.. تعود بي الذاكرة إلى أيام الطفولة, يوم كان بيتنا مواجهاً للمقبرة, وكنّا نتّخذ من القبور مسرحاً للعبة التخفّي, متناسين كلّ حكايات الرعب وأقاصيص الخوف التي كانت تلقى على مسامعنا لإجبارنا على الطّاعة تارة, وعلى النّوم المبكّر تارة أخرى .
كنّا نجاور الأموات متصالحين معهم, يحكم بيننا وبينهم حسن الجوار, فلا نحن نزعجهم بصخبنا الدائم, ولا هم يتعرضون لنا بأذيّة.
ورغم الحقيقة الماثلة أمام أعيننا, وجرأة الطفولة المتحفّزة, فلا ننكر وقع مخاوف شاءت البيئة المشبعة بالخرافة أن تحتفرها في أذهاننا الطريّة ..
كانت قريتنا كجاراتها من القرى الفقيرة, تسكنها العتمة عند الغروب, وكلما اشتدّ سكّين الليل في كبد السماء, خيَم الأسود الممزوج بالخوف والرهبة على العقول, وتفتّقت قريحة الوهم عن أساطير وأقاويل تنصت لها الآذان وتذعن لها النفوس دون نقاش أو اعتراض ..
أذكر كثيراً من إفرازات العتمة في قريتنا, ولعلّ أكثر ما استحضره حتى اللحظة هو نجم نجوم الرّعب المسمّى "بالجنّ"..
ذلك المخلوق الآتي إلينا من عالمه الناريّ ليقتحم حياتنا, فينشر غسيله الأبيض على سطوحنا, ويقيم أعراسه في البيوت المهجورة والمقفرة, وربما قادته الوقاحة وضعفنا إلى احتلال أجسامنا واعتقال عقولنا. فنرى صنيع شروره ببعض ضحاياه من المصروعين, ونتلمّس خبث سريرته وقد فصم عرى الوئام ما بين الزّوج وزوجته, وقطع حبال الوصال ما بين الأخ وأخيه.
ولم يكتفِ الجنّ المستبدّ بما قدّمت يداه من خراب, وإنما قاده جموحه إلى اختطاف العروس ليلة عرسها والتزوّج بها رغماً عن بني البشر, وقد اتّخذ من جسمها العليل مسكناً لروحه الشريرة, ولم تنفع معه كلّ التعاويذ والقراءات الجليلة, ولم يرعوِ بالضرب المبرّح ليخرج من الجسم الطريح أمام الجلادينَ من قرنائه الإنس !..
سنون مضت و"الجنّ" يحتلّ مساحات شاسعة من المخيّلة الشعبيّة, ويتصدّر قائمة المتّهمين بحوادث وعلل حلّت بنا آثارها وخفيت عنا أسبابها. ورغم وصول الكهرباء وتبدّد العتمة في الشوارع والبيوت, رغم انبعاث الضّوء من بطون الكتب, وانقشاع السّحاب عن وجه الشّمس, بقي الجنّ حبيس أذهان الكثيرين من المتخمين بالوهم, وما زلنا نسمع من هنا وهناك حكايات المسّ والتلبّس, والعلاج بالبخور, وتوسّل الجنّ لاستعلام الغيب, ونفخ الرّوح في الرّحم العاقر..
ولأننا عرفنا اليوم أمراض الصّرع, والفصام, واضطراب الكيان التفكّكي, والاضطراب التحوّلي, وغيرها من الاعتلالات الذهنية والنفسية, ولأننا اهتدينا الطريق إلى معرفة أسباب الكثير من الظواهر
الطبيعية والأنفسية, وأدركنا من خلال الدّين المسافة الفاصلة بين عالمي الإنس والجنّ, ولأننا نريد استنهاض مجتمعاتنا بالعلم, وتوريث الأبناء أمجاد الآباء, ولأننا نريد إنصاف الجنّ من أنفسنا, ونعتذر عمّا سقناه ضدّه من تهم جزاف .. فإنّنا أمام محكمة الله والإنسان نعلن براءته !!...
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق