• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

طفولة قارئة لمجتمع قارئ

طفولة قارئة لمجتمع قارئ

◄تتمحور الفكرة حول قراءة قصص مختارة بعناية للتلميذ في نهاية الحصّة الدراسية حتى تنمو علاقة صداقة ومحبّة بين المُتعلِّم والكتاب، وهذه العلاقة تبدأ في النمو مع الجنين في بطن أُمّه. فقد أشارت بعض الدراسات إلى أنّ الجنين في شهره السابع يتعرّض لسماع معلومات منظمة تجعل تفتحه الذهني أفضل في المستقبل. ولذلك، تجد النساء الحاملات في الغرب – كندا مثلاً – يقرأن لأطفالهنّ الأجنة بصوت مرتفع.

لقد آن الأوان لتصبح القراءة جزءاً من تربية وثقافة المجتمع. "إنّ الأطفال الذين يقرأون في البلاد المتقدِّمة ليس لأنهم يعرفون فضل العلم ودوره في الحياة؛ ولكن لأنّ الكبار يقرأون، وحين يقرأ الكبار والصغار، فهذا يعني أنّ ممارسة القراءة صارت جزءاً من ثقافة المجتمع".

فهل من سبيل لجعل الطفل يتخذ الكتاب خير جليس في الأنام؟ وهل من دور للأُسرة والمدرسة والمجتمع في هذا المجال؟

 

 - أهميّة القراءة:

لا يخفى على أحد ما للقراءة من أهميّة، وجميع أفراد المجتمع لا ينكرون أهميّة القراءة. وإذا كان لابدّ من كلمات في هذا المجال، فيمكن القول إنّ القراءة تعمل على:

·      تنمية المعارف والخبرات ونقل القيم والأخلاق.

·      تبعث في نفوس الأطفال الطموحات العالية وتجعلهم يحلمون بالأحلام الكبيرة.

·      أشارت دراسة أسترالية حديثة إلى أنّ القراءة بصوتٍ عالٍ تعد من الأنشطة الذهنية التي تغذي عقل الطفل، وتؤثر تأثيراً قوياً في تنمية مهاراته الإدراكية وتُنمِّي التفكير الإيجابي لديه. كما تحفز الأطفال على الدراسة وترسخ فيهم حبُّ التعلُّم. وهذا غيض من فيض، فكل ما بلغته البشرية من تقدُّم معرفي وتقني إنما كان بفضل القراءة، وبالقراءة فقط.. فالأُمّة التي لا تقرأ أُمّة على هامش التاريخ.

 

- دور الأُسرة:

من الأُسرة تبدأ الخطوات الأولى للقراءة.. ففي دراسة أجرتها داركن عام 1966 استمرت 6 سنوات لتتبع أثر قراءة الطفل منذ سن مبكرة – حوالي الثالثة من عمره – ومدى تطوُّرها لديه، كان من بين أهم نتائجها أنّ الأطفال يستطيعون أن يقرأوا قبل دخولهم الصف الأوّل الإبتدائي وقبل أن يتلقّوا أي تعليم رسمي للقراءة إذا توافر جو أسري.

ويقول الباحثان بوتلر وكلاي: إنّ هناك كمّاً هائلاً من البحوث العلمية التي تدعم وجهة النظر القائلة إنّ إتصال الطفل بالكتب والمواد المطبوعة في البيت قبل إلتحاقه بالمدرسة له تأثير كبير على نموّه المعرفي بعد إلتحاقه بها. أمّا كراشن، فقد أشار إلى أنّ عدداً من البحوث يدعم وجهة النظر التي تشير إلى أنه عندما تتوافر الكتب وتتم إتاحتها للقراءة، وعندما تكون البيئة المنزلية ثريّة بالمطبوعات بأشكالها المختلفة، فإنّ إقبال الأطفال على القراءة سيحدث بشكل أكبر واتجاهاتهم الإيجابية نحو القراءة ستنمو بشكل أفضل.

كما تُشير الأبحاث إلى أنّ الأطفال الذين يقرأ لهم أهلهم باستمرار أو أفراد آخرون موجودون في المنزل يصبحون قُرّاءً في وقت مبكر ويظهرون ميلاً طبيعياً للكتب. فالتعليم الأُسري له دور كبير في التنشئة على استراتيجيات القراءة. وفي استطلاع للرابطة الأمريكية لمجالس الآباء، تبيّن أنّ 82 في المائة من الأطفال الذين لا يحبّون القراءة لم يحظوا بتشجيع آبائهم وأُمّهاتهم.

 

- إقتراحات عمليّة:

بعد هذا العرض النظري، نورد هنا مجموعة من الإقتراحات العملية لتحفيز الأطفال على القراءة:

·      تخصيص مكان للقراءة في المنزل يكون مُضاء بشكل جيِّد، فيه كراس مريحة ورفوف مرتبة بعناية. مع اعتياد رؤية الأطفال لآبائهم وهم يقرأون، وتهيئة المناخ الذي يحيط بالطفل ويحمل رسائل واضحة ومحددة عن قيمة القراءة.

