◄الإيمان الفطري:
يحتاج الإنسان من أجل بقائه إلى كَمٍّ من الأشياء التي يسعى للحصول عليها وتحقيقِ كفايَتِهِ منها. ويَصعُبُ علينا تماماً أن نضعَ قائمةً محدّدةً بما يحتاجه الكائن البشري ليبقى على قيد الحياة.
ولقد درجَ الكثيرون على تقسيم هذه الحاجيات إلى قسمين: حاجاتٍ مادية كالأكل والشرب واللباس، وحاجاتٍ معنوية كالنوم والراحة والتعليم.
ولا شكّ أنّ الناسَ لا يحقِّقون كفاياتهم من الحاجيات المتنوعة بنفس القدر؛ فبعضُهم يَطغى عليه الجانب المادي، وبعضُهم يميلُ إلى الجانب المعنوي.
لقد كانت ولا تزال قضيةُ الدين تُعتبرُ من أبرز حاجيات الإنسان على امتداد الزمان والمكان. ويحدّثنا علماء الاجتماع الذين عُنوا بدراسة المجتمعات البشرية أنّهم وَجَدُوا جماعات بشرية بلا مدارس ولا كهرباء وبلا مستوصفات، ولكنهم لم يجدوا مجتمعاً بلا دينٍ بأيّ صورةٍ من صُوَرِ التديُّن. وهذا يؤكد حقيقةَ أنّ الدين ليس حاجةً مدنيةً أو حضاريةً بل هو حاجةٌ إنسانية. فالإنسان، كلُّ إنسانٍ، يحتاجُ إلى الدين سواء كان هذا الإنسان في أوائل سُلَّم الرُّقيِّ أو في نهاية التقدّم الحضاري. كما قال تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرّوم/ 30).
ولئن كان الكثيرون لم يَصِلوا إلى الدين الحقّ فلذلك أسبابُهُ ودوافعُهُ، ويأتي المجتمعُ بكلّ أفراده في مقدّمة المؤثرات التي تُوجِّهُ الفردَ نحو الخطأ والصواب.
إنّ الفرد الذي عاش في مجتمع وثني لا يتحمّلُ وحده عِبءَ الشِّرك الذي نشأ عليه، وتشرَّبَ سُمَّهُ. فإنّ القيم والمبادئ والمفاهيم تنغرس تلقائياً في نفس الناشئ من خلال ما يراه ويسمَعُهُ ويلمُسُهُ من حوله؛ فإن كان المجتمع مستقيماً استقام، وإن كان منحرفاً انحرف. وهذا لا يعني أنّ الفرد ينشأُ بلا موقفٍ ولا رأي؛ بل لو تُرِكَ الإنسان وشأنه وعاش حراً مستنيراً لوصل به التفكير الحر إلى الدين الصحيح. وإنّ الإنحراف الفكري الذي يتخبّطُ فيه المنحرف يقعُ القسم الأكبر منه على عاتق من أنشأه وأفسَدَه.
هذه الحقيقة عن النفس الإنسانية والأثر الاجتماعي عليها يقرِّره لنا رسول الله (ص) في حديثه الشريف التالي: "كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواهُ يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه".
دور الرسل في موضوع الإيمان:
وهنا يبرز سؤالٌ: إذا كان الدينُ حاجة فطرية فما الحاجة إلى الرسل؟ وذلك أنّ الإنسان لديه دافعٌ ذاتي يحثُّهُ على تحقيق حاجاته الفطرية دون أن توجَّه له دعوةٌ لذلك، بل ربما لجأ إلى أعنَفِ الوسائل وأخطرها في سبيل تحقيقها؛ فما الحاجةُ حينئذٍ إلى الرسل؟..
