• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العقل مخزن الذكريات

العقل مخزن الذكريات
◄حتى وقت قريب، لم تكن لدينا سوى قلة من المعلومات حول طبيعة عمل المخ فيما يتصل بالذاكرة.

لم نكن نعلم بالتحديد أي خلايا المخ، البالغ عددها (12) بليون خلية، تتخصص في حفظ الذكريات؟

إلى أي مدى يمكننا أن نواصل الاحتفاظ بذكرى معينة؟ وهل تختفي الذكريات؟

ولماذا يسهل استدعاء بعض الذكريات أكثر من غيرها؟

كانت الإجابة على كثير من هذه الأسئلة تعتمد أساساً على الملاحظات الخارجية للسلوك الإنساني، دون التمكن من إجراء تجارب علمية، يُعتمد عليها في الوصول إلى حقائق أو نظريات علمية ثابتة.. إلى أن ظهرت الأبحاث التي قام بها دكتور وايلدر بينفيلد؛ عالم جراحة الأعصاب بجامعة ماكجيل في مونتريال.. ففي عام (1951) استطاع بينفيلد أن يقدم من الحقائق المثيرة ما جعله يُعتبر أحد الرواد المرموقين في هذا المجال، وتمكن من تقديم الإجابات الشافية عن كثير من التساؤلات التي طرحناها.

خلال إحدى جراحات المخ لمريض مصاب بنوع من الشلل، استطاع بينفيلد أن يجري عدة تجارب على مخ المريض، عن طريق لمس أجزاء معينة من مخ المريض بواسطة قطب كهربائي يحمل تياراً ضعيفاً، وعلى مدى عدة سنين تراكمت ملاحظاته حول هذه التجارب لتصل به إلى فهم عدد من الحقائق حول موضوع التذكر؛ بل وإلى إعادة النظر في طبيعة التذكر ذاتها.

كان بينفيلد في تجاربه هذه يكتفي بتخدير المريض تخديراً موضعياً، بحيث يكون في كامل وعيه أثناء إجراء التجربة، وبحيث يتمكن من التحدث إلى الدكتور بينفيلد، شارحاً ما يشعر به كلما لامس القطب الكهربائي الضعيف موضعاً من القشرة الرمادية بالمخ، وبهذا حصل العالم الكبير على كثير من الحقائق المثيرة.

في إحدى التجارب، قام بينفيلد بلمس نقطة معينة من المخ بالقطب الكهربائي، فقال المريض: كان هناك بيانو.. شخص ما يعزف عليه؛ إنّني أسمع الأغنية.

وعندما جدد إثارة نفس النقطة مرة ثانية دون إخطار المريض، قال: شخص ما يتحدث إلى شخص آخر.

وفي المرة الثالثة صاح المريض: نعم.. إنّها أغنية.. وأنا أحفظها.. وهناك مَن يغنيها.

وعندما تمت إثارة نفس النقطة من المخ للمرة الرابعة، سمع نفس الأغنية، ووضحت له ارتباطاتها، فقال مفسراً: إنّها كانت اللحن المميّز لبرنامج إذاعي خاص.. اعتاد منذ زمن طويل أن يتابعه.

وعندما انتقل القطب الكهربائي، مع نفس المريض إلى نقطة أخرى، قال: أشعر بذكرى قديمة تتضح.. استطيع أن أرى مصنعاً لشركة تعبئة زجاجات المياه الغازية..

وأجرى بينفيلد تجربة أخرى مع نفس المريض، قال له: إنّه سيلمس نفس النقطة السابقة بالقطب الكهربائي؛ ولكنه في نفس الوقت، قطع الاتصال الكهربائي عن القطب، وعندما سأل المريض عن رد فعل هذه الملامسة قال: لا أتذكر شيئاً.

وفي تجربة مع مريض آخر، وعند لمس نقطة خاصة من المخ، قال: إنّه يرى رجلاً يسير مع كلبه، في طريق ريفي، قريب من البيت الذي كانت تسكنه عائلته منذ زمن طويل.

وعند إجراء التجربة مع مريضة أخرى، وبعد ملامسة أولى لنقطة معينة من المخ، قالت: إنّها سمعت صوتاً؛ لكنها لم تتبينه بوضوح.

وجرى بعد ذلك لمس نفس النقطة فسمعت الصوت بشكل واضح ينادي زوجها، باسم التدليل الذي تطلقه عليه.

 

نقطة لكلّ ذكرى:

من هذه التجارب وغيرها توصّل بينفيلد إلى عدد من الحقائق العلمية ذات الأهمية الخاصة، فقد ثبت أن ملامسة نقطة بذاتها في المخ تثير ذكرى خاصة وحيدة، وليس خليطاً من الذكريات المتداخلة.

كما أثبت أنّ استجابة المريض لا تكون اختيارية، فهو لا يستطيع أن يتجاهل الذكرى الخاصة بالنقطة التي جرى لمسها، حتى لو كان راغباً في ذلك وهو يعي هذه الذكرى كاملة، بكلّ ما يرتبط بها، فالأغنية مثلاً، تدخل إلى وعيه في الغالب كما سمعها في مناسبة خاصة، وعند التذكير يجد نفسه يعيش موقفاً معيناً، وهذا الموقف، ينمو ويتطور، بالضبط كما نما وتطور الموقف الأصلي الذي تستدعيه الذاكرة، فيبدو له الأمر، كما لو كان مشهداً من تمثيلية مألوفة، يلعب فيها دور المتفرج والممثل في نفس الوقت.

الجديد في هذا الاكتشاف، ليس فقط كون ذكريات الأحداث القديمة تكون مسجلة بتفاصيلها؛ بل كون المشاعر التي صاحبت تلك الأحداث تكون مسجلة على نفس الشريط؛ وهذا يعني أنّنا عندما نتذكر شيئاً ما، فإنّنا نمارس نفس المشاعر التي أثارها ذلك الشيء يوماً ما.

في هذا يقول الدكتور بينفيلد: الذكريات المثارة، لا تكون على شكل صورة بصرية أو صوتية للحدث القديم؛ لكنها تكون عملية استرجاع كامل لكلّ ما رآه المريض، وسمعه، وأحسه، وفهمه.

 

التعايش والتذكر:

بنفس هذه الطريقة، تتم استعادة الذكريات في حياتنا اليومية، بمثيرات طبيعية، تقوم بنفس العمل الذي تقوم به المثيرات الصناعية التي اعتمد عليها الدكتور بينفيلد.. وفي كلّ من الحالتين، يمكن أن توصف الذكريات المثارة، بشكل أكثر دقة، باعتبارها معايشة جديدة، أكثر منها استعادة أو استدعاء. فالشخص باستجابته للمنبه، يجد نفسه على التو داخل الحدث القديم.. أنا هناك!

وهذا الشعور قد يستمر لمدة جزء من الثانية فقط، وقد يمتد إلى عدة أيام.. بعد هذه الخبرة أياً كان مداها الزمني، يمكن فقط للشخص أن يتذكر بشكل واعٍ، أنّه "كان هناك" وعلى هذا يكون التتابع في عملية التذكر الإجبارية هذه على الوجه التالي:

1-    المعايشة: معايشة الحدث مرة ثانية، وهذه تكون مصحوبة بمشاعر تلقائية إجبارية.

2-    التذكر: ويتم هذا عند التفكير الواعي الاختياري في الحدث القديم الذي تمت إثارته.

وفي كثير من الحالات نتمكن من معايشة ذكرى قديمة، دون أن تكون لدينا القدرة على تذكيرها.

وفي التقريرين الطبيين التاليين، تصوير يوضح طبيعة الآليات التي تتميز بها الذاكرة.

قالت سيدة في الأربعين من عمرها لطبيبها النفسي: إنّها كانت تسير في أحد الشوارع ذات صباح، عندما مرت بمتجر للآلات الموسيقية، فاستمعت إلى لحن معيّن يصدر عن ذلك المتجر.. وعلى الفور تملكتها حالة من الحزن والاكتئاب الذي لا يمكن مقاومته.. وشعرت بحالة من الإحباط واليأس الكامل، بشكل يصعب تفسيره، وأكدت للطبيب النفسي أنّ هذه الحالة التي لا يمكن احتمالها، لم تجد أي تفسير لها.. عند ذلك سألها الطبيب إذا كان هناك ما يرتبط بهذه الأغنية في ما مضى من عمرها، فأفادت أنّها غير قادرة بتاتاً على إيجاد أي رابطة بين هذا النغم، ومشاعر الحزن.

بعد عدة أيام، اتصلت السيدة بالطبيب قائلة: إنّها تعمدت خلال تلك الأيام التغني بهذا النغم بصفة مستمرة، حتى حدث فجأة أنّ التمع في ذاكرتها، مشهد تظهر فيه أُمها وهي تعزف نفس ذلك اللحن على البيانو.

وبدراسة تاريخ هذه السيدة، عرف الطبيب أنّها كانت في الخامسة من عمرها، عندما توفيت الأُم.. وقد تسبب لها فقد الأُم حينذاك، في حالة من الاكتئاب الشديد.. استمرت معها لوقت طويل بعد ذلك، على الرغم من كلّ جهود العائلة لإخراجها من هذه الحالة، التي قضت بإقامة خالتها معها في نفس البيت لتحل محل الأُم، وعلى أمل أن تتحول عواطفها نحو أُمها بشكل طبيعي إلى هذه الحالة؛ ومنذ ذلك التاريخ لم تخطر هذه الأغنية على ذاكرتها.. حتى كان ذلك اليوم الذي مرت فيه بمتجر الآلات الموسيقية.

وعندما سألها الطبيب النفسي بعد ذلك.. إذا كان تذكرها لهذه العلاقة قد خلّصها من شعور الاكتئاب الذي تعاني منه؛ قالت السيدة: إنّ طبيعة مشاعرها قد تغيرت، فرغم أنّ شعور الاكتئاب ما زال باقياً كلما تذكرت وفاة أُمها، إلّا أنّ هذا الشعور لا يقاس بحالة اليأس الطاغي، التي عانتها عندما استمعت إلى نغمات الأغنية، صادرة من متجر الآلات الموسيقية.. إنّها الآن تتذكر المشاعر التي سيطرت عليها عند وفاة الأُم بشكل واعٍ، أما في المرة الأولى، فقد كانت تعاني نفس المشاعر التي عانتها عندما كانت في الخامسة من عمرها.

 

المشاعر المفرحة:

وبنفس الأسلوب يتم استدعاء المشاعر الطيبة المفرحة؛ فكلنا يمارس السعادة التي تتدفق على النفس، إذا ما شممنا عطراً ما، أو استمعنا إلى صوت معيّن.. وفي كثير من الأحيان يتم هذا التداعي بطريقة غاية في السرعة.. بحيث يفوتنا أن نلحظ هذه المشاعر أو نتذكر ارتباطها.. وما لم نبذل الحد الأدنى من الجهد العقلي؛ فلن نصل إلى تذكر الخبرة التي ترتبط بتلك الرائحة أو بذلك الصوت، أو بهذه الصورة.

وفي التقرير الثاني، روى المريض لطبيبه هذه الواقعة: كان يسير في شارع يخترق حديقة عامة، وعندما شم رائحة الجير والكبريت التي تطلى بها سيقان الأشجار لحمايتها من الآفات الزراعية، غمرته سعادة متدفقة لا يعرف لها سبباً.

وكان من السهل في هذه الحالة كشف الحدث الأصلي المتسبب في هذا الشعور، باعتبار أنّ شعوره نحوها كان طيباً. فقد تذكّر المريض أنّ هذه المادة كان والده يطلي بها شجرة التفاح بمنزلهم الريفي القديم، قبل أن يحل فصل الربيع؛ عندما كان في طور الطفولة.. لقد ارتبطت هذه الرائحة بكلّ المشاعر المبهجة التي يثيرها حلول الربيع بالنسبة إلى طفل صغير، اخضرار الأشجار، والمباهج التي يستمتع بها الصغار بانطلاقهم خارج منازلهم بعد انقضاء فصل الشتاء الطويل.. وكما في حالة السيدة الأخرى، يختلف الشعور بالتذكر الواعي للحدث، عن تفجّر المشاعر الأصلية التي ترتبط بذلك الحدث. فالتفكير الواعي لا يصل بنا إلى نفس المشاعر التلقائية المبهجة العظيمة التي شعرنا بها قديماً.. الأمر يبدو كما لو كنا نحس ببعض المشاعر حول مشاعرنا السابقة.

وهذا يصوّر استخلاصاً آخر من الاستخلاصات التي توصّل إليها الدكتور بينفيلد وهو أنّ: تسجيلات الذاكرة تبقى على حالها من القوة حتى بعد أن تغيب قدرة الشخص على تذكرها.

 

الذاكرة.. وعنصر الزمن:

كما اكتشف بينفيلد، أنّ الشخص العادي كلما أبدى انتباهاً واعياً لأي شيء يدخل في محيطه، فإنّ ذاكرته تعمل فورياً على تسجيل كلّ ما تنبه لوجوده.

من هذا، يمكننا استنتاج أنّ تسجيل الذكريات يتم على صورة مشاهد متتابعة، وفي هذا يقول بينفيلد:

عندما يتصل القطب الكهربائي بمنطقة من مناطق التذكر في المخ؛ قد ينتج عن هذا تذكر صورة ما، غير أنّ هذه الصورة لا تكون عادة ثابتة ساكنة؛ بل تتغير وتتحرك، بنفس الطريقة التي تغيرت وتحركت بها عندما تم التسجيل في المخ فالشخص يتذكر المشهد ثانية بثانية وبتتابع كامل، كما يتذكر الأغنية في تتابعها كلمة بكلمة، منذ أن يبدأ المغني في ترديدها وحتى ترددها خلفه المجموعة.

ويستنتج من ذلك أنّ خيط الاستمرار في الذكريات المثارة يتركز في عنصر الزمن؛ فمجموعة الذكريات يتم تداعيها في تلاحق زمني؛ كما يقول: إنّه توصّل من خلال تجاربه، إلى أنّ ما يتم تسجيله من الحدث، يقتصر على المحسوسات التي تلفت انتباه الشخص عند وقوع الحدث؛ وليس سيل المؤثرات الحسية التي تتدفق بصفة مستمرة على الجهاز المركزي العصبي عند الإنسان.

وعند إثارة تتابع من الذكريات المركبة، يظهر أنّ كلاً من هذه الذكريات له مجراه العصبي الخاص.

والتجارب التي قام بها بينفيلد، كشفت جانباً من الطريقة التي يؤثر بها الماضي على الحاضر في حياة كلّ شخص. فيقول:

الأوهام والخيالات، يمكن أيضاً أن نستدعيها عند الشخص، بإثارة نقطة معينة من المخ.. وعادة ما يتم الحكم على هذا الخليط المضطرب من الأحاسيس المثارة، قياساً على الخبرة الراهنة للشخص.. فيكون بإمكانه أن يحكم ويقرر إذا ما كانت الخبرة المستثارة، مألوفة أم غريبة؟ أم أنّها عبثية لا معنى لها؟

كما يمكنه أن يحكم بخبرته الراهنة على مدى مطابقة المسافات والحجوم للواقع، وعما إذا كان الموقف الطارئ مريحاً أو مفزعاً؟

وهذا دليل على أنّ الخبرات الجديدة، يجري على الفور تصنيفها قياساً على الخبرات الشبيهة السابقة، حتى يمكن الحكم على أوجه الاختلاف، أو الاتفاق بين الحديث والقديم.

مثال ذلك، ما يجري عندما نريد استدعاء التفاصيل الدقيقة لملامح زميل قديم بعد مرور فترة طويلة من الزمن على آخر لقاء به، فنجد صعوبة في ذلك.. ومع هذا ما أن نلتقي به مصادفة، حتى نتمكن على الفور من إدراك أدق التغييرات التي طرأت على شكله خلال ذلك الزمن.. ندرك على الفور بشكل كامل، التجاعيد التي طرأت على وجهه، والتغيير الذي تم في شكل ولون شعره، والتحوّل في مدى استقامة كتفيه.

كون الذكريات محفوظة بتفاصيلها في مجموعة مصنفة كما لو أنّها كانت مجلدات ضخمة تذخر بها مكتبة كبيرة.

هذه الحقيقة هي أولى الخطوات نحو معرفة دقيقة بفسيولوجية المخ، وطريقة عمله.

بهذا يتمكن العلم يوماً ما من الوصول إلى ترجمة علمية – في شكل معادلات فسيولوجية؛ وليس اصطلاحات سيكولوجية فقط – لطبيعة هذه المجموعات من الذكريات وآلية تشكيلها واستخدامها، وطبيعة العمليات المتكاملة التي تكمن خلف خبايا عملية الإدراك.►

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ 60 طريقة لجعل حياتك أفضل

ارسال التعليق

Top