·      مشاركة الأطفال لوالديهم في كتابة الرسائل والخطابات وقائمة المشتريات، كما أنّ كتابة أسماء الأطفال على ممتلكاتهم من غرفة وكتاب وحاسوب وغيرها تسهم في تركيز إنتباه الطفل على الشيء المكتوب.

·      شراء كتب من مختلف الأحجام مناسبة لشتّى أعمار الأطفال ووضعها في جناح خاص في خزانة البيت، يعينان على ربط الأطفال مباشرة بالكتب.

·      تأليف كتاب صغير بمعية الأبناء من صور مختلفة وقصاصات وألوان، مما يعطي للطفل شعوراً بالفخر والإعتزاز لأنه مُلك له ومؤلفه الخاص.

·      القراءة للطفل بصوت مُعبِّر ومُؤثِّر ومُثير بطريقة تربوية وجذّابة والتحاور معه ودفعه لإبداء رأيه وعواطفه ومشاعره وانفعالاته، فتعلُّم القراءة يبدأ من الأذن: (الإدراك الصوتي).

·      ترك الطفل يختار كتبه المفضلة مع توجيه لطيف ما أمكن، وتحفيزه على إختيار الرفيق قبل الطريق، فالصديق القارئ يُشجِّع القراءة، وقديماً قيل: "الطباع تُسرق الطباع، والصاحب ساحب".

·      إشراك الأبناء في نوادي الكتب والمكتبات العامّة والأندية الثقافية والجمعيات المعنية بنشر ثقافة القراءة والكتاب، والإشتراك في بعض المجلات التربوية المُوجَّهة للأطفال بإسم الطفل المشترك حتى يشعر بقيمته ومكانته.

·      تضمين الهدايا المقدَّمة للأطفال في المناسبات الخاصة والعامة بعض الكتب حسب الأعمار والإهتمامات.

·      إصطحاب بعض الكتب والقصص المشوقة أثناء السفر والرحلات الطبيعية مع ترك الوقت الكافي للأطفال للعب والإستمتاع بجمال الطبيعة حتى لا ينقلب حُبّ الكتاب إلى بُغض.

·      تعويد الطفل على مشاهدة الكتب، فالبعيد عن العين بعيد عن القلب كما يقال، وإعادة ترتيب المكتبة بين الفينة والأخرى وتزيينها بالورد وصور بعض الشخصيات الكرتونية الهادفة ووضع بعض اللعب الجميلة على رفوفها، ولا تخفى الغاية من ذلك.

·      تأسيس نادي القراءة في المنزل، واستقبال أصدقاء الطفل لحصص خاصة بالقراءة يمكن أن تسبقها أو تتلوها حصة للعب لتشويق الأطفال وتحفيزهم.

·      بدلاً من حكاية قصة بطريقة شفهية، يستحسن قراءتها من الكتاب حتى يستأنس الطفل بالكتاب أوّلاً ويتعوّد عليه، ثمّ ليعرف ثانياً أنّ ما يستمتع به من أحداث وقصص منبعها هذه الوريقات التي أمامه، فتنتج بذلك صداقة خاصة بطريقة ضمنية بين الطفل والكتاب.

·      إختيار الكتب المناسبة لعمر الطفل، ذات اللغة الراقية غير الصعبة، والعبارات الجميلة والقصص الجذّابة المشوقة للخيال والمثيرة للتفكير، وقراءتها بصوتٍ مُعبِّر جميل، ومُشوِّق في جلسات عائلية، أو في نزهة أو قرب المدفأة في ليلة ممطرة، مع تجنُّب القصص المغرقة في الخيال، أو المخيفة والمرعبة، التي تُروِّج لبعض الأساطير التي تملأ قلوب الأطفال رُعباً.

·      إختيار القصص المرحة والمضحكة، فالمرح هو قوت الروح، والطفل يشعر بالإمتنان لمن يضحكه، إضافة إلى تقديم بعض الحلوى أثناء القراءة وزيارات المكتبات.

·      إذا احتاج الأبوان إلى القراءة للطفل من الحاسوب أو القارئ اللوحي أو الهاتف الذكي، فليكن ذلك لوقت مُحدَّد ودون إفراط حتى يأمن الطفل من أضرار إستخدام هذه الأجهزة التي تُحذِّر الأبحاث من المبالغة في استعمالها يوماً بعد يوم. ويشير المُفكِّر د. عبدالكريم بكار إلى أنّ تحديد وقت مشاهدة الأطفال للتلفاز وبرامج الألعاب يجعل الطفل يفر من الفراغ الذي يواجهه إلى القراءة والكتاب والرسم.

·      جلسات التسميع والقراءة يجب أن تحافظ على عاملي التشويق والإثارة وتبتعد عن الرتابة والملل مع تنويع النصوص القرائية ومواضيع الكتب بين شتّى العلوم الإنسانية من قصص وحكايات وأدب وعلوم، مراعاة لسن الأطفال واهتماماتهم.

·      يُحدِّد الخبراء أهميّة تحديث مكتبة الطفل بالكتب، ويُحدِّدون عدداً معيّناً منها حسب السن: فالدراسات تُحدِّد 5 إلى 8 كتب للأطفال من 3 إلى 4 سنوات.

 

- دور المدرسة:

لا يخفى ما للمدرسة من دور فاعل في تشجيع الأطفال على القراءة وتحفيزهم على الإهتمام بها. ولا شكّ أنّ دورها مُتمِّم لدور الأُسرة ومصاحب له. وبالتفاعل بين هاتين المؤسستين والتنسيق، نحصل على مخرجات فاعلة وجيِّدة، وذلك من خلال:

·      تشجيع الطفل على تبادل القصص مع أصدقائه مع عرض درامي لمضمون القصة في نهاية الفصل ما أمكن.

·      التواصل مع الطاقم الإداري والتربوي للمؤسسة لتقديم مجموعة من الكتب والقصص المناسبة لمكتبة القسم أو المدرسة، وتخصيص مكافآت مشجعة للأطفال الذين يقضون أوقات فراغهم في المكتبة المدرسية.

·      الإهتمام بالمكتبة المدرسية نظافة وترتيباً وجمالاً حتى تكون ملاذاً وراحة ومتعة للطفل، كما أطلق عليها في بعض الدول كالسويد والدنمارك (غرفة الراحة والمتعة).

·      إحياء دور المكتبات المتنقلة خصوصاً في البوادي والأماكن البعيدة عن المدن. وفي إحدى المؤسسات مع الأسف هدية من إحدى الدول الغربية وهي عبارة عن مكتبة متنقلة؛ لكنها معطلة عن العمل. فما جدوى الشكوى من قلّة القراءة ونحن نعطل الإمكانات المتاحة؟

·      مناقشة التلاميذ في ما قرأوه في الأسبوع أو خلال فترة زمنية معيّنة وتجاذب أطراف الحديث معهم، ودفعهم لإبداء آرائهم وتحديد بعض الفوائد التربوية، ومكافأتهم بعد كل إنجاز قرائي.

·      توفير الكتاب الممتع المشوق. يقول أحد الناشرين: "كما أنّ الطفل لا يركض ويلعب من أجل تقوية عضلاته وإنما من أجل المتعة، فهو كذلك لا يقرأ من أجل الفائدة وإنما من أجل التسلية والمتعة"، ومن هنا كانت أهميّة توفير الكتاب الممتع.

 

- دور المجتمع الرسمي والمدني ووسائل الإعلام:

كلّما تضافرت الجهود وتكاثفت، استطاعت تجاوز العقبات. ومشكلة القراءة مشكلة مركبة، فهي – كما يقول أحد المُفكِّرين – تقتضي حلولاً مركبة. فاستنفار جميع الطاقات والفعّاليات والكفاءات من شتّى المجالات الرسمية والشعبية كفيل بإعادة مجد القراءة وثقافة البحث. ومن هذه الإقتراحات في هذا المجال:

·      محاربة الأُمّيّة على الصعيدين الرسمي والأهلي (الشعبي)، وتشجيع الجمعيات والمؤسسات الناشطة في هذا المجال.

·      وضع ملصقات وصور وإعلانات تُشجِّع على القراءة في مداخل المدن والمتنزهات والحدائق العمومية.

·      عقد شراكات بين الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والوزارات المعنية والجمعيات والأندية الثقافية لتقديم تخفيضات مناسبة للأطفال الذين يشترون الكتب بحيث تزداد نسبة التخفيض كلّما اشترى الطفل كتاباً.

·      في بعض الدول العربية هناك برامج مُوجَّهة للكبار بعنوان (كتاب قرأته)، يتم الحديث فيها مع المستجوب عن آخر كتاب قرأه، فحبّذا لو يتم إنتاج حلقات خاصة بالاطفال أو وضع برنامج خاص بهذه الفئة العمرية.

·      توفير كتب للمكفوفين بطريقة (برايل) وتعميمها على المكتبات العامة حتى يتسنّى لهذه الفئة ولوج المكتبات والإنتفاع منها.

·      الإهتمام بالوظائف المتعلقة بالعلم والمعرفة وإمدادها بالإمكانات اللازمة لتأدية وظائفها حتى يهتم المجتمع بالقراءة والعلم.

ففي أوروبا مثلاً، 40 في المائة من الوظائف على صلة بالعلم والبحث، مما يجعل القراءة لدى الذين يشغلون تلك الوظائف جزءاً من سلوكهم اليومي.

وأخيراً، نختم هذا المقال بهذه الأبيات الجميلة لشاعر إنجليزي من قصيدته (الأُم القارئة):

قد تكون لديك ثروة حقيقية مخفاة

علب جواهر وصناديق ذهب

لكنك لن تكون أبداً أغنى منِّي

لأنّ لي أُمّا تُعلِّمني وتقرأ لي

ارسال التعليق

Top