◄(.. فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 43).
خلق الله سبحانه الإنسان مفطوراً على التفكير وطلب العلم والكمال: (خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 3-4)، وقد افتتح ربنا الكريم كتابه المجيد بالعلم والقراءة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5)، فقد ذكر سبحانه أوّل حال للإنسان وهو كونه علقة وهي أخسّ الأشياء، ثمّ ذكر آخر حاله وهو صيرورته عالماً وهي أجل المراتب في الدرجة العالية التي هي الغاية في الشرف والكرامة.
بل لقد جعل سبحانه العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم في قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق/ 12).
والعلم ميزان الخشية والعبادة (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، أي يعرفون كما في الخبر الشريف. والعلم خزائن ومفاتحه السؤال، والسؤال رابط بين السائل والمسؤول.. فماذا عن السؤال لطلب العلم؟
السؤال.. مفتاح العلوم:
لقد حثّ الإسلام على طلب العلم، واهتم بالعمل به غاية الاهتمام ولنا من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة مئات الشواهد المبيّنة لأهمية العلم وطلبه ولآداب التعلّم (للمعلم والمتعلّم) ولأنفع العلوم وأضرّها وغير ذلك..
ولا علم إلا بالتعلّم ولا تعلّم إلا بالسؤال: فلماذا نسأل؟ وماذا نسأل؟ وبأي مقدار نسأل؟ وما قيمة السؤال؟ وما هي آداب السائل والمسؤول؟ وممن نسأل؟
إننّا أُمرنا بطلب العلم الذي في الصدور والقلوب، والعلم ليس بكثرة التعلّم، إنما العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء، ذلك القلب الذي يكون حرم الله وعرشه، بتهذيبه وصفائه وتخليته من الصفات الذميمة، وتحليته بالصفات الحميدة يزكّي نفس السائل المتعلم.. ولذا يُؤخذ العلم من أفواه الرجال ومن صدورهم (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت/ 49)، ومن قلوبهم وعقولهم، فإنّ الكلام إذا خرج من القلب دخل في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ (ع): "القلوب أقفال، ومفاتيحها السؤال".
وكتأكيد على أهمية السؤال وقيمته يُنقل عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) قوله: "العلم خزائن ومفاتحها السؤال، فاسألوا يرحمكم الله فإنّه يؤجر فيه أربعة: السائل والمعلم والمستمع (والسامع) والمحبّ لهم"، كما ينقل عن الإمام الصادق (ع): "العلم خزائن ومفاتيحه السؤال، فاسألوا رحمكم الله فإنّه يؤجر أربعة: السائل والمتكلم والمستمع والمحب لهم". وقال (ع): "هلك كثير من الناس بتركهم السؤال".
وزيادة في الفائدة يُنقل أن امرأة حضرت عند الصِّدِّيقة الزهراء (ع) فقالت: "إن لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها عن ذلك، فثنّت فأجابت، ثمّ ثلّثت فأجابت، إلى أن عشّرت فأجابت، ثمّ خجلت من الكثرة وقالت: لا أشقّ عليك يا بنت رسول الله، قالت فاطمة (ع): هاتي سلي عما بدا لك، أرأيتِ من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه مائة ألف دينار أيثقل عليه ذلك؟ فقالت: لا، فقالت: أكريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى ألا يثقل عليّ، سمعت أبي (ص) يقول: إنّ علماء شيعتنا يُحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور".
فطلباً للعلم ولكي لا نهلك علينا أن نسأل..
نوع السؤال ومقداره:
ورد في الخبر الشريف: "سل عن أمور دينك حتى يقال عنك مجنون"، وهذا كناية عن كثرة السؤال. وقد قال أمير المؤمنين (ع): "سل عما لابدّ لك من علمه ولا تعذر في جهله": أي العلم الذي ينفع مَن عَلِمهُ ويضرّ مَن جَهِله، وهو علم العقائد الصحيحة والفقه السليم والأخلاق الطيبة.
كما روي عن أمير المؤمنين (ع) قوه: "أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإن طلب العلم أوجب من طلب المال..." إلى أن يقول: "... والعلم مخزون عند أهله وقد أُمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه". أما الصادق (ع) فقد روي عنه قوله: "عليكم بالتفقه في دين الله تعالى ولا تكونوا أعراباً (أي لا تكونوا كالأعراب جاهلين بالدين غير متعلمين، غافلين عن أحكامه، معرضين عنها وعن تعلمها) فإن من لم يتفقه في دين الله تعالى لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً".
وقد ورد أيضاً: "فلا تزهد في مراجعة الجهل وإن كنت قد شهرت بخلافه" و"السؤال نصف العلم".
ولكن هل على الإنسان أن يسأل لمجرد السؤال فيسأل ما يشاء كيف يشاء دون هدف سام من سؤاله؟ قال تعالى في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ...) (المائدة/ 101)، وقال سبحانه: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ...) (البقرة/ 108)، وقال عزّ من قائل: (.. فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ...) (هود/ 46-47). لأنّ الله سكت عن أشياء فاسكتوا عنها كما في الخبر: "وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها". فكأن هناك أموراً لابدّ أن تبقى مخزونة محفوظة لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم.
وفي هذا السياق يذكر أنّ رسول الله (ص) خطب فقال: "إنّ الله كتب عليكم الحج"، فقام عكاشة بن محصن ويروى سراقة بن مالك فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله (ص): "ويحك وما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلتُ: نعم، لوجبت، ولو وجبت، ما استطعتم، ولو تركتم، لكفرتُم. فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه".
والكليني بإسناده نقل أنّه جاء رجل إلى عليّ بن الحسين (ع) فسأله عن مسائل فأجاب، ثمّ عاد ليسأل عن مثلها فقال عليّ بن الحسين (ع): "مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لا تعلمون، ولمّا تعملوا بها علمتم، فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفراً، ولم يزدد من الله إلا بعداً" فعليه إنما نسأل لنعلم، وإنما نعلم لنعمل، ولابدّ من الإخلاص في العمل، والمخلصون على خطر عظيم..
آداب السائل والمسؤول والسؤال:
عن أمير المؤمنين عليّ (ع): "من أحسن السؤال علم، من علم أحسن السؤال".
وقال (ع): إذا سألت فسل تفقّهاً، ولا تسأل تعنّتاً، فإنّ الجاهل المتعلّم شبيه بالعالم، وإنّ العالم المتعسّف شبيه بالجاهل".
وقال (ع): "إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، لا تعنّته في الجواب ولا تلحّ عليه إذا كسل، ولا تأخذه بثوبه إذا نهض، ولا تفشِ له سراً، ولا تغتابنّ عنده أحداً، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقّره وتعظّمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته".
يسأل المرء إذا أذن له، فإنّ السؤال عمّا لم يبلغ رتبته إلى فهمه، لا يمدح عقباه، ولمثل هذا منع الخضر موسى (ع) عن السؤال قبل أوانه.
وأما المسؤول فقد قال في حقه أمير المؤمنين (ع): "لا يستحي العالم إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا علم له به".
وعن الصادق (ع): "من أجاب في كل ما يُسأل عنه لمجنون".
"ومن ترك قول: لا أدري أُصيب مقاتله، وقول لا أعلم، نصف العلم".
وعن قاسم بن محمد بن أبي بكر – أحد فقهاء المدينة المتفق على علمه وفقهه بين المسلمين – أنّه سُئل عن شيء فقال: لا أحسنه، فقال السائل: إني جئت إليك لا أعرف غيْرك! فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي ألزمها!، فقال: فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم!، فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحبّ إليّ أن أتكلّم بما لا علم لي به"!!.
ومن وصايا النبي (ص) لأبي ذر الغفاري (رض): "يا أبا ذر إذا سُئلت عن علم لا تعلمه فقل: لا أعلم تنج من تبعته، ولا تَفْتِ بما لا علم لك به تنج من عذاب الله يوم القيامة".
وعن الصادق (ع): "إذا سُئل الرجل منكم عمّا لا يعلم فليقل: لا أدري، ولا يقل: الله أعلم، فيوقع في قلب صاحبه شكّاً، وإذا قال المسؤول: لا أدري فلا يتّهمه السائل".
فمن الأدب:
1- حسن السؤال وحسن الجواب.
2- السؤال للتفهم والعمل، لا للتعنّت والإعجاز والأذى والاستهانة.
3- لا تكثر السؤال إلا إذا أُذن لك.
4- لكل مقام مقال وإنما يسأل في أوانه.
5- لا يخجل من لا يدري أن يقول: لا أعلم، فإنّ لا أدري نصف العلم.
هذا بعض ما يستنبط من الروايات الشريفة التي مرّت، وهناك آداب أخرى ذكرها العلماء في كتبهم القيّمة، فراجع في مضانّه.
وأخيراً: إلى من نرجع في أسئلتنا؟ وممّن نسأل؟ إنما نرجع إلى أهل الخبرة، ويسأل في كل فنّ أهله، وفي كل علم أصحابه، وربنا الله العالم بكل شيء سبحانه تعالى، أمرنا في كتابه الذي لا يأتيه الباطل وفيه فرقان كل شيء هدى للمتقين ورحمة للمؤمنين، أن نسأل فيما لا نعلم أهل الذكر في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 43).►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
مشاعل ناصر
المقال جدًا رائع استفدت منه كثيرًا بارك الله فيكم .