• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

آداب الحج

آداب الحج

◄اعلم أيها الطالب للوصول إلى بيت الله الحرام، أنّ لله عزَّ وجلَّ بيوتاً مختلفة، فمنها هذه الكعبة الظاهرية، ومنها بيت المقدس، ومنها البيت المعمور، ومنها العرش إلى أن يصل الأمر إلى البيت الحقيقي وهو قلب المؤمن، الذي هو أعظم من كلّ هذه البيوت، ولا شك أنّ لكلّ بيتٍ من تلك البيوت مراسم وآداب، فالمهم أن نعرض هنا آداب زيارة الكعبة الظاهرية – غير ما ذكر في المناسك – وقد نشير إجمالاً إلى آداب الكعبة الحقيقية، فنقول:

اعلم أنّ الغرض من تشريع الحج، هو استيعاب هذه الحقيقة وهي أنّ الهدف من خلق الإنسان هو معرفة الله، والوصول إلى حبّه، والأنس به، ولا يمكن حصول هذين الأمرين إلّا بتصفية القلب، وهي بدورها لا تتمّ إلّا بكفّ النفس عن الشهوات والانقطاع عن الدنيا الدنية، وإيقاعها في المشاق من العبادات الظاهرية والباطنية، ولهذا لم يجعل الشارع العبادات على نسق واحد بل جعلها مختلفة متنوعة، إذ أن بكل عبادة من هذه العبادات تزول رذيلة من الرذائل، فبالصدقات والحقوق المالية ينقطع الميل إلى الحطام الدنيوي، وبالصوم تنقطع الشهوات النفسانية، وبالصلاة يتمّ النهي عن الفحشاء والمنكر، وهكذا سائر العبادات..

أما الحجّ فهو مَجمعٌ لهذه العناوين المتكثرة، إذ أنّه مشتملٌ على مشاق العبادات التي تفي كلّ واحدة منها بإزالة رذيلة من هذه الرذائل مثل: إنفاق المال الكثير، والانقطاع عن الأهل والأولاد والوطن، ومعاشرة النفوس الشريرة، وطي المنازل البعيدة، مع الابتلاء بالعطش في الحرّ الشديد، والقيام بأعمال غير مأنوسة لا يقبلها الطبع الأولي من الرمي والطواف والسعي والإحرام وغير ذلك.

كما أنّ في الحج فائدةً أخرى وهي تذكّر أحوال الآخرة، برؤية أصناف الخلق في صعيد واحد، على نهج واحد لاسيّما في الإحرام والوقوفين، وكذلك الوصول إلى محل الوحي ونزول الملائكة على الأنبياء، من لدن آدم إلى النبي الخاتم محمّد (ص)، والتشرّف بموضع أقدامهم الطاهرة، كل ذلك إلى جانب التشرّف بالحرم الإلهي الموجب لرقّة القلب، والمورث لصفاء النفس.

إنّ على العبد أن يعلم أنّ الإسلام – كما ورد – قد استبدل الرهبانية بالجهاد والحج.. وهو لا يصل إلى هذه الكرامة إلّا بملاحظة آداب ومراسم وهي:

الأولى: أن يجعل العبد عباداته كلها بنية صادقة، قاصداً امتثال أمر المولى فحسب، ليتحقق بذلك تلك العبادة كما أرادها الله تعالى.. فعلى الحاج – قبل الحج – أن يراجع نيته ويجعلها خالصة لمن يهمّ بزيارته، متحاشياً غير ذلك من المقاصد الباطلة:

كطلب الجاه، والتخلص من مذمّة الخلق بتفسيقهم له، أو حتى الخوف من الفقر – كما ورد من أن تارك الحج يُخشى عليه من الفقر – أو السعي للتجارة والسياحة في البلاد.. فلو التفت الحاج إلى بطلان قصده ونيته، لزمه إصلاح ذلك أوّلاً، والالتفات إلى قبح الورود على ساحة مالك الملك والملكوت، بهذه الحالة من الانصراف إلى مثل تلك الأمور السخيفة.. وهذا مما يوجب الخجل والوجل، لا العجب والغرور.

الثاني: أن يهيئ نفسه للمجالسة الروحانية، وذلك بالإتيان بتوبة جامعة كاملة بكل مقدماتها، كردّ الحقوق المالية: من الخمس والمظالم والكفارات.. أو غير المالية، كالاستحلال من الغيبة، والإيذاء، وهتك الأعراض، وسائر الجنايات بالتفصيل الذي ذُكر في محله.. وكذلك الاستحلال من والديه ومن هما مصدر وجوده.. ثمّ الوصية بمحضر الشهود من دون تضييق على الوصّي في كيفية صرف ثلث أمواله، لئلّا يوقع مسلماً في حرجٍ بعد وفاته.. وبعد هذا كله يوكل أمر أهله وعياله إلى الكفيل المتعال، فإنّه خير معين ونعم وكيل.

والحاصل أن على الحاج أن يقطع علائقه كلها، ليتوجه بعد ذلك بكلّه إلى الله، محتملاً بل مفترضاً عدم العود من سفره هذا إلى وطنه.. فيكون شأنه شأن من يحتمل الموت في كلّ لحظة من لحظات حياته.

الثالث: أن يتحاشى أسباب انشغال القلب في هذا السفر العظيم، لئلّا يذهل عن محبوبه في حركاته وسكناته، سواء كان سبب ذلك الذهول شخصاً أو مالاً.. ومن هنا لزم عليه أن لا يصطحب في سفره من يشغله عن همّه الأوحد.. ولهذا يحسن السفر مع من يغلب عليه الذكر، ليكون مذكّراً له في هذا السفر الإلهي، كلما غلب عليه الذهول عن الحق.

الرابع: السعي في أن تكون نفقة الحج من المال الحلال.. وأن يوسّع على نفسه وغيره في هذا الطريق، إذ أن درهماً يُنفقه في الحج – كما ورد – بسبعين درهماً.. فهذا الإمام السجّاد (ع) – وهو أزهد الزاهدين – كان يأخذ معه ما لذّ من الطعام..

ومما يترتّب على هذه المشاعر، أنّه لو فقد الحاج متاعاً في طريقه، أو سُرق منه شيء، فإنّه لا يغتنمّ لذلك، بل يدخل عليه الفرح والسرار، إذ قد عُوّضَ بما فَقَده أضعافاً مضاعفة في الديوان الأعلى، عند أكرم الأكرمين.

فلو أن عبداً تحمّل الأذى في زيارة سلطان من سلاطين الدنيا، لتدارك له ذلك السلطان ما فات منه بما أمكنه، ولاسيّما إذا دعاه لزيارته، فكيف ظنك بأقدر القادرين وأكرم الأكرمين؟!..

حاشا وكلا أن يقلّ كرم المولى الأعظم، عن كرم أهل البادية الذين نعهد فيهم ذلك.. نعوذ بالله تعالى من سوء الظن به.

الخامس: أن يُحسّن خُلقه مع رفقته حتى المكاري الذي يسوق دابته.. ويتجنّب الفحش من القول، فإن حسْن الخلق لا ينحصر في كفّ الأذى عن الغير، بل في تحمّل الأذى منه، بل في خفض الجناح لمن يؤذيه.

السادس: أن يسعى في قضاء حوائج من معه من المؤمنين، وتعليمهم أحكام الشريعة، والدعوة إلى المذهب الحقّ، وتعظيم الشعائر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

السابع: الابتعاد عن موجبات التجمّل والتكبّر، إذ أن ما أُمر به هو دخول الحرم الإلهي بذلّة وهو أشعث أغبر.. كما ورد في المناسك في باب الإحرام.

الثامن: أن لا يتحرّك من منزله إلّا وقد فوّض أمر نفسه وأهله ورفقته وما معه إلى الله تعالى، وأودع كلّ ذلك أمانة لدى الحفيظ العليم.. وهكذا يخرج من منزله متوكلاً عليه، متبرِّئاً من حوله وقوّته، فإنّه – جلّت عظمته – نعم الحفيظ، ونعم المولى ونعم النصير.

وهناك آداب أخرى مذكورة في المناسك، يحسن الالتزام بها ومنها الصدقة، فإنّه يشتري بها سلامة سفره.

وبعد ذلك كلّه، يتأمل في حقيقة أنّ هذا السفر هو السفر الجسمي إلى الله تعالى، وهناك سفر آخر روحي يتمثّل في الالتفات إلى أنّه لم يأت إلى هذه الدنيا للاستمتاع بملذّاتها، بل خُلِق لمعرفة ربّه وتكميل نفسه، ثمّ العمل بمقتضى هذا الالتفات.

وأخيراً نقول: كما أنّ لسفر الحج زاداً، وراحلة، ورفيقاً، وأمير حج، ودليلاً، فكذلك السفر الروحي، فإنّه يحتاج إلى مثل هذه الأمور.. فأما راحلته فهو بدنه، فلابدّ من رعايته باعتدال، فلا يُرخى له العنان ليستولي على صاحبه، ولا يضيّق عليه ليقعُد به الضعف عن المسير، بل خير الأمور أوسطها.

وأما زاده فأعماله الخارجية التي يُعبّر عنها بالتقوى، وهي في درجتها النازلة تستلزم العمل بالواجبات وترك المحرّمات، والإتيان بالمستحبّات والاجتناب عن المكروهات، وأما درجتها العالية فهو الاجتناب عمّا سوى الله تعالى، وبينهما متوسطات ينبغي الالتفات إليها.

فحاصل القول: إنّ كلّاً من فعل الواجبات وترك المحرّمات، بمثابة الزاد في كلّ منزل من منازل الآخرة.. ولو حُرم مثلُ هذا الزاد، وقع في المهالك العظيمة، نستجير بالله من هذه البلوى.. وأمّا الرفقة فهم المؤمنون الذين معه في الطريق إلى الله تعالى، وإليه يشير قوله تعالى:

(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2). فباتحاد القلوب ووحدة الهمم، تطير القلوب إلى المنازل البعيدة.

وعلى أي حالٍ، فإذا وصل الحاج إلى الميقات، فلينتزعْ ثيابه وليبلبس ثوبي الإحرام، وليكن قصده في ذلك خلعَ ثياب المعصية، ولبسَ ثياب الطاعة والعبودية.. وليتذكر أنّه كما دخل الحرم الإلهي عارياً عن متعارف الثياب، فإنّه كذلك يلقى ربّه بعد موته عريانَ وحيداً.

وأمّا عند تنظيف بدنه، فليستحضر لزوم تنظيف روحه من أدران المعاصي وأوساخها.. وأما عند عقد الإحرام فعليه أن ينوي عقد التوبة النصوحة، فيحرّم على نفسه – بعزمٍ وإرادةٍ – كلّ ما حرّم الله تعالى عليه أثناء الحج وبعده.

وأما عند التلبية، فعليه أن يلتفت إلى حقيقة ما يلبّي به، فمن جهة يقصد الالتزام بكل طاعة لله عزَّ وجلَّ، ومن جهة أخرى يعيش حالة الخائف المردد بين الرد والقبول، فهذا إمامنا زين العابدين عليّ بن الحسين (ع) يُغمى عليه عند التلبية، لخوفه من أن يُقال له: لا لبّيك ولا سعديك، وليتذكّر في هذه الحالة أيضاً صفة أهل الحشر، الذين هم بين مقبول ومطرود ومتحيّر.. وأما عند دخول الحرم فعليه أن يكون متردداً بين الخوف والرجاء، كمن دخل حمى الملك وهو مقصّر في حقّ ذلك الملك.. وعليه أن يستحضر شرف البيت العظيم من ناحية، وكرم صاحبه من ناحية أخرى، إذ دعاه إلى ضيافته الخاصة وهو أكرم الأكرمين. واعلم أنّه – عزّ اسمه – كان يحبّ أن يراك عند بيته ولو مرة واحدة.. وها قد وجدك عنده، فسله ما تريد، فإنّه أجلّ من أن يردّك في حاجة، وقد حللت في ساحة قدسه، وهذا مما لا يُظن في حق أسخياء العرب، فكيف بالجواد المطلق؟!.

أمّا إذا كان السائل جاهلاً بكيفية السؤال، أو عاجزاً عن حفظ العطية والنوال، فما هو تقصير الكريم المتعال؟!

إنّ الهمّ الأعظم لغالبية حجاج البيت الحرام، هو إنهاء المناسك على سبيل الاستعجال، للتفرغ بعدها لأمور الدنيا من البيع والشراء، والمطلوب من الضيف في مثل هذه الأحوال، أن يكون متوجهاً للمُضيف بكل وجوده مستعدّاً للعمل بمطلوبه.

فإذا صار الصيام – المندوب في الأصل – مذموماً من دون طلب، فكيف بالمعاصي في محضر سلطانه وما هي إلّا هتكٌ لعرضه، إذ أن هتك حرمة السلطان إنّما هي بمخالفة أمره ونهيه.. وهنا فلنتساءل: كم من حجاج بيت الله الحرام، مَن اشتغل في حجّه بعشرات المعاصي من الكذب، والغيبة، والفحش، والنميمة، وتعطيل حقوق الغير وغير ذلك؟!.

وإذا همّ الحاج بالطواف، فليستذكر هيبة المولى ولزوم الخشية منه، وعليه أن يتشبّه بالملائكة الذين يطوفون حول عرش ربّهم.

واعلم أنّ الطواف لا ينحصر بطواف الجسم حول البيت، بل إنّ الطواف الحقيقي هو طواف القلب بذكر ربّ البيت، وإنّما فُرضت هذه الأعمال البدنية، لتكون أمثلةً يُحتذى بها في جانب الأعمال القلبية.

وكما أنّ التشرّف بالكعبة الظاهرية لا يتمّ إلّا بقطع العلائق عن الأهل والولد، فكذلك التشرّف بالكعبة الباطنية لا يتمّ إلّا بقطع حجب العلائق كلها.. ويستحب إتيان المستجار والحطيم، واستلام الحجر، والتعلّق بأستار الكعبة، متشبّهاً بعبدٍ مقصّر في حق مولاه، مقبّلاً قدامه، متشبّثاً بأذياله، مناشداً إياه بأحب أحبّته لديه، إذ لا يجد ملجأً وموئلاً سواه.. فيا ترى هل يترك مثلُ هذا العبد أذيال مولاه، من دون أن يأخذ منه رقعة العتق والخلاص؟!..

وإذا أردت أن تسعى فاستشعر حالة العبد المتردد في فناء السلطان، طامعاً في العطاء، خائفاً من الخيبة والخسران.

وإذا وقفت في عرفات وسمعت ضجيج الخلق بصنوف اللغات، فتذكر عرصات القيامة وعظيم أهوالها، وليغلب على ظنك قضاء جميع الحوائج، فإنّه موقف عظيم تمتد فيه الايدي إلى ساحة الكريم، وتنقطع القلوب إلى كرمه، وتشرئب الأعناق إلى إحسانه، وتجري الدموع خوفاً من هيبته، فذلك اليوم يوم عطاء السلطان لعامة وفده، وإلباس وليّه الأعظم خِلَع الكرامة، عجل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه.

وفي ذلك اليوم تصل الرحمة إلى منتهى مدارجها، لتعم كافّة الخلق، فقد ورد أن من أعظم الذنوب أن يقف الحاج بعرفات وهو يظن أنّه لم يُغفر له..

إذ كيف لا يُغفر لمن تعرّض لمغرفته في ذلك الموقف العظيم، منقطعاً عن الأهل والمال والولد؟!.. فما هكذا الظن به ولا المعروف من فضله!..

وإذا خرجت من عرفات ودخلت مزدلفة، فتفاءل خيراً بكون عودتك إلى الحرم ثانية علامة من علامات قبول الحج.. وإذا رميت الجمار فاعلم أن روح هذا العمل إنما هو رجمٌ للشيطان في باطنك، فإن كنت كالخليل كنت كالخليل وإلّا فلا!..

وإذا أردت أن تودّع الحرم فكن كفاقد من يعزّ عليك فقدُه، بحيث يُعلم ذلك من حالك، فكن مشوش البال منكسر الفؤاد.. وليكن بناؤك على الرجوع في أوّل زمان ممكن.. فهكذا كان عزم إبراهيم الخليل (ع) لما ترك إسماعيل وهاجر.. وعليك بمراعاة أدب المضيف عند وداعه، لئلّا يحرمك العودة إلى بيته أبد الآبدين، فإنّه وإن كان سريعاً في رضاه، إلّا أنّه ينبغي مراعاة الأدب بين يديه مهما أمكن.

واعلم أنّه يحسن بالحاج في مكة المكرمة، أن يتشرف بالبقاع التي تشرّفت برسول الله (ص) كغار حراء – للاعتبار لا للتفرّج – ثمّ يتقرّب إلى الله تعالى بركعتين، كما يحسن به إطالة الوقوف في هذه المشاهد الشريفة، وخاصة في حجّة الأوّل.. وإذا أمكنه دخول الكعبة دخلها مراعياً للآداب المأثورة فيها. ►

 

المصدر: كتاب تذكرة المتقين

ارسال التعليق

Top