• ١٢ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٠ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المرض كلام اختلف العلماء حول تفسيراته

المرض كلام اختلف العلماء حول تفسيراته

 

هل للمرض معنى؟ هذا سؤال يهمنا جميعا، بيد أنّ الطب لم يعد يطرحه، فهو يعالج الجسم من دون أن يلتفت إلى الشخص بكليته وينسى الروابط التي تربط المريض بالعالم. هل مكتوب علينا أن نمرض أو أن مرضنا ردة فعل يقوم بها جسمنا إزاء وضعيات مخلة؟ هل لأمراضنا أسباب خارجية أم هي عرض يدل على وجود مضايقة أكثر عمقاً؟ يطرح الكاتب هذه الأسئلة بشجاعة كبيرة ويحاول الإجابة عنها مستنداً إلى الإكتشافات الجديدة كما إلى عقائد الشعوب القديمة. "أنظر إلى الحياة بنفسك وقلْ بأمانة إلى العالم ماذا ترى؟". هذه الكلمات التي قالها يورج جروديك في نهاية حياته تأتي بمثابة شعار وتحفيز على الفضولية ودعوة إلى التفكير في العالم بطريقة مختلفة. ولد جروديك في ألمانيا عام 1866، وبدأ يزاول حياته المهنية كطبيب مساعد للدكتور ارنست شوينينجر، وهو طبيب مشهور لأنّه تمكن من علاج سمنة بسمارك، موحد ألمانيا آنذاك. كان شوينينجر يحذر من اللجوء الشديد إلى الأدوية وكان على قناعة بمحاسن الغذاء والتدليك والعلاجات المائية. فتأثر جروديك بتعاليم أستاذه وفتح مصحة في عام 1900 في مدينة بادن بادن، في قلب الغابة السوداء. كان يعالج فيها العديد من المرضى المصابين بالسرطان أو السل، ويدمج مقاربة طبية تقليدية وعلاجات أقل تقليدية، من بينها شكل العلاج النفسي الذي يسبر العلاقات بين الجسم والنفس. هذا لأنّه قد تولدت مبكراً لدى جروديك قناعة بأن أي مرض هو في الحقيقة مرض نفسجسدي، وإنذار ومظهر رمزي يصعد من أعماق الإنسان. استندت قناعة جروديك على تحليل العديد من الحالات، أكثر غرابة الواحدة من الأخرى، كما حالة ذاك الاسكافي الذي أجبر على التوقف عن عمله بسبب نزيف شديد في الشبكية يصيبه بشكل غامض عند كل خريف، وفي شهر أكتوبر "تشرين الأوّل" في أغلب الأحيان. وعلى طريقة المحلل النفسي "الهاوي"، كما كان يحلو لجروديك أن يسمي نفسه، سأل مريضه لمعرفة ما إذا كان ثمة حادثة معيّنة قد وقعت خلال أحد أشهر أكتوبر "تشرين الأوّل" الماضية والتي سبقت بدء الأعراض التي يشكو منها. فأجاب الرجل بالنفي، فطلب منه جروديك أن يذكر رقماً، فأجابه: "ثمانية". فسأله ما إذا كان قد حصل شيء ما عندما كان في الثامنة من عمره. لم يجزم المريض بالإيجاب لأنّه لا يذكر. ولكن جروديك تذكر في المقابل، أنّه خلال واحد من أحاديثه مع المريض، كان قد حكى له عن زبون فاقد البصر كان يأتي إلى المحل عندما كان هو مجرد متدرب. كان هذا التفصيل تافهاً ظاهرياً ولكنه مهم بما يكفي حتى يتذكره المريض بعد مرور هذا العدد الكبير من السنوات، مشدداً على أنّ الكفيف البائس كان ملقباً بـ"الكافر" من جانب سكان القرية. حين ذكر جروديك مريضه بهذا الحدث، أجابه هذا الأخير بأنّ هذا أمر من الماضي وحتى لو أنّه كان طفلاً تقياً جدّاً إلا أنّه اليوم لم يعد بهتم بمسائل الدين. في هذه اللحظة بالذات، أصاب الشحوب الرجل وترنح على قدميه وفقد وعيه. وبعد لحظة، عاد إلى رشده وقال لجروديك: "أنت على حق أيها الطبيب، أنا كافر، كما هذا الكفيف الذي أخبرتك عنه. لم أقل هذا الأمر لأحد وحين أفكر به، يبدو لي أنّه فكرة لا تطاق. أنت على حق أيضاً بالنسبة إلى الخريف وإلى سن الثامنة، لقد جرى كل هذا في الخريف وكنت في الثامنة. في المنطقة التي أعيش فيها، وهي منطقة شديدة التدين، كنت ألعب يوماً أنا ورفاقي وكنا نتسلى بضرب مكان العبادة بالحجارة فكسرنا بعضاً من محتوياته واوقعناها أرضاً، حينذاك أصبت برعب شديد". وتذكر الرجل أن أوّل نزيف في الشبكية قد أصابه في اللحظة ذاتها التي كان يجلس فيها في القطار ويتأمل مكاناً للعبادة. هل هذه مجرد مصادفة أو أن سبب المرض يحمل رمزية قوية؟ يقول جروديك إنّ إدراك الصلة بين الصدمة التي عاشها المريض في طفولته وظهور النزيف الشبكي قد كان كافياً لشفاء المريض. وهكذا، تابع جروديك الاسكافي لمدة ثلاثة عشر عاماً من دون أن تعود إليه حالة النزف. صحيح أنّ هذه حالة مدهشة ولكنها لم تكن وحيدة لأن جروديك قد دوّن الكثير من مثيلاتها. ففي كتابه "محاضرات في التحليل النفسي" الذي صدر في عام 1917، يحكي الطبيب الألماني قصة مريض ثري تتسم أسرته بالجشع الشديد. أصيب هذا المريض يوماً بآلام مبرحة في البطن فتوجه إلى المستشفى حيث ظن الأطباء بوجود إنسداد في الأمعاء يخفي وراءه سرطاناً ربّما وتقرر إجراء عملية جراحية له، ولكن المريض رفض تماماً مؤكداً أنّه يفضل الموت على العملية الجراحية. حاول الأطباء حينها اقناعه ولكن من دون جدوى. وفجأة تضاءلت الآلام وزالت. ولكن للأسف، أصيب المريض بعدها بقليل بمشكلات في التنفس وانتفاخ شديد في البطن. طلب من جروديك معاينته، وكعادته، طرح على المريض قائمة مفصلة من الأسئلة. مرّة أخرى، اختفت الأعراض بطريقة غامضة ظاهرياً بالنسبة إلى جروديك الذي سرعان ما يقيم علاقات بين مختلف عناصر قصة المريض، فقد كشفت المقابلة معه أنّ النوبتين قد اصابتاه بعد تلقي رسالة يطالبه فيها أهله بالمزيد من المال. وبالنسبة إلى جروديك، وقع الرجل ضحية المرض، بل هو "أمرض" نفسه حتى يهرب من ضغط عائلته. ومتى شرح جروديك الأمر للمريض حتى شفي. كتب جروديك يقول: "المرض هو بالنسبة إلى المريض وسيلة للبقاء" ويشكل هذا القول صدى لما قاله كارل جوستاف يونج: "المرض هو الجهد الذي تبذله الطبيعة حتى تشفي الإنسان". كان جروديك من أولئك المنشقين عن التحليل النفسي، مثل يونج، بيد أنّه على عكس هذا الأخير، لم يكن يوماً من تلامذة سيجموند فرويد، حتى أنّه عارضه لمدة طويلة إلى حين التقى الرجلان وأقاما مراسلة مدهشة شدد فيها جروديك على هامشيته في حين كان فرويد يحاول التخفيف من إندفاعه. يجدر القول هنا إن مواقف جروديك كانت جذرية إذ يعتبر أنّ الكائن البشري مخلوق رمزي وأن أعراضه هي لغة تنبع من أعماق نفسه ومؤشرات إنذار تظهر عبر جسمه. وكل مَن يبذل الجهد الكافي يستطيع أن يفهم هذه اللغة الرمزية بسهولة. على سبيل المثال، يعتبر جروديك أن قصر النظر ومجموعة أخرى من المشكلات البصرية هي أمراض نفسية تظهر حين يصبح من الصعب جدّاً النظر إلى ما هو ممنوع. وقد استعار جروديك مفهوم اللاوعي من فرويد وابتكر مفهوم الـ"هذا"، (Das Es) معتبراً أنّه قوة نفسية أكثر عنفاً وغريزية من اللاوعي الفرويدي وهو أصل كل الأمراض البدنية، فيقول: "نحن تحت تأثير الـ"هذا" وهو قوة موجودة في داخلنا توجه أبداننا وكل الآليات اللاواعية". وبدوره استوحى فرويد من مفهوم الـ"هذا" ليضع فكرة الخزائن النفسي للنزعات. مع هذا، ثمّة هوة كبيرة تفصل بين تفكير الرجلين. يقول جروديك معارضاً مبادئ التحليل النفسي: "ليس المهم ما جرى في الحياة الفردية، ولكن المهم أن ندفع الإنسان إلى الإقتناع بوجود قوة خفية مسؤولة عن الصحة والمرض، عن الموت والحياة. إن إطاعتها وعدم الإعتراض عليها هو المهم". وهكذا، بالنسبة إلى جروديك، ينبغي على الـ"هذا" غير الواعي وعلى الأنا الواعية أن يتعايشا بتناغم وإنسجام مع إحترام أولويات الـ"هذا". يعتبر يورج جروديك مخترع النظرية النفسجسدية، علماً أنّ الكلمة قد استخدمت للمرة الأولى في عام 1818، أي قبل قرن من إصدار جروديك كتابه الذي يحمل عنوان كتاب الـ"هذا"، من قبل الطبيب النفسي الألماني يوهان كريستيان أوجست هاينروث الذي كان يسعى إلى تفسير "تأثير الولع الجنسي على السل والصرع والسرطان". اعتبر الكثيرون أنّ التفسيرات التي يقدمها جروديك تفتقد إلى المصداقية، فحتى لو كان الرجل يبدو صادقاً، كانت تحليلاته أقرب إلى التأويل منها إلى الإثبات العلمي. وبدت نظرياته كما لو أنّها تبنى بعد الحديث أكثر مما كانت استنتاجات علمية بالمعنى الصحيح. وقال له نقاده إنّ الإنسان يمكن أن يوهم نفسه وأن يوجه أسئلته ويختار الأجوبة القادرة على تأكيد فرضياته الأساسية. فاعتبر أن جروديك قد فشل في محاولته المصالحة بين البعد النفسي والبعد الجسدي. بيد أنّ هذه الخاتمة الفجة تحتاج فحصاً أكثر عمقاً، إذ ليس من السهل التعبير بواسطة الكلمات عن وحدة الكائن البشري غير المنفصمة بين النفس والجسد. في الثلاثينات من القرن العشرين، تصور الطبيب النفسي النمساوي، بول فردينان شيلدر، مفهوماً موحداً حيث "صورة الجسم" المبنية إنطلاقاً من المعاش الذاتي تكون مستوعبة داخل "ترسيمة الجسم" الناتجة عن الإندماج الحسي الحركي لتجارب الفرد. ورأى أنّ التصورات التي تشكل صورة الجسم تندمج عصبياً مع دوائر عصبية خاصة بترسيمة الجسم، بطريقة قريبة جدّاً مما قاله في التسعينات عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو الذي افترض وجود "علامات بدنية" تشكل تجسيداً عصبياً حقيقياً للإنفعالات. هذا المفهوم للصلة بين النفس والجسد يرتكز على فرضية وجود علاقة، ليست نفسية جسدية، بل دماغية جسدية. وهي تفترض وجود قاعدة مادية للفكر وبالتالي تجد صعوبة أقل من النظرية التحليلية النفسية لترجمة فكرة وحدة الجسد والنفس، وحدة مادية بالطبع، ولكنها وحدة على الرغم من كل شيء.

ارسال التعليق

Top