• ٢٨ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٦ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيمياء القلق.. والأمراض النفسية

كيمياء القلق.. والأمراض النفسية

◄من أسرار تكوين الجهاز العصبي للإنسان التي توصل العلم إلى تفسيرها أن رأس الإنسان تحتوى على عشرات البلايين من الخلايا يتكون منها الجهاز العصبي وتقع داخل تجويف الجمجمة في فراغ ضيق للغاية بالنسبة لهذا العدد الهائل من الخلايا التي يقوم كل منها بوظيفة محددة بالتنسيق مع بقية الخلايا العصبية المجاورة.. فهناك خلايا تتخصص في إستقبال الإحساس وأخرى تقوم بتفسير كل مؤثر خارجي، وخلايا تعطي إشارات للحركة وأخرى تنظم وتنسق الحركات والتصرفات حتى لا تكون عشوائية أو متضاربة..

والسؤال هنا هو:

كيف يتم التفاهم والتنسيق فيما بين هذا العدد الهائل من الخلايا التي يتكون منها الجهاز العصبي!؟

إنّ الإجابة هي بإختصار الكيمياء أو المواد الكيميائية التي تنتج عن إشارات وشحنات كهربائية يتم من خلالها تنظيم وظائف الإحساس والحركة.. وكذلك التفكير والانفعال وحل المشكلات.. وأي خلل في كيمياء الجهاز العصبي تكون محصلته النهائية ظهور أعراض الأمراض العصبية والنفسية.. فالقلق، والاكتئاب، والفصام، والوسواس القهري هي أمراض وإضطرابات في كيمياء الجهاز العصبي.. وعلاج هذه الحالات أيضاً بالدواء ليس سوى تعديل لهذه التغييرات الكيميائية.

 

- الكيمياء.. والقلق.. والسلوك الإنساني:

لكي نتخيل تأثير التغييرات الكيميائية داخل الجهاز العصبي على الحالة النفسية وعلى حالة الجسد أيضاً لنفترض مثلاً أن أي واحد منّا قد تعرض لموقف فيه خوف أو ضغط نفسي شديد فإن رد الفعل المعتاد هنا أن نشعر في مثل هذه المواقف بدقات القلب السريعة ورعشة في الأطراف وشحوب الوجه وتصبب العرق، وهذه العلاقات هي مظاهر للقلق والتوتر لكنها حدثت نتيجة لسلسلة تبدأ من خلايا قشرة المخ التي تقوم بوظيفة التفكير، وبعد ذلك تصدر إشارات كهربائية وكيميائية إلى مناطق أخرى من الجهاز العصبي مثل الأجزاء الداخلية من المخ ومنطقة تحت المهاد التي يتم فيها إفراز مواد كيميائية تمثل إشارات إلى مراكز أخرى وإلى غدد الجسم لإفراز مواد تنطلق إلى الدم مثل مادة "الدرينالين" التي تقوم بمهمة دفع الدم في القلب والشرايين بقوة وإعداد الجسم لمواجهة موقف القلق أو الخوف أو التهديد.. ويحدث ذلك كله بصورة تلقائية منظمة وخلال ثوان معدودة. وفي التجارب التي يجريها علماء النفس على بعض الحيوانات لدراسة سلوكياتها تم إكتشاف مراكز معينة داخل الجهاز العصبي تقوم بإفراز مواد كيميائية تتسبب في شعور الإطمئنان والهدوء والإرتياح، والمواد الكيميائية التي ترتبط بذلك أطلق عليها "الأفيونات الداخلية" لأن لها تأثير مهدئ ومطمئن يشبه تأثير الأفيون على المدمن وهي الاندروفينات Endorphins والنكفالينات Encephalins وعلى العكس من ذلك فإنّ الغضب والتوتر والقلق والاكتئاب ترتبط أيضاً بتغييرات كيميائية في مراكز بالجهاز العصبي أمكن اكتشاف الكثير منها حالياً.

 

- كيمياء مرض الاكتئاب النفسي:

الاكتئاب النفسي هو أحد أهم أمراض العصر الحالي، وقد ورد في تقارير منظمة الصحة العالمية أنّه يصيب نسبة 7% من سكان العالم حالياً، وعند دراسة التغييرات التي تحدث في الجهاز العصبي لمرضى الاكتئاب تم اكتشاف وجود نقص في بعض المواد الكيميائية داخل المخ منها مادة "السيروتونين" Serotonin، ومادة "نورابنفرين" Norepinephrin، ورغم أن هناك خلافاً حول ما إذا كان ذلك هو السبب في مرض الاكتئاب أو حدث نتيجة للإصابة بالمرض فإنّ الأطباء النفسيين يعلمون جيِّداً أن تعديل هذا الخلل الكيميائي بواسطة الأدوية التي تزيد من نسبة هاتين المادتين يؤدي إلى تحسن حالة مرضى الاكتئاب بصورة ملحوظة مهما كانت الأسباب التي أدت إلى الإصابة بالاكتئاب.

وفي مرضى الاكتئاب أيضاً يمكن عن طريق تحليل عينات من الدم أو البول وتحديد مستويات بعض المواد الكيميائية، التأكد من التشخيص، ورغم أن ذلك يحدث داخل المختبرات بغرض الأبحاث إلا أنّه يمثل أملاً في الوصول إلى اختبارات معملية تستخدم على نطاق واسع للتأكّد من تشخيص الاكتئاب، ويستخدم تحليل مادة "الكورتسول" Cortisol في الدم على مدى ساعات الليل والنهار بعد حقن كمية صغيرة من مادة "دكساميثازون" Dexamethasone كاختبار يدل على الإصابة بالاكتئاب يعرف باختباري DST، وهذا يعني أنّ التغييرات الكيميائية المصاحبة للإكتئاب يمكن رصدها والاستفادة من معرفتها في التشخيص والعلاج.

 

- كيمياء المخ والشيزوفرنيا:

وفي مرضى الفصام العقلي (الشيزوفرنيا) الذي يعتبر من أسوأ الأمراض العقلية ويصيب 1% من السكان في كل مجتمعات العالم أمكن الوقوف على بعض المعلومات حول التغييرات الكيميائية في الجهاز العصبي التي تصاحب حدوث هذا المرض، وقد لاحظ العلماء زيادة نسبة مادة "دوبامين" Dopamine في مراكز الجهاز العصبي في مرضى الفصام، وكانت هذه بداية التوصل إلى جيل من الأدوية النفسية التي يمكنها تخفيض نسبة هذه المادة وتحقيق شفاء أو تحسن مؤقت في الأعراض عند إستخدامها، لكن المشكلة التي ظهرت بعد ذلك هو أن نقص هذه المادة يؤدي إلى الإصابة باضطرابات عصبية شديدة مثل مرض الشلل الرعاش والتشنجات، ويعلم ذلك جيِّداً الأطباء النفسيين والمرضى أيضاً حيث أن علاج الفصام ببعض الأدوية يؤدي عند تناول جرعات كبيرة منها إلى تحسن أعراض الفصام وظهور أعراض هذه الأمراض العصبية مما يسبب مشكلة أخرى مزعجة ظلت لوقت طويل مصدر قلق حتى أمكن التغلب عليها باستخدام أدوية أخرى.

ومن المعروف أنّ مرض الفصام فيه عامل وراثي حيث ينتقل داخل بعض العائلات نتيجة لزواج الأقارب لكن الذي يؤثر هو فقط الاستعداد للمرض الذي يظهر في صورة أعراض مرحلة الشباب نتيجة للتعرض لبعض الضغوط والمواقف، وتحتاج حالات الفصام دائماً إلى العلاج الكيميائي عن طريق الأدوية النفسية حيث لا يكفي العلاج النفسي بالجلسات دون دواء لتعديل التغييرات الكيميائية في الجهاز العصبي لمرضى الفصام.

 

- العلاج الكيميائي للأمراض النفسية:

لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين ثورة هائلة في أساليب علاج الأمراض النفسية بصفة عامة، ويعود إلى الصدفة وحدها عند بدء إستعمال الأدوية النفسية الحديثة، فقد اكتشف جراح فرنسي كان يقوم بتخدير بعض المرضى قبل العمليات الجراحية أن دواء "كلوربرومازين" Chlorpromazine الذي يستخدم قبل الجراحة يؤدي إلى تأثير مهدئ ومطمئن وتتحسن معه أعراض الاضطرابات النفسية، وتم إستخدام هذه المادة ومشتقاتها على نظام واسع فيما بعد في علاج الأعراض النفسية ولا تزال هذه المستحضرات تستخدم في وقتنا هذا في المستشفيات والعيادات النفسية، وقد شهد العقدان الأخيران ظهور أجيال جديدة من الأدوية النفسية لها فعالية كبيرة في علاج الأمراض النفسية ولا تسبب الآثار الجانبية المزعجة للأنواع التقليدية من الأدوية النفسية التي كان الهدف منها فقط تهدئة المرضى النفسيين والسيطرة على ثورتهم، وقد تبدل الهدف حالياً ليصبح تمكين المرضى من الحياة وممارسة النشاط اليومي المعتاد بصورة طبيعية مع إستعمال الأدوية الحديثة.

وبالنسبة لمرضى القلق والإكتئاب فقد ظهر جيل جديد من الأدوية النفسية يعمل على عتعديل كيمياء الجهاز العصبي وزيادة مادة السيروتونين، وكان أوّلها دواء "فلوكستين" الذي حقق نتائج جيِّدة، ولاحظ المرضى الذين يستخدمونه أنّه يرفع المزاج بصورة ملحوظة حتى أطلقوا عليه" دواء السعادة" وبدأ بعض الأصحاء في إستخدامه للتخلص من همومهم المعتادة دون وصف الطبيب!! وقد أدى إستخدام الجيل الجديد من الأدوية المعتادة للإكتئاب إلى حل مشكلة المرضى والتخفيف من معاناتهم والحد من حالات الانتحار التي كانت تسجل 8000 ألف حالة كل عام بسبب الاكتئاب النفسي.

وقد أمكن أيضاً تحقيق نتائج جيِّدة في عقار "كلوزابين" و"رسبردون" و"اولانزيين" التي تسبب تحسن أعراض مرضى الفصام وتعيدهم إلى الحياة ويمكن التوسع في إستخدامها وإستفادة أعداد كبيرة من المرضى منها. وهذه الحقائق التي توصل إليها علماء الطب النفسي حول كيمياء الجهاز العصبي وما يعتريها من تغييرات في حالة الصحة والمرض هي دليل آخر على قدرة الخالق العظيم وعلامة من علامات الإعجاز في تكوين العقل والجسد في الإنسان.►

 

المصدر: كتاب (عصر القلق والأسباب والعلاج)

ارسال التعليق

Top