تعال الآن وقابل والدي ووالدتي، وسنتخذ التدابير التي تقتضيها الخطبة).

وكتب الشاعر جواب الرسالة، وقال لها فيه: "لم تكن يا صديقتي سوى أغنية حب صدرت عن قلب شاعر، يغنيها شاعر لكل امرأة".

وكتبت إليه ثانية تقول: "أيها الكاذب الخبيث في كلماتك، سأقيم منذ اليوم إلى ساعة أجلي. على كراهية الشعراء جميعهم بسببك".

ابتسمتُ.. تنهدتُ.. ونمتُ بعمق في ليلتي تلك.

الكاتبة: دانة الخياط

ارسال التعليق

Top