◄تسمى عمليات التفاعل الإجتماعي التي تحدث للفرد مع المحيطين به في الأسرة، وغيرها من المؤسسات الإجتماعية بالتنشئة الإجتماعية، وعبر الوقت تتراكم تأثيرات التفاعل الإجتماعي، فالأدوار التي يقوم بها الفرد، والإتجاهات والقيم التي تنقلها له أسرته والمهارات الإجتماعية التي تنميها تسهم كلها في تشكيل شخصيته في الكبر، ويتكسب الفرد من خلال التنشئة الإجتماعية ضغوط حياة الجماعة وإلتزاماتها، ويتعلم كيف يتعامل معها، وكيف يتصرف مثل الآخرين الذين هم في جماعته الثقافية، ومن ثمّ يتحوّل الطفل البشري من كائن بيولوجي (يأكل ويشرب وينام فقط) إلى كائن إجتماعي يعرف كيف يتعامل مع الآخرين، ومن ثمّ تكون التنشئة الإجتماعية عملية يتم بمقتضاها تلقين الفرد وتعليمه قيم المجتمع ومعاييره، وهي كيفية نقل المجتمع لثقافته من جيل إلى جيل، في مواقف إجتماعية داخل الأسرة والمدرسة وجماعة اللعب، وغيرها...
وتأثر الفرد بثقافة مجتمعه لا يتم بصورة مجردة، ولكن يتم من خلال المعايشة والتعامل المستمر معها، وإذا كانت مرحلة المراهقة هي مرحلة القدرة على فهم العلاقات الإجتماعية المجردة وإدراكها ضمن نسق القيم الديمقراطية، فإن مفهوم الحرية من المفاهيم التي لا ندرك أبعاده إلا في مرحلة الرشد، غير أن هذا المفهوم له جذوره التي تعود إلى مرحلة الطفولة والنشأة؛ لأنّه من المفاهيم التي تعتمد أساساً على النمو المعرفي للفرد؛ ولأنّ السلوك الديمقراطي له جذوره الإجتماعية في القيم والمفاهيم التي تسود المجتمع، والتي تنقلها مؤسساته كافة إلى الطفل في سياق إجتماعي، فإنّ الدراسة الحالية تسعى إلى التعرف على دور بعض هذه المؤسسات وبخاصة الأسرة والمدرسة في عمليات التنشئة الإجتماعية.
ويجمع علماء النفس على أنّ الخبرات المبكرة التي يخبرها الطفل في السنوات الأولى بعد ميلاده، تؤدي دوراً مهماً في تكوين شخصيته، وتشكيل سلوكه في الكبر، كما يرون أن هناك علاقة مباشرة وواضحة بين نمط رعاية الوالدين ومعاملتهم للأبناء (خلال عملية التنشئة الإجتماعية) وبين شخصية هؤلاء الأبناء، وتسهم الأسرة في تعليم الطفل اللغة والدين والتقاليد والعادات والقيم (ثقافة المجتمع) التي ينشأ عليها ويلتزم بها؛ لذا فإن هذه البيئة الإجتماعية التي يعيش فيها الطفل وخاصة الأسرة هي التي تهبه هويته البشرية، وتكسبه الجانب الإنساني فيه.
وقد ينمي التكوين الثقافى للطفل "شعوره بالتبعية والخضوع" ومن المعروف أن عدد سنين إعالة الأسرة للطفل في إزدياد، حتى ليبلغ اليوم ما يتجاوز الأعوام العشرين، يظل فيها الطفل والشاب تابعاً، وبالتالي خاضعاً على نحو أو آخر للأسرة أو للآخرين أو للمجتمع ككل، وهذه التبعية وهذه الخضوع يكونان (خلفية وجدانية) مناوئة بطبيعتها لتوجه الحرية، خاصة أنّ الخضوع والتبعية يخفضان من درجة المسؤولية، بينما سبيل الحرية هو سبيل الجهد والمخاطرة والمسؤولية"، وقد تتدخل الأسرة بشكل عام في شئون الأبناء، وفي إختباراتهم حرصاً على الصالح العام للأسرة، أو خوفاً على أبنائهم مما يحد من ممارسة الأبناء لحرياتهم وإختياراتهم ولهذا يشكو كثير من الأبناء من إنتقاد والديهم لتصرفاتهم، وأيضاً من عصبية الآباء والأُمّهات وتسلطهم، وتدخلهم في إختيارهم لأصدقائهم، وفي كثير من شؤونهم الخاصة، مما يؤدي إلى شيوع ما يسمى بظاهرة القهر والتسلط ويرجع البعض أسبابها إلى:
· سلطة الأسرة: حيث يتعرض الطفل منذ الصغر لتأثير الأم، وقد تكون جاهلة تحمل الخرافات والجهل، وتغرس فيهم التبعية من خلال الحب، فتشل عندهم كل رغبات الإستقلال، وتحيطهم بعالم من المخاوف، فينشأ الطفل إنفعالياً خرافياً عاجزاً عن التصدي للواقع من خلال الحس النقدي والتفكير العقلاني هذا بالإضافة إلى دور الأب وما يفرضه من قهر على الأسرة من خلال قانون التسلط والخضوع، فيغرس الخوف والطاعة في نفس الطفل ويحرم عليه الموقف النقدي مما يجري في محيط الأسرة، ويتعرض الطفل لسيل من الأوامر والنواهي باسم (التربية الخلقية)، وباسم معرفة مصلحته، وتحت شعار قصوره عن إدراك هذه المصلحة.
· الإطار الحياتي العام الذي يعيش فيه الطفل قبل سني المدرسة، والذي تتفشى فيه الأفكار البائدة، والممارسات الخرافية من أشباح وأرواح وعفاريت، وهذا المعيش الخرافي وما يستتبعه من ممارسات يحمله الطفل معه إلى المدرسة وتتفاقم المشكلة، لأنّ المدرسة لا تقتلع أو تنتزع هذه الأفكار والممارسات، بالإضافة إلى الكارثة إذا وقعالطفل تحت سيطرة معلم يمارس نفس نهج الأهل.
· التعليم التلقيني في المدرسة من أخطر الصور المناخية التي تشيع القهر وتدعمه، حيث ينحصر دور الطلاب في الحفظ والتذكر وإعادة ما سمعوه دون تدبر مضمونه، فهي إذن عملية ميكانيكية يتحول فيها الطالب إلى إناء يصب فيه المعلم كلماته، وكلما كان الملم قادراً على القيام بهذه المهمة كان ممتازاً، وكلما كانت الأواني قادرة على الإمتلاء كان ذلك دليلاً على إمتيازهم، وهكذا تحول التعليم من الإبداع إلى الإيداع، ولم يعد المعلم وسيلة، للمعرفة والإتصال، بل أصبح مصدراً للبيانات، ومودعاً للمعلومات، وما دام الطلاب يتعاملون مع العالم بهذه الطريقة السلبية، فإنّ هذا التعليم "يزيد من سلبيتهم، ويجعلهم أكثر تأقلماً مع الواقع الذي يعيشون فيه" وبهذا يحرمون من فرص الإبداع والإبتكار والتطوير.
وهكذا تمارس عمليات التلقين من خلال علاقة تسلطية تتمثل في سلطة الأسرة، وسلطة العالم المحيط (الكبار)، وسلطة المعلم والمدرسة، فهي سلطة لا تناقش حتى الأخطاء، وعلى الطالب أن يسمع ويطيع ويُمتثل. وقد أجريت دراسات عدة تشير إلى أنّ الصغار الذين تربوا ونشأوا في مجتمع تسلطي نسبياً هم أكثر إعتياداً وإرتباطاً بمناخ جماعة العمل التسلطية. مما يؤكد أنّه ليس من المهم أن يعامل الأفراد وهم كبار بديمقراطية، ولكن المهم أن ينشأ هؤلاء الأطفال في أُسر تعلمهم الديمقراطية، وتنشئهم عليها وتمارسها معهم حتى ينشأوا ملتزمين بالسلوك الديمقراطي، والذي يصبح جزءاً من شخصياتهم، وكما أجريت دراسة على طلبة المدارس الثانوية للتعرف على سلوكهم الديمقراطي في المدرسة، وعلاقة ذلك بتنشئتهم في أسرهم، وأوضحت نتائجها أنّ الأبناء الذين نشأوا في أسر ديمقراطية يميلون إلى التصرف بايجابية إزاء سلطة الوالدين أكثر من هؤلاء الذين أتوا من أسر متسلطة أو متسامحة، وهكذا يظهر أثر الأسرة من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية في السلوك الديمقراطي، وفي ممارسة الحرية لدى الأبناء، وبعد الأسرة سلعب المدرس والمدرسة دوراً مهماً في عمليات التنشئة الإجتماعية، وذلك عن طريق معاملة المدرس للطلاب في الفصول، وعن طريق مضمون المادة العلمية ومحتواها من جانب، ثمّ طبيعة نظام المدرسة من جانل آر، فالمدرسة وحدة اجتماعية لها مناخها التنظيمي الخاص الذي يساعد في تشكيل إحساس الطلاب بالفاعلية الشخصية.
والخلاصة، أنّ الطفل الذي ينشأ في أسرة أو في مدرسة أو في ثقافة تخلو من خصائص السلوك الديمقراطي ومن الحرية، يجب ألا نتوقع منه أن يسلك سلوكاً ديمقراطياً وهو راشد، ولا يمكن أن يكون حراً في تصرفاته، وهذا يؤكد أهمية أن يصبح السلوك الديمقراطي والحرية جزءاً من قيم واتجاهات الأفراد وثقافتهم، وأن يتعلموا هذه الثقافة في الأسرة والمدرسة وغيرها من المؤسسات.►
المصدر: كتاب (الحرية وتعليم المستقبل)
ارسال التعليق