لا شكّ أنّ الباحث في تاريخ أوروبا يجد تأثيراً كبيراً للدِّين في الحياة الأوروبية الثقافية والفنّية والقانونية، وهو ما يصل إليه أغلب الباحثين إن لم يكن كلّهم في هذه النتيجة، لكنّ الحقيقة أنّ التأثير الكبير هو لفكرة الوجود وماهية الوجود وحقيقة الوجود على فكر أوروبا وهو الذي يفتح كوّة واسعة لتناول الدِّين إيماناً ودراسة من زاوية هذا الفكر ذي الماهية المتوترة دائماً.
فالوجود هو إشكالية الفكر في أوروبا، وهي إشكالية ظلت قائمة باستمرار في جدل هذا الفكر وكان هذا الجدل يقودهم أحياناً بل في أحيان كثيرة إلى فكرة الآله كأصل للوجود ومن ثمّ يقودهم إلى الدِّين كوسيلة مثالية ومقنعة للحياة في الوجود من خلال تكثيف وإضافة المعنى على الوجود في الحياة. فقد كان التركيز لديهم على الحياة والمعنى التي يقدّمه الدِّين للوجود البشري وكانت أقدم المحاولات الفكرية التي سعت إلى استبطان حقيقة وماهية الوجود من خلال العقل وليس من خلال الروح حصراً، نشأت في بلاد الإغريق وأسّست للاتجاه الدائم في الفكر الغربي في إنبنائه أو تكوينه حول أو في فكرة الوجود التي ظلت شاغل الفكر الإغريقي خاصّة ومن ثمّ شاغل الفكر الغربي عامّة.
وبالقدر الذي تحوّلت فيه فكرة الوجود إلى إشكالية في حضارة الغرب فإنّها حسمت وقطعت في حضارات الشرق من خلال رديف الوجود لديها وهي الروح التي اتّضحت كثيراً في تجلّيات النبوّة لدى الشرق.
وظلّت إشكالية الوجود بالنسبة إلى حضارة الغرب تتردّد منذ البداية في جدلها المستمر بين النزعة الطبيعية التي قالت بالأُصول المادّية للوجود، وبين النزعة التجريدية التي رسخت الأُصول المثالية في فهم الوجود منذ فيثاغورس ومروراً بأفلاطون، وكانت فكرة الأزلية في أصل الوجود وفكرة الألوهية في أصل الوجود ومع تناقضهما المستمر هما حصيلة الجدل الأغريقي في الوجود، وعليه تفرّعت فكرة الآله وفكرة الدِّين كمحصلة عن فكرة الوجود لدى الغرب، فالغرب منذ البداية ليس متديناً وإنّما مفكّراً يقوده العقل إلى الدِّين ويصدمه العلم الطبيعي عن الدِّين ممّا استدعى حالة من التوتر المستمر والدائم مع الدِّين في هذا الفكر.
تبدو الذات الأوروبية متوترة في أعماق تكوينها وتاريخها وتأصيلات ثقافتها، فالتوتر سمة بارزة في كلّ تعاملات ومجالات حركة هذه الذات، ولعلّ الأزمة التي انتابت العلاقة بالآلهة في مفتتح التاريخ الأسطوري الأوروبي/ برومثيوس حين حاول هذا الإنسان الأسطوري – الأوروبي سرقة النار من الآلهة والعقاب الذي صبته الآلهة على هذا الإنسان هو الذي أكسب هذه الذات ذلك التوتر المزمن تجاه الأشياء كلّها بدءاً من الآلهة ونزولاً إلى الإنسان ومروراً بالتاريخ وتأسيسات الثقافة الأولى، حيث يظل التاريخ والثقافة التعبيرات القصوى عن التوتر الذي تعيشه وتحيى به هذه الذات المتنمرة والمغامرة.
فالتغيرات الكبرى في التاريخ والانتقال به إلى مراحل متعدّدة وتحوّلات الثقافة المتكررة تظل نتاج ذلك التوتر المتأزم دائماً في الذات الأوروبية، ولذلك طغى التقسيم الأوروبي للتاريخ على الفكر التاريخي وطغت أخيراً المفاهيم الأوروبية على مقاطع الثقافة الحديثة أو هكذا بدت هذه الذات هي منتجة التاريخ البشري والثقافة الفكرية له في مرآة الذات لها ممّا يعبّر عن إحساسها بالتفوق بفعل هذا التوتر الذي غرس فيها تلك التمييزية لها، أو العنصرية الوجه الآخر لهذه التمييزية الذي كشف أو عبّر عنه مفهوم مركزية الذات الأوروبية.
ونجد هذا التوتر في تطلّعات الإغريق إلى الإمساك بالحقيقة وتأسيس الفلسفة كمبادرة أو مغامرة أُولى في اكتشاف الوجود ومكاشفة الحقيقة من خلال العقل، لكنّها لم تلبث لتضيف إشكالية أُخرى إلى مفهوم العقل وحول مدى أو حكم الحقيقة التي أناطتها بواسطة العقل بالإنسان حين أشكلت السوفسطائية على معيار العقل في اكتشاف الحقيقة وغرست التناقض منذ البداية بمفهوم العقل، وكانت قبل ذلك تحيل الفلسفة الإغريقية الأشياء إلى العناصر الأربعة: الماء والتراب والهواء والنار التي تستند إلى التناقض في ذاتها ومكوّناتها ممّا يجعل التناقض أصلاً في الوجود الذي يتكوّن من هذه العناصر وينشأ التوتر عن هذا التناقض.
وقد تمكّن مفهوم التناقض من الانغراس في العقل الأوروبي بقوّة ولازمه في تصوّراته وبنائه لأفكاره، والتناقض هو المسؤول عن أو المنتج للتوتر في أداءت الفكر الأوروبي وتحت يافطة هذا التوتر وأصله في التناقض تندرج أسماء الفلسفات الأوروبية الكبرى من الديكارتية/ الشكّ إلى الكانتية/ الشيء بذاته والشيء لذاته، وهنا يمتدّ التوتر إلى الذات مباشرة إلى الهيغلية والصيرورة المستمرّة لتجلّيات الروح الأعظم وتحوّلات الصيرورة هي توتر مستمرّ، إلى تناقض الديالكتيك الماركسي وحمل الشيء لنقيضه الذي يدع الأشياء في تغيير مستمرّ أو في توتر مستمرّ، إلى التطوّر الداروني في الصراع من أجل البقاء الذي ينقل التوتر إلى الطبيعة وفي العلاقة بين الكائنات الحيّة كمسلَّمة في الطبيعة.
وفي دفعات التوتر غير المنقطعة في العقل الأوروبي كانت تتشكّل مناهج النقد في الثقافة والفكر التي أنتجت نقد الذات الأوروبية وتشكّلت في نتاجها العدمية مع نقد (نيتشه) ليكون القلق والعدم باعثاً مرّة أُخرى إلى العودة إلى مناقشة أُصول الوجود وهويّة الحياة أو المعنى في الحياة ويكون الدِّين مادّة الفكر الأوروبي هذه المرّة.
إنّ التوتر لا يضع الإجابات والحلول النهائية إنّما يدع الأفكار منفتحة على الإجابات والتوقعات وما ينتج عن هذه الممارسة الفكرية والوجدانية هو الإقصاء حيناً والجذب أحياناً أُخرى، وهو ما ينطبق على تعامل الفكر الغربي مع الدِّين باستمرار، لكنّ المنهج الذي اعتمده الفكر الغربي في تناول الدِّين يدخل ضمن سعيه في تفسير شامل للإنسان ولذلك شملته مناهج علوم الإنسان أو ما تعرف بالعلوم الإنسانية.
إنّ عدم الإجابة الحاسمة حول الدِّين في الفكر الغربي جعلته يستمرئ دراساته على مختلف التخصصات وفروع العلوم الإنسانية التي كرّست مهمّتها ووظيفتها في إعطاء تفسير شامل للإنسان يفوق مجرّد تعريف الإنسان الذي استغرقت فيه العلوم القديمة إلى متون عصر النهضة وبواكير عصر الحداثة، فالتفسير مهمّة متعدّدة الأدوات والآليات وتكيف وسائلها وأفكارها وفق المعطيات الجديدة وغير المسبوقة، وقد استدعت الحاجة إلى تفسير شامل للإنسان في هذه العلوم إلى اجتراح علم جديد هو علم الأديان، ورغم محاولات تأصيله في العلوم القديمة إلّا أنّه يظلّ علماً جديداً ومبتكراً وهو يصطف إلى جانب علوم أو فروع متخصصة في العلوم الإنسانية في تناوله ودراسته للدِّين.
ولعلّ المركزية المبكِّرة للدِّين في حياة الإنسان وهذا التلازم المذهل بين المقدس وكينونة النفس الإنسانية هي التي تجعل من الدِّين أو المقدس ضرورة ملحة في فهم وتفسير الإنسان في مشروع العلوم الإنسانية، ويؤشّر هذا التخصص في علم الأديان على مدى الاهتمام الذي يوليه الفكر الغربي للدِّين أو للمقدس وهو اهتمام ناجز وناتج عن بنية هذا الفكر المتوترة بين يقينيات المقدس وعقائد الأديان والشكّ الذي يلازم هذا الفكر في غير مصادر ومناهج المعرفة في الحسّ والتجربة اللذان يبعثان على اليقين حصراً في مسلَّمات وبديهيات هذا الفكر ممّا يضع اليقين الدِّيني تحت طائلة التوتر المستمرّ في التعامل معه.
لقد كانت نقلة هذا الفكر من موضوع تاريخ الأديان إلى موضوع علم الأديان تعبير عن ديمومة الجدل في هذا المفصل الوجودي الراكز في حياة الإنسان ووجوده، فالموضوع حين يتحوّل من مجرّد سرد تاريخي إلى استقصاء علمي فإنّه يشكّل تطوّراً على المستوى الماهوي بالنسبة إلى موضوع وفهم الدِّين في هذا الفكر الذي بدا أخيراً حريصاً على سبر غور المقدس وسبر حقيقة ومفهوم الدِّين بعد أن تراجع هذا الفكر المادّي والوضعي عن مقولته بصدد إنكار الدِّين وتعليقه على ظروف تاريخية واجتماعية في استدعائه إلى حياة الإنسان، ليصل بالنتيجة إلى رسوخ المقدس في صلب حياة الإنسان ليظلّ الدِّين تعبيراً في حياة الإنسان عن هذا الرسوخ الأولي للمقدس الذي يجد تعبيراته تتكرّر في صُور متعدّدة منها الدِّين، وبذلك لم تحسم إجابة الفكر الغربي في الدِّين بإحالته إلى ذلك التعدّد في التعبيرات والتجلّيات للاوعي في علاقته بالمقدس عن طريق الوعي وإنجازاته في تاريخ المقدس، وهو ما اقتضى إعادة الاعتبار إلى مفهوم الأسطورة في تعبيراته الرمزية عن المقدس الذي يتكثف فيه المعنى في الحياة ليكون مجال الدِّين حصراً وفق تقنيات هذا الفكر هو المعنى المضفى على الوجود والحياة باعتباره صُورة من تجلّيات المقدس وينتمي إلى الأسطورة في التقنية التصنيفية لهذا الفكر.
وحصر وظيفة الدِّين في المعنى المضفى على الوجود والحياة بدت تتصادم ودخول الدِّين في الحياة من بوابة السياسة ممّا حدا بهذا الفكر إلى استعادة أدواته وسجالاته في النقد وتناول الدِّين والمقدس مجدّداً بالدرس والتحليل في ظلّ أزمات العالم المعاصر وبعد أن اكتشف قصر أدواته وأفكاره في التوصل إلى حقيقة وماهية وتعريف الدِّين.
يقول (جان فرانسوا دورتيه) وهو يترجم للعلوم الإنسانية: «عثرة علينا تحاشيها هي محاولتنا إيجاد تعريف للدِّين، فبعد مئة عام من الدراسات لم يتم التفاهم حول هذا الموضوع».
لم يستقر الفكر الغربي على تعريف محدّد للدِّين بخلاف الحضارات الشرقية الأُخرى الباحثة عن الانسجام والتناغم مع الأشياء أو مع أصل الأشياء، فالدِّين لديها محدّد بالعلاقة الثنائية بين الآله والبشر ولا تجد لديها ذلك الزخم المتواصل والمتعدّد في تعريف الدِّين باعتباره بديهية كائنة وسائدة في تلك الحضارات، لكنّ الحضارة الأوروبية والفكر الذي يؤسّس لها ويكوّنها ظلّ يقدّم على طول تاريخه تعريفات متعدّدة للدِّين تتعدّد على مستويات هذا الفكر ومجالات عمله المعرفي والثقافي لينتهي هذا الفكر في ذروة التوتر إلى القول بصعوبة تحديد تعريف متعيّن أو معيّن للدِّين. فالدِّيني يمكن أن نجده في عبادة الأوثان وفي الرياضة والسينما والموسيقى والقداديس والعقائد الخلاصية، وفي السياسة يمكن أن نجد الدِّين في الإيمان الكامل واليقين بالأفكار والأيدولوجيات.
هكذا نجد الدِّين يخرج من أفقه المحدّد في حضارات التناغم والانسجام إلى آفاق متداخلة ومتقاطعة في حضارة الغرب المتوترة.
لقد كانت النازية والفاشية والشيوعية تتمظهر بقضايا غير الدِّين نتيجة التوتر المتصاعد في أنساقها الفكرية والأيدلوجية، وإذا كانت النظرة إلى الدِّين في مهاد حضارات/ المنشأ تجعل من الدِّين نسقاً متكاملاً يغذّي الشعور بالوجود ويقدّم إجابات متراصفة لتساؤلات الإنسان من أجل الطمأنينة فإنّ الدِّين في نظر الغرب هو مركّب من جملة عناصر داخلية وعوامل خارجية، وبشكل موضوعي هو طقوس وعقائد وآلهة وقصّة خلق وقيم ومحرّمات واحتفالات وصلوات وأشخاص مقدّسون ووسطاء مع الآلهة وأسرار ويتم تركيبها في الفكر الغربي بعيدًا عن الله لكنّها مختزلة في الإنسان أو بشكل أدق في سلوك الإنسان الذي هو نوع من الثقافة.
ويرى (ميشال ميسلان) أنّ الدِّين عند الأغريق تعبير عن التمثلات الإنسانية للإلهي وهو المصدر الوحيد للدِّين بسبب غياب أي شكل للوحي الإلهي وعدم وجود شريعة نافذة، وتعدّ الأساطير وفق ميسلان أهم هذه التمثلات الإنسانية للإلهي في الغرب القديم، ويستنتج عن تاريخ الدِّين أنّ الغرب لا يتواصل مع الآلهة إلّا بإلزامية جماعية، فاتصال الأفراد بالقوى الإلهية تمر عبر البُنى الاجتماعية وبلوغ الإلهي لا يكون إلّا عبر التجمعات السياسية - ميسلان -.
ويستبطن الفكر الغربي أو ينتج أنّ الدِّين ثقافة تصنعها عوامل خارجية تتصل بالطبيعة من جهة «الطقوس والأرواحية» أو تتصل بالتاريخ الماضي والسحيق للإنسان «الأب الآلهة» أو تتصل بالتاريخ السياسي للدول وأنظمة الحكم المستبدّة فيها «تنتجه البُنى التحتية» وبذلك تم إخراج الدِّين من منطق الإيمان الموضوعي الذي يتصل بموضوع الله إلى الإيمان الذاتي الذي يتصل بالثقافة والنزوع الذاتي/ الشخصاني، ولذلك كان محور الدراسات الأوروبية حول الدِّين ليس موضوع الإيمان بالله وإنّما موضوعها الإنسان في نزعته الذاتية التي هي نتاج الثقافة، وهي الذاتية التي تتشكّل قبل الموضوعية العلمية التي تم تطوير فكرتها إلى مستوى المرحلية أو المراحل في الفكر البشري الذي هو في حقيقته الفكر الغربي حصراً. فالتقسيم الأوروبي للتاريخ البشري يراهن بين مرحلتين، مرحلة الدِّين ومرحلة العلم، وانتقالته اليقينية الكبرى من الدِّين إلى العلم أفرزت بنهاية المطاف وبفعل آلية وتركيبة التوتر في العقل الغربي شكوكاً في العلم والعقل الأوروبي وشكوكاً في الحداثة التي أنتجت تاريخياً هذه التطوّرات ممّا اقتضى استدعاء الدِّين مرّة أُخرى للبحث موضوعاً وللإيمان احتمالاً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق