• ٨ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٦ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أدمغتنا تأكل معنا

محيي الدين

أدمغتنا تأكل معنا
◄بالرغم من أنّ المخّ يمثِّل وزناً ضئيلاً من الوزن الكُلّي لأجسامنا، فإنّه يتغذى على كميات كبيرة ونوعيات منتقاة مما نأكله، كما أن هناك الكثير من عاداتنا الغذائية الشائعة تؤثر في خلاياه المرهقة. بلا شك نسيت في يوم ما رقم هاتف شخص يهمك؟ ولم تتذكر في حينها أين وضعت مفتاح منزلك أو سيارتك؟ وتساءلت مع نفسك عن سبب حدوث ذلك خاصة عند تكرار حدوثه، ويعزو بعض الأشخاص ضعف الذاكرة لعقولهم إلى عوامل وراثية أو تقدم عمرهم أو كثرة مشاغلهم في حياتهم اليومية، ويغفلون عن إلقاء نظرة واقعية على نوعية ما يحصلون عليه من أغذية في وجبات طعامهم. فقد اكتشف العلماء تأثير ما يأكله الشخص في طعامه على حدة تفكيره وقدرة دماغه على التركيز ودرجة ذكائه وقوة ذاكرته وزمن تفاعله مع الأحداث التي تواجهه خلال حياته اليومية، وكذلك سرعة حدوث الشيخوخة لخلايا دماغه، وفي الأحوال الطبيعية تقل قدرة الدماغ البشري على أداء وظائفه الحيوية وحدة ذاكرته بتقدم عمر الخلايا فيه.

ويؤكد علماء التغذية على دور الطعام المتزن في مكوناته الغذائية كماً ونوعاً في سلامة صحة جسم الإنسان وعقله، وشاع المثل الذي قاله قبل زمن بعيد أفلاطون "العقل السليم في الجسم السليم"، وعرفت تأثيرات حالات النقص الغذائي لبعض الفيتامينات والأحماض الأمينية وعناصر معدنية ضرورية للجسم، وكذلك فرط تناول عناصر غذائية يحتاج الجسم إلى مقادير صغيرة منها على الجهاز العصبي للإنسان وبالتالي سلوكه العقلي والبدني، ناهيك من أضرار الإدمان على المسكرات، وتأثير شرب السوائل المحتوية على الكافيين على حدة التفكير الذهني، وهذا يعني تأثير بعض العناصر الغذائية في الطعام المأخوذ على نشاط خلايا دماغ الإنسان الذي تبدي ردود فعل متباينة للتغيرات فيها.

-       إحتياجات المخ:

تحتاج خلايا الدماغ أكثر من غيرها من الخلايا داخل جسم الإنسان إلى مصدر مستمر للطاقة على شكل سعرات حرارية ناتجة عن حرق السكر وغاز الأكسجين يحملهما تيار الدم إليه، ويمثل الدماغ نحو 2% من الوزن الكلي للجسم ويستعمل ما يصل إلى 30 % من السعرات الحرارية الكلية المتولدة يومياً، كما يصعب إرضاء خلايا أنسجة الدماغ فهو يحتاج إلى كربوهيدرات عالية الجودة تكون في الأحوال الطبيعية على شكل سكر العنب (جلوكوز) كمصدر وحيد لإنتاج الطاقة فيه، وتقوم خلايا المخ بحرق جزيئات هذا السكر حتى خلال ساعات النوم، لكنها تستطيع عند حدوث بعض الأمراض مثل القصور الكبدي الشديد استعمال مركبات أخرى غير سكر العنب تسمى الأجسام الكيتونية Ketone boies لإنتاج الطاقة اللازمة لها، وهذا يؤكد أهمية تناول الإنسان وجبة الإفطار لأنها أفضل طريقة لاستعادة مخازن الوقود داخل جسمه بما تحتوي من سكر وغيره والوقاية من حدوث ارتباك وحالة من القصور في الأداء العقلي في وقت متأخر من ساعات النهار، ويلاحظ الشخص بعد مرور أسبوعين أو ثلاثة أسابيع من عودته إلى تناول وجبة طعام إفطاره بعد توقفه سابقاً عنها زيادة في طاقة جسمه تؤدي إلى تحسن قدرته العقلية على التفكير والتركيز خاصة عند احتواء وجبة الإفطار على ما لا يقل عن ثمرة فاكهة ومستحضرات حبوب كاملة كالخبز ومصدر غني بالبروتين كالحليب أو اللبن الرائب أو الجبن أو البيض. ويفضل حصول الإنسان خلال يومه على وجبات طعام صغيرة يتراوح عددها بين 4 و6 وجبات، وتكون الوجبة الغذائية منها صغيرة الحجم وخفيفة في مكوناتها، عن طريق تجنب احتوائها على أغذية عالية المحتوى من الدهون وليست كبيرة الحجم، لتجنب تحول حجم كبير من الدم إلى الجهاز الهضمي بعيداً عن أنسجة الدماغ التي تؤدي إلى شعور الشخص بتعب وكسل وبلادة في جسمه كما يحدث مثلا بعد تناول طبق كبير من الفول المضاف إليه الزيت أو الكبدة المحمرة بالسمن. كما يؤدي اتباع أي شخص حمية غذائية قاسية إلى توافر سعرات حرارية قليلة جدّاً (أقل من 800 سعر حراري كل يوم) بهدف إنقاص وزنه، أو عند حدوث المجاعة الطوعية أو القسرية إلى قلة ما يحصل عليه جسمه من سعرات حرارية وتناقص قدراته الذهنية على التفكير. وذكر تقرير علمي حديث أصدره علماء في معهد أبحاث الأغذية بالمملكة المتحدة أنّ النساء اللواتي استعملن حمية غذائية وفرت سعرات حرارية قليلة جدّاً، عانين بطئاً في ردود أفعال عقولهنّ للأحداث التي مرت بهنّ، ومشكلات في ذاكرتهن مقارنة بنساء أخريات لم يتبعن مثل هذه الأنظمة الغذائية السيئة، ويكون حدوث نقص سريع في وزن جسم الإنسان وسيلة خاطئة للتخلص من الوزن الزائد وتؤدي إلى حدوث حالة حماض كيتوني، مصحوبة بتكوين أجسام كيتونية من عمليات الأيض الغذائي للبروتينات والدهون في الأنسجة تستعملها خلايا الدماغ لإنتاج الطاقة في حالات النقص الشديد لسكر الجلوكوز عن الخلايا، لذا يوصي علماء التغذية بضرورة حدوث نقص تدريجي في وزن جسم البدين لا تزيد على كيلو جرام واحد كل أسبوع أي حوالي 4 كيلوجرامات كل شهر، فيساعد ذلك في حدوث تناقص في كتلة الدهون المخزنة في الجسم وليس البروتينات في العضلات فيه وتحافظ على صحته. كما عرف القدماء أضرار التخمة وإدخال الطعام على الطعام على عقل الإنسان، وشاع المثل القائل: "البطنة تذهب الفطنة" وكثرت أقوال مشاهير السلف في ذلك ومنها قول لقمان الحكيم عليه السلام: "يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة"، كما ورد عن الطبيب الشيخ ابن سينا قول مشابه "من اكتفى دون الشبع حسن إغتذاء بدنه وصلح حال نفسه وقلب9 – أي عقله -، ومن تمنى من الطعام شيئاً غدا بدنه وأثرت نفسه وقسا قلبه، فإياكم وفضول المطعم فإنّه يُسم القلب بالقسوة ويبطئ الجوارح عن الطاعة ويصم الأذن عن السماع للموعظة". ويفيد شرب فنجان من القهوة في الصباح في تشجيع عمل دماغ الإنسان لممارسة وظائفه الحيوية كالتفكير والإدراك كما تزيد كفاءته في هذا الخصوص، لكن يؤدي الإفراط في شربها إلى ظهور تأثيرات صحية سلبية في الجسم ككل والدماغ على وجه الخصوص، وتستمر فعالية مركب الكافيين في جسم الإنسان حتى 15 ساعة، فمثلاً يؤدي شرب فنجان من القهوة أو زجاجة من مشروبات الكولا – المحتوية على الكافيين – إلى اضطراب في عادة النوم المبكر لبعض الأشخاص، وشعورهم بتعب عقلي وضعف القدرة في استعابهم الذهني، وضعف في إصدارهم الأحكام في صباح اليوم التالي، كما يكون الكافيين ذا فعالية في حدوث العصبية في سلوك بعض الناس، كما يؤدي الإفراط في كمية ما يحصل عليه الشخص من الكافيين إلى ضعف قدرة دماغه على التركيز في تفكيره، كما يحتوي مشروب القهوة وبشكل أكبر مشروب الشاي على مركب التانين الذي قد يقلل فعالية المركبات التي تنشط خلايا الدماغ.   -        حديد وفيتامينات: يساعد وجود مقدار كافٍ من عنصر الحديد في خضاب دم الإنسان على حمل دمه حجماً كافياً من غاز الأكسجين إلى كل أنسجة جسمه بما فيها خلايا المخ، ويؤدي الانخفاض الشديد لتركيز الحديد داخل الخلايا إلى زيادة حاجتها للأكسجين يصاحبها الشعور بالتعب وضعف في الذاكرة وقلة التركيز الفكري وقصور في الانتباه الذهني ونقص معدل الإنجاز في العمل العضلي. وتحتاج النساء قبل سن اليأس إلى ما لا يقل عن 15 ملجم من عنصر الحديد يومياً، لكن تحصل الكثيرات منهن على 10 ملجم حديد أو أقل، ويمكن زيادة كمية ما يحصل عليه الإنسان من هذا العنصر بتناوله كميات كافية من الأغذية الغنية به وهي اللحوم الحمراء والكبد والقلب وبذور البقول المطبوخة والخضراوات الورقية ذات اللون الأخضر الداكن والمشمش والعنب. كما يحتاج الجسم إلى توافر كميات كافية من الأغذية الغنية بفيتامين "ج" في طعامه لأنّه يسهل عملية امتصاص الحديد داخل الأمعاء، ويوجد هذا المركب بوفرة في الفواكه والخضراوات الطازجة وعصائرها. ويؤدي نقص كمية ما يحصل عليه جسم الإنسان وبشكل خاص دماغه من أفراد مجموعة فيتامين "ب" المركب وهي (فيتامينات ب1، ب2، ب6، ب12) وحمض الفوليك إلى نقص مقدار الطاقة التي تصل إليه، وهي تؤدي بالتالي إلى شكواه من تشوش ذهني وتهيج في سلوكه وقصور في تفكيره وضعف تركيزه الذهني وضعف ذاكرته، لذا يفيد في هذا الخصوص الإكثار من تناول الأغذية الغنية بفيتامين "ب" المركب الموجود بوفرة في الحليب خالي الدسم ولبن الزبادي وجنين القمح (باستعمال حبوب القمح الكاملة) والأسماك والحبوب الكاملة – مع قشورها – بالإضافة إلى الحصول بين حين وآخر على جرعات صغيرة من المستحضرات الصيدلانية للفيتامينات والأملاح المعدنية عند الشكوى من ضعف الشهية للطعام. وتستهلك خلايا دماغ الإنسان حجماً من غاز الأكسجين يزيد على باقي خلايا جسمه، مما يعرضها بشكل يومي إلى وجود كميات كبيرة من الجذور الحرة Free radicals فيها، وهي ناتجة عن استعمال الأكسجين الذي يهاجم ويتلف خلايا المخ، ومع مرور عقود من الزمن يساهم تكسر الجذور الحرة المتكونة في حدوث فقد تدريجي في الذاكرة وضعف في التفكير ويزيد من تأثيره تقدم عمر الإنسان. ولحسن الحظ يحتوي جسم الإنسان على مركبات لها فعالية تضاد الجذور الحرة المتكونة تتكون من عناصر غذائية تسمى مضادات الأكسدة ومنها فيتامين "أ" – "ج" – "ي" فهي تثبط النشاط المخرب للجذور الحرة المتكونة داخل خلايا الجسم، ويفيد في المحافظة على القدرة الدفاعية لمضادات الأكسدة الطبيعية حصول الإنسان بشكل يومي على كميات وفيرة من الأغذية الغنية بهذه الفيتامينات مثل عصائر الفواكه الطبيعية كالبرتقال والفراولة والجزر والسبانخ والشمام والخضراوات والفواكه ذات اللون الأخضر الداكن. ولقد لاحظ الأطباء من نتائج التحاليل المخبرية. لأنسجة أدمغة أطفال عانوا حالة سوء تغذية شديدة تعرف بالضوى marasmus – نتيجة عدم حصولهم على كميات كافية من الطعام فترة طويلة أو عند حدوث حالة المجاعة أثناء الكوارث بأنواعها – أن عدد الخلايا العصبية في أدمغتهم كانت أقل من أطفال آخرين حصلوا على تغذية جيدة خلال حياتهم وقد قيست في تلك الاختبارات كمية الحمض النووي د. ن. أ الموجودة بالمخيخ في الدماغ كدليل على عدد خلايا المخ.   -        الجنسنغ وذاكرة المرضى: اكتشف فريق من العلماء الصينيين في دراسة صغيرة تم إجراؤها في كلية الطب بجامعة بكين على مرضى عانوا حدوث السكتة الدماغية (الفالج Strock) حدوث تحسن في ذاكرتهم، بعد حصولهم على مسحوق نبات الجنسنغ الشائع استعماله في الطب الصيني التقليدي، وأشار أولئك الباحثون إلى فائدة الجنسنغ في زيادة نشاط مركب أسيتايل كولين الذي يؤدي دوراً مهماً في ذاكرة الإنسان، وذكرت دراسة علمية أخرى أجريت على فئران التجارب نتائج مشابهة لما توصلت إليه أبحاث علمية بهذا الخصوص على الإنسان، كما قدم فريق علمي في مؤتمر السكتة الدماغية العالمي الثامن والعشرين – أقامته الجمعية الأمريكية للسكتة الدماغية – نتائج دراسة علمية حديثة أجريت على 40 مريضاً عانوا تلفاً في الدماغ نتيجة حدوث نوبات صغيرة من السكتة الدماغية لهم، وحصل 25 مريضاً منهم بشكل عشوائي على أقراص تحتوي على الجنسنغ ثلاث مرات كل يوم، وأعطي المرضى الخمسة عشر الباقون العقار دوكسيل Duxil الذي يفيد في زيادة حجم غاز الاكسجين الذين يصل إلى خلايا الدماغ، وينتشر استعماله في علاج مرضى السكتة الدماغية في الصين – لكن لا يسمح باستعماله في الولايات المتحدة – وأجري لكلتا المجموعتين من هؤلاء المرضى اختبارات في مهارات الذاكرة لعقولهم كانت على شكل قياس قدرة المريض على ترديد مجموعة من الكلمات أو أرقام، كما اختبرت ذاكرتهم البصرية، واختبرت مهارات ذكاء المرضى قبل حصولهم على العلاج، ثمّ بعد مرور 12 أسبوعاً من تعاطيهم هذين النوعين من العلاج، ولاحظ الباحثون تحسنا في جميع مناطق الذاكرة في المرضى بعد حصولهم على الجنسنغ بالمقارنة بما قبله، وكان هذا التحسن أفضل بعد حصول المرضى على عقار دوكسيل، وهي نتائج مبشرة تظهر فوائد بعض ممارسات الطب التقليدي أكثر من بعض الأدوية في علاج بعض الأمراض، لكن هناك ضرورة إجراء المزيد من الدراسات العلمية على نطاق أوسع على المستحضرات النباتية للجنسنغ لتأكيد هذه الفائدة أو نفيها.   -        نصائح غذائية: يفيد في تحسين عمل دماغ الإنسان وقيامه بوظائفه الحيوية بشكل جيِّد خلال حياته اليومية اتباع بعض النصائح الغذائية وهي تشمل ما يلي: ·       ضرورة تناول وجبة إفطار متزنة في مكوناتها الغذائية كل يوم، وهي تشمل مصدراً للحبوب الكاملة كالخبز الأسمر أو رقائق الذرة (كورن فليكس) مع كأس من الحليب خال من الدسم وثمرة فاكهة كالبرتقال. ·       تناول القليل من المشروبات المنبهة للأعصاب المحتوية على مركب الكافيين وعدم الإفراط في كميات ما يؤخذ منها. ·       الحصول على كمية وفيرة مما يسمى الأغذية الذكية Smart foods في الطعام اليومي، وهي تتصف باحتوائها على العناصر الغذائية كالبروتين والفيتامينات والأملاح المعدنية التي يحتاج إليها الجسم لأداء وظائفه الحيوية بشكل جيّد، وهي تشمل اللحم الأحمر وبذور البقول الجافة المطبوخة والخضراوات الورقية الخضراء والداكنة والمشمش والحليب ولبن الزبادي قليل الدسم والحبوب الكاملة كالقمح والشوفان والأغذية البحرية وعصائر الفواكه الطبيعية.►   *استشاري تغذية   المصدر: (مجلة العربي/ العدد 554 لسنة 2005م)

ارسال التعليق

Top