إنّ الحاجة إلى الرسل ليست في سبيل زرع بذور الإيمان في نفوس الأتباع، فإنّ هذه البذور زُرِعَت بالفطرة في نفوسهم. وإنما ينحصر دور الرسل في تعهدها وتنميتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة أي أنّ دور الرسل في مسألة الإيمان هو توجيه القلوب والعقول للإيمان بالله تعالى وحده، ونبذُ الشِّرك، وطرح العقائد الفاسدة، والثبات على الجادة المستقيمة التي غُرِسَت في باطن البشر. نلحظ ذلك المعنى في أمثال قول الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف/ 172).
ولا صحةَ إطلاقاً بأنّ الدين مظهرٌ كماليّ ودليلٌ على التّرف الفكريّ الذي يصيبُ المجتمعات المُتخمة، لا تحتاجه النفوس الشابة والشعوب الفتية.
وليس على طرفٍ من الصواب إطلاقاً من يطلبُ على الإيمان دليلاً بل لو تجرّد هذا الإنسان من هَواه ورجع إلى نفسه التي خلقها الله تعالى صافيةً نقيّةً طاهرة؛ لوجد الإيمان يشعُّ منها نوراً وضياءً ويقيناً.
الدين يجيب على الأسئلة الملحة:
لئن كان الإنسان يسعى حثيثاً لتحقيق حاجاته الفطرية لأنّه يرى أنّ حياته يهدّدها الخطر إن لم تُحقَّق، ويشعرُ بالرضى والسرور أن أُشبِعَت فهنا يبرزُ السؤال التالي: ماذا يحقّق الدين من منافع للإنسان؟..
الدين يحقّقُ للإنسان منافعَ عديدةً، ويأتي في مقدّمة ذلك الإجابة على أسئلةٍ هامة؛ وتفصيل ذلك أنّ الإنسان كائنٌ مُفكِّر، فالتفكير سِمَةٌ إنسانيةٌ لا ينفكَ عنها. ويرتقي الإنسان بمقدار ما يفكِّر. ويحيطُ بالإنسان كَمٌّ لا يُحصى من الظواهر والأشياء التي تَستَدعي تفكيرَهُ، وتدعوه إلى التأمل.
وثمةَ أمورٌ مرتبطةٌ بالبيئة زماناً ومكاناً وحالاً تستدعي البحث والدراسة. ولكن توجد أمورٌ مشتركةٌ بين سائر الناس تستدعي انتباهَهُم، وتدعوهم إلى دراستها والتعرف إليها.
والأسئلة التي تدورُ حول وجودِ الإنسان ووظيفتِهِ في هذا الوجود تكاد تكون الأكثر أهميةً وإلحاحاً. بل إننا ما أن نتلمّس من الفتى بوادَر النظر والتفكير حتى نراه يُمطِرُنا بالأسئلة التالية: لماذا خُلِقنا؟ لماذا فلانٌ ذكراً وفلانةٌ أنثى؟ لماذا يُصاب بعض الناس بالمرض ويتعافى البعض؟ لماذا يكون البعضُ فقراءَ بؤساءَ والآخرون أغنياء وسعداء؟..
فيأتي الدين هنا ليُجيبَ الجوابَ الكافي عن كلِّ سؤال، وليحدِّدَ للفرد دوره في الحياة، ويرسم له آليّات تنفيذ هذا الدور بيُسرٍ وسهولة مجنّباً إياه كلّ عناءٍ، محذّراً إياه من كلّ سبيلٍ خاطىءٍ يصرفه عن الهدف المطلوب.
وإذا ما عرف المرء دوره في هذه الحياة، وتعلّم كيف يقوم به، وأدرك أبعاده ومراميه وإلى أين مآله؛ اندفع للقيام بواجبه بكلّ رضىً وثقة وأملٍ، متفتحٌ للحياة بحيث يجد في نفسه حافزاً ذاتياً للعمل، مُستعذِباً كلّ جهدٍ في هذا السبيل.
وإذا لم يدرك المرءُ في هذه الحياة عاشَ نهباً للوساوس والهواجس، تلحُّ عليه فطرتُهُ ليحدِّدَ دوره؛ فلا يجد جواباً فيسلّي نفسه بالعَبِّ من مُتَعِ الحياة وشهواتها، يحسبُ أنّه يجد العلاج في هذا السبيل. ثمّ لا يلبث أن يشعر أنّه لم يهدأ ولم يرضَ فيظنُّ أن عدم شعوره بالرضى والسعادة سببُهُما أنّه لم يَنَلْ كفايَتَهُ من اللذات فيكثِرُ منها ليجد نفسه في حالةٍ أسوأ من الأولى.
طريق معرفة الدين:
تشكّل حواسُّ الإنسان منافذ هامةً للمعرفة. وعلى قدر صلاحها وإجادة استعمالها تكون صحة المعلومات الواردة إلى الدماغ. ويشعر الإنسان بالأسى والحزن عند ضعفِ إحدى هذه الوسائل أو تعطُّلها عن العمل لأنّه يفقدُ بها طريقاً يصلُهُ بالعالم ومنفذاً هاماً للمعرفة.
وهذه الحواس – مع صحتها وسلامة أدائها – نلحظُ أنّ لها حدوداً وإمكانيات لا تستطيع أن تتخطّاها. فهي أسيرةُ طاقاتها، فيلجأ الإنسان إلى العقل والتفكير ليستكمل نقص المعلومات، وليستثمرها بما يعود عليه بالنفع. لكن العقل كذلك له حدودٌ لا يمكنه أن يتجاوزَها؛ فكم من معضلةٍ عجز العقل عن حلِّها أو فهمها واستيعابها، فكيف يستطيع أن يحلّ كلَّ قضايا الكون؟..
من هنا كان التسليمُ بعجز العقل والإقرارُ بحدوده وإمكاناته. فكان لابدّ من وسيلةٍ أخرى تَخرُجُ عن حدود الإنسان وحواسه وتفكيره لتبيِّن له ما يستحيلُ عليه أن يفهمه ويدركه فكانت الحاجة الماسة إلى الوحي الإلهي. قال الله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم/ 2-3).
وإذا كان العقل البشري عاجزاً فطرة عن معرفة الغيب وما يفوق تصوّره وقدراته لكنه يستطيع أن يفهمه ويتقبله ويدرك صوابه فكانت مهمة العقل تجاه الدين فهمه وقبوله والرضى والتسليم به.
وتمثل الشريعة جانباً هاماً من الدين لكنها تلي العقيدة أهمية ولئن كان معظم الناس يعطي العقيدة ما تستحق من أهمية من خلال رد كلّ ما يتعلق بها إلى الوحي الإلهي المتمثل في الكتاب والسنة إلا أنّ البعض قد يستهين بأمر الشريعة ونعني بها هنا أحكام العبادات والمعاملات فيجعل العقل حكماً عليها.
ولعل الأمر يلتبس على هؤلاء من الأهمية التي أولاها الإسلام للعقل تجاه الشريعة فإنّ الإسلام جعل وجود العقل سبباً للتكليف ولكن لم يجعله مشرِّعاً للتكاليف.
إنّ الشريعة بمجملها تمثل جملة الأوامر والنواهي التي أمر الله تعالى بها عباده يتعبدوه بها ومعنى يتعبدونه بها أنّهم ينفذونها برضى وطواعية رغبة في ثوابه ورهباً من عقابه باعتبار حقّه عليهم أنّه ربهم وأنّهم عباده فهم يتقربون بها إليه والإنسان يتقرب إلى من يحب بما يُرضي المحبوب لا بما يُرضي المُحِبّ.
ومن الظلم أن نكلف العقل ليكون حكماً أو قاضياً على الشريعة يثبت ما يشاء وينفي ما يشاء؛ فإنّ ذلك وَضعٌ للأمور في غير مواضعها ويؤول بالإنسان آخراً إلى تغليب الهوى على العقل كما حدثنا ربنا تبارك وتعالى عن بني إسرائيل قال عزّ وجلّ:
(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة/ 85). ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق