من الحقائق الثابتة التي ذكرها الله في كتابه الكريم هي ليلة القدر التي نزلت سورة كاملة فيها باسم سورة القدر (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ). وهي ليلة عظيمة يكتب فيها لكلّ إنسان قدره السنوي وما يجري عليه من أحداث الخير والشر إلى مثل هذه الليلة من العام الذي يليه. والمراد بالقدر هو المقدرات الإلهية للإنسان التي تتجاوز إرادة الإنسان وتمضي به في المسار الذي أراده الله له والذي عبّر عنه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: (القَدَرُ نظام التّوحيد، فمن وحَّد الله وآمَنَ بالقَدَرِ استَمسَكَ بالعُروَةِ الوُثقى. وما قال فيه أمير المؤمنين (ع): القَدَرُ سِرٌّ من سِرِّ اللهِ، وسِترٌ من سِترِ الله، وحِرزٌ من حِرزِ الله، مَرفوعٌ في حجاب الله، مَطويٌّ عن خَلقِ اللهِ. وقد أوضح بعض معالمه الإمام زين العابدين عندما سأله رجل عن عمل الإنسان وعلاقته بالقدر فقال (ع): إنّ القَدَر والعَمَلَ بمنزلة الرُّوح والجسد، فالرُّوحُ بغير جَسَدٍ لا تُحسُّ، والجسدُ بغير روحٍ صُورةٌ لا حراك بها، فإذا اجتمعا قويا وصَلُحا، كذلك العمل والقدر شيئاً لا يُحَسُّ، ولو لم يكن العمل بموافقةٍ من القدر لم يمض ولم يَتِمَّ، ولكنُّهما باجتماعِهِما قويا، ولله فيه العَونُ لعبادِهِ الصالحين. فالمقادير في نهايتها كلّها تعود لله ولكنّه أعطى جزءاً منها للإنسان ليتصرف فيه بإرادته واختياره بدون قهر أو جبر (وهو في ذلك ضمن إرادة الله ولا يخرج عنها) وأبقى الجز الآخر لإرادته الإلهية المباشرة، سواء اتصف التقدير الإلهي بالتوفيق والتيسير والألطاف الإلهية لعبده أو بالصدّ والمنع والعقوبات الإلهية، فإنّ قدر الله هو الغالب والمهيمن على الإنسان، مع إنّ بعض هذه الألطاف أو العقوبات ترتبط في جزء منها بعمل الإنسان وانعكاسه غير المباشر عليه أو على بعض أمور الحياة عموماً. عن أمير المؤمنين (ع) قال: الأمرُ بالطّاعَةِ، والنَّهيُ عن المعصية، والتَّمكينُ من فعل الحَسَنَةِ وترك المعصية، والمعونَةُ على القُربَةِ إليه، والخِذلانُ لمن عَصاهُ، والوَعدُ والوَعيدُ، والتَّرغيبُ والتَّرهيب، كُلُّ ذلك قضاءُ اللهِ في أفعالِنا وقَدَرُهُ لأعمالِنا. ولهذا كان الحث لأهل الإيمان على الاستفادة العظمى من ليلة القدر باعتبارها ليلة تثبيت المقادير السنوية حيث يكون تقادير الإنسان لمدة سنة قد حسمت في ليلة القدر كما في الحديث عن الإمام الباقر (ع) عندما سأله أحدهم عن قول الله عزّ وجلّ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (الدخان/ 3): قال: نعم، هي ليلة القدرِ، وهي من كلِّ سَنَةٍ في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر، قال اللهُ عزّ وجلّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان/ 4)، قال (ع): يُقدَّرُ في ليلة القدر كُلُّ شيءٍ يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل (أي السنة القادمة) من خيرٍ أو شرٍّ، أو طاعة أو معصيةٍ، أو مولودٍ أو أجلٍ أو رزقٍ، فما قُدِّر في تلك الليلة وقُضي فهو من المحتومِ وللهِ فيه المَشيئةُ. فقيل له (ليلة القدر خيرٌ من ألفِ شهرٍ) أيُّ شيءٍ عنى بها؟ قال: العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير، خيرٌ من العمل في ألف شهرٍ ليس فيها ليلةُ القدر، ولولا ما يُضاعف الله للمؤمنين ما بلغوا ولكنه الله عزّ وجلّ يُضاعِفُ لهم الحسنات.
ورغم أنّ الله قد أخبر عباده أنّ ليلة القدر هي في شهر رمضان وفي العشر الأواخر منه ولكنه أخفى وقت ليلتها عنهم وذلك لكي يتسابق العباد إليها ويجتهدوا في الحصول عليها والفوز بها، علماً بأنّ التوفيق لهذه الليلة يتأثر كثيراً بأعمال العباد في شهر رمضان خاصة. عن الإمام الصادق (ع) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا دَخَلَ العشرُ الأواخِرُ شَدَّ المِئزَرَ واجتَنَبَ النِّساء وأحيا اللَّيل وتفرَّغَ للعبادة. وعن أحد أصحاب الإمام الصادق سأله عن قوله تعالى: (إنّا أنزلناه في ليلة القدر) فقال (ع): نَعَم، هي ليلة القدرِ، وهي في كُلِّ سنةٍ في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر، قال الله عزّ وجلّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي يُقدَّر في ليلة القدر كلّ شيءٍ يكون في تلك السنة إلى مثلِها من قابِلٍ من خيرٍ وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ ومولودٍ وأجلٍ ورزقٍ.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق