• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرؤية الإسلامية للحياة

الرؤية الإسلامية للحياة

◄إنّ الرؤية التي يحملها الإسلام للمجتمع تهدف إلى إحداث التوازن بين النوازع الأنانية الذاتية وبين المصالح العليا للمجتمع. وبعبارة أخرى: أنّ الإسلام جاء ليوازن بين الدوافع الفطرية لدى الإنسان والمصالح العامة للمجتمع حالما يحصل التعارض والتصادم بين هذه الدوافع الفطرية والمصالح العامة للمجتمع.

ومن الطبيعي أنّ الإنسان يتحيّز إلى مصالحه الشخصية، بل ويقدّمها على المصالح الاجتماعية، وعندما يسود هذا الشكل من العلاقات في المجتمع يتحوّل هذا المجتمع من مجتمع إنساني إلى مجتمع تحكمه شريعة الغاب، بما تحمل هذه الشريعة من قوانين ونظم وعلاقات لا يمكن تصوّرها إلّا في مجموعةٍ من الحيوانات المتوحّشة.

وأمّا الرؤية الإسلامية للحياة فهي ترى أنّه لابدّ أن يسود التوازن الذي تتعادل في حسابه المصالح والقيم الفردية والاجتماعية.

فالإنسان وضمن هذه الرؤية يضمن حقّه ونصيبه في عالم أخروي يكسب الإنسان فيه السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، بقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) (النجم/ 39)، فيتحصّل رضا الله تبارك وتعالى، ويضمن المصلحة الشخصية في نفس الوقت الذي يحقّق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى.

فنظرة الإسلام للحياة هو الأخذ بيد الإنسان نحو المشاركة في إقامة المجتمع السعيد، والمحافظة على قضاياه الكبرى التي تحقّق رضا الله تعالى؛ لأنّ ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي ما دام كلّ عملٍ في هذه الدنيا يعوّض عنه بأعظم العوض والجزاء في عالم الآخرة.

فالمجتمع هو الفرد في رؤيا الإسلام للحياة، ومصالح المجتمع تصبّ في مصلحة الفرد.

وهذا الفهم للحياة لا يمكن تصوّره في ظلّ الفهم المادي للحياة، فإنّ الفهم المادي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلّا إلى مصالحه الخاصة، على عكس نظرة الإسلام للحياة فإنّه يوسّع مصالح الإنسان، ولا يجعلها مقتصرة على المصالح الدنيوية، بل يضيف إليها مصالح أخروية أكبر وأبقى، إذ ما عند الله خير وأبقى.

ومن زاوية أخرى فإنّ الإسلام وضمن الرؤيا الصحيحة للحياة يتعهّد بتربية المسلمين تربية أخلاقية خاصة، تأخذ على عاتقها تغذية الإنسان روحياً بالقيم والأخلاق الفاضلة منذ صباه، لكي تطفح على سطح أخلاقه تلك القيم والأخلاق الفاضلة، والتي كان يتمتّع بها الأنبياء والأوصياء والأئمة، ويصبح الإنسان يحبّ القيم الخلقية السامية للإسلام، ويواضب على احترامها، ويضحّي من أجلها.

فالفهم المعنوي للحياة والإحساس الخلقي النبيل بها، هما الركيزتان اللتان يقوم على أساسهما المقياس الخلقي الجديد الذي يضعه الإسلام للإنسانية، وهو رضا الله تعالى، ورضا الله هو الذي يقود القافلة البشرية إلى أماكن الخير والحقّ والعدالة.

فالوحدة بين المسلمين تصبّ في مصلحة المسلمين جميعاً، وقد تتعارض في بعض الأحيان مع مصلحة هذا الفرد أو ذاك، ولكنّها تهدف إذا ما تحقّقت إلى إقامة المجتمع السعيد الذي يحقّق رضا الله تعالى.

 

عناصر تحقيق الوحدة الإسلامية:

هناك أربعة عناصر هي بمثابة دوافع إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، وتشكّل القاعدة التي تبتنى عليها نظرية الانسجام التي دعا إليها، والكفيلة بتحقيق آمال الأُمّة الإسلامية ونهضتها، وهذه العناصر هي:

 

أوّلاً: الفطرة:

وهو مصطلح قرآني لم نعهد استعماله قبل القرآن. وهي تعني: الخلق والتكوين للإنسان، وما أودع في هذا التكوين من ميول، ونزوع، ورغبات. فقد أودع الله سبحانه في نفس الإنسان الرحمة والإيثار والصدق، والعفّة والحياء، والأمانة والعدل وإباء الضيم، والعزّة والكرامة، والتوحيد والإخلاص، والمعرفة وابتغاء وجه الله، وحبّ الناس وإغاثة المكروب... وما إلى ذلك من القيم والمواهب التي أودعها الله تعالى في نفوس خلقه.

إذن هناك أشياء يميل الإنسان إليها، ويسعى إلى تحقيقها، من دون أن توجد مؤثّرات خارجية تدفعه إلى القيام بذلك، فالإنسان بطبعه يحبّ الصدق والأمانة والعدل وإن كان كاذباً وخائناً وظالماً.

كما والإنسان بطبيعته يسعى إلى أن يكون ضمن جماعة، قد تكون تلك الجماعة عشيرةً أو قبيلةً، وقد تكون تلك الجماعة هي الوطن الذي ينتمي إليه، وقد تكون تلك الجماعة هي الدين الذي يعتنقه، وكلّما ازداد عدد الأفراد في تلك الجماعة كلّما ازداد شعور الفرد بالسعادة والأمان فطرياً.

إنّ الفطرة هي موجب للوحدة والتآلف والانسجام، إذ إنّ انتماء الفرد إلى الأُمّة الإسلامية الكبيرة هو ما يتماشى مع ميوله الفطرية، في حين أنّ انتمائه إلى طائفة معينة يثير فيه شيئاً جزئياً، فلا يشعر بالسعادة الكبرى التي تنتاب الفرد عندما يشعر بأنّه ينتمي إلى أُمّة إسلامية كبيرة وصل عددها إلى أكثر من مليار مسلم، وتملك من التراث والفكر والعلوم والأدب والفنّ ما لا يملكه الآخرون.

 

ثانياً: الطبيعة البشرية:

والحديث حولها يتمّ في أربع نقاط:

أ) الإنسان مدني بالطبع

ذهب علماء الاجتماع والنفس إلى أنّ الإنسان مدني بالطبع بما يملك من ميول فطرية نحو الاجتماع والتآلف مع الآخرين من بني جنسه، فإنّه يميل إلى الاختلاط والتجانس والانسجام مع أمثاله.

كتب الدكتور البستاني يقول: "وحين تلفّنا العزلة نبحث عن لذّةٍ هي الانتماء الاجتماعي، ونتجنّب ألماً هو الإحساس المرير بالوحدة والوحشة".

وهذه الميزة الطبيعية يمكن استثمارها في وحدة المسلمين، خاصة إذا علمنا انّ الدين الحنيف يحفّز أتباعه على تحقيق الخلطة وعدم العزلة، ويدعوهم إلى تحقيق وحدتهم وانسجامهم وتآلفهم مع بعضهم بعضاً.

ب) الطبيعة البشرية ومجموعة القيم الإسلامية:

يراد من الطبيعة البشرية هي الخصال التي اختصّ الله بها الإنسان دون غيره من المخلوقات، ومجموعة القيم التي تسود في المجتمع، منها: الكرم والشهامة والنخوة وحماية الجار ونصرة الضعيف... إلخ.

إنّ طرح دور الطبيعة البشرية الاجتماعية للمجتمع الإسلامي في تحقيق التآلف والتقارب بين فرقاء المسلمين، وأنها من ضمن الأسباب التي تقرّر وحدة المسلمين، يتطلّب منّا الخوض في شرح هذه الطبيعة بشيء من الاختصار.

ج) الطبيعة البشرية وأثرها في تعزيز الوحدة:

تعدّ الطبيعة البشرية الاجتماعية في طليعة الدوافع الداعية إلى الوحدة بين المسلمين والتوصيات الإسلامية المؤكّدة على التعارف والتعاون والأخوّة تفصح بوضوح عن مفهوم (الانتماء الاجتماعي). كما أنّها تؤكّد حاجة البشر بعضهم لبعضٍ، من قبيل ما ورد عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر (ع) من أنّه سمع رجلاً يقول: "اللّهمّ اغنني عن خلقك" فأوصاه بأن يقول: "اللّهمّ اغنني عن شرار خلقك".

إنّ هذه التوصيات تؤكّد الطبيعة البشرية الاجتماعية للإسلام في تعامله مع الآخرين، كما أكّدت بعض النصوص والتوصيات هذه الطبيعة للإنسان المؤمن من كونه "يألف ويؤلف"، أي: أن يحبّ الآخرين ويحبّونه.

د) الطبيعة البشرية بين التضامن والصراع:

تعتبر الطبيعة البشرية الاجتماعية من المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع، وهي على صنفين: الأوّل: تضامني، والثاني: صراعي، وأرجع كلّ صنف منهما إلى أسباب وجوده ونموّه في الحياة الإنسانية.

وإذا رجعنا إلى تراثنا الإسلامي على الصعيد الاجتماعي نجد أنّ هناك من كتب في الطبيعة البشرية، أمثال الجاحظ (776-869م) الذي قسّم الطبيعة البشرية الاجتماعية إلى صنفين: التضامن والصراع، وبيّن أنّ صفة التعاون والاتحاد بين أبناء المجتمع الإسلامي هو الأعمّ والأكثر شيوعاً، والذي يخضع لمنظومة القيم والمبادئ والأخلاق، حيث قال: "إنّ التآزر والتسالم في القرابات وفي بني الأعمام والعشائر، أفشى وأعمّ من البعداء؛ لخوف التخاذل، ولحبّ التناصر، والحاجة إلى التعاون انضمّ بعض القبائل في البوادي إلى بعض، ينزلون معاً، ويظعنون معاً...".

واستناداً إلى قول الجاحظ، نلاحظ تكوّن تكتلات اجتماعية ذات تماسك أخصّ، ضمت التكتّل الواحد، تكون مختلفة في الحجم والقوة والنفوذ والجاه والمال والمكانة الاجتماعية، ممّا يخلق نوعاً من التآلف والانسجام أكثر فيما بينهم.

 

ثالثاً: الحاجات والتطلّعات:

إنّ التآلف والانسجام بين المسلمين على اختلاف مذاهبم هو هدف يتطلّع إليه كلّ المهتمين بعزّة أمتهم وكرامتها وسؤددها، إلّا أنّ هذه التطلّع لا يكفي لتحقيق هذا الهدف الكبير، إذ لابدّ من دراسة هذا التطلّع دراسةً علميةً واعية، ثمّ تطبيقها ضمن برنامج عملي هادف لتحقيق هذين الهدفين الساميين: (التآلف والانسجام).

وظاهرة الصراع المذهبي والطائفي الجاري في بعض بقاع العالم الإسلامي هي ناتج ترشّح عن توقّفنا وجمودنا تجاه التعبير عن هذه الحقيقة بصورة عملية، وتركنا أصحاب التوجّهات القومية والقطرية والشعوبية الطائفية تعبث بالمسلمين.

إنّنا لا نبالغ إذا قلنا: إنّ الدين الإسلامي هو الذي أعطى الدفعة الحضارية للبشرية؛ لأنّ التقدّم والمدنيّة هي مقدار ما حقّقه المسلمون من تطوّر في المجالات النظرية والتطبيقية، إضافة إلى أنّ التشريع الإسلامي وجد أساساً من أجل انتشال الإنسان من الركود والخمود والجمود، والجهل والظلام، لتدفعه نحو الحركة اللامتناهية في مضمار تحقيق الانتصارات على صعيد تسخير الطبيعة، وممارسة عملية الاستخلاف في الأرض، وتعزيز السمو الروحي والعقلي، والخروج من شرنقة الذاتية والأنانية، والجهل والظلام، ومن أوحال النزعات الشاذة والمنحطّة.

ولا شكّ أنّ كلّ مسلم مهما كانت توجّهاته يطمح لرؤية مجتمع إسلامي متحضّر وقوي ونشيط ومتقدم، تسوده روح الحوار والتفاهم، واحترام الرأي الآخر، والتعايش القومي والمذهبي، وتتجسّد فيه المفاهيم التي طالما أكّد عليها دينه الحنيف.►

ارسال التعليق

Top