• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حول العقل والفكر والثقافة

حول العقل والفكر والثقافة
  ◄إنّ تطوير أي جانب من الجوانب المتصلة بشخصية الإنسان يعد بالغ الأهمية، لأنّ تكلفته ليست كبيرة، ولأنّ ذلك قد يكون الخيار الوحيد في بعض الأحيان؛ ولأنّ النجاح فيه قد يكون بعيد الأثر إذ يدفع بأمة من القاع إلى القمة!

وليس لنا أن ننسى أنّ ذلك من وجه آخر لا يتم إلا ببطء شديد، فهو يحتاج إلى صبر لا يقبل النفاد، وإلى عناية فائقة؛ فإقناع شخص بفكرة جوهرية قد يستغرق سنوات، وتدعيم الناحية الروحية لدى إنسان، أو تغيير عادة قبيحة عنده، يستغرق وقتاً أطول مما نظن؛ لأنّ الانتكاس أمر مألوف في هذه المجالات، لكن لا توجد خيارات ولا بدائل عن النهوض بالإنسان.

الفكر هو الذي يقود التقدم، فلا يمكن لمجتمع أن ينهض ما لم يتقدم الفكر لديه، ويكن في وسعه توفير الأسس المنهجية والإصلاحية لذلك.

إنّ التفكير لا يُسهم في الكشف عن حقائق جديدة فحسب، وإنما يساعدنا على تناول المعلومات المتاحة بطريقة جديدة، تضفي عليها أبعاداً جديدة، لم تكن مألوفة، كما أنها تفسرها على نحو جديد.

بالتفكير وحده يمكن لنا أن ندمج حقائق الماضي ونظمه في الحقائق والنظم المستجدة، ونزيل التنافر بينها.

إنّ من الملاحظات المنقولة عن (أنشتاين) قوله: "لا يمكن حل المشكلات المهمة التي نواجهها بنفس مستوى التفكير الذي كنا عليه عندما أوجدناها". فالمشكلات تتراكم في كثير من الأحيان بطريقة غير مرئية، ونتيجة عوامل عديدة ومعقدة، والخلاص منها يحتاج إلى تفكير يتطور، ويتعقّد باستمرار؛ وهذا كلّه يجعل تنمية التفكير وتطويره أمراً ضرورياً للغاية!

إنّ لحيوية الأفكار سلطاناً أعظم بكثير مما يظن الناس، وإنّ قوة الفكر في المدى البعيد هي أكبر من أية قوة إنسانية أخرى، مع أنّ ثمار إشراقات المفكرين قد لا ينتفع بها الناس إلا بعد ممات أصحابها!

 

العقل والثقافة:

زوَّد الله – جلّ وعلا – بني الإنسان بطاقات ذهنية فطرية قادرة على التحليل والتركيب والتقويم والاستفادة من الخبرات المختلفة... وهذه الإمكانات قد تختلف من شخص إلى آخر اختلافاً عظيماً، لكنها على مستوى الشعوب متقاربة – في الأحوال العادية – إلى حد بعيد.

ومع تقدم المعرفة وتعقد الحياة، واحتياج كثير من الأعمال إلى تعاون فريق متكامل أكثر من حاجتها إلى الفرد المبدع – صرنا نشعر بتراجع أهمية الذكاء الفطري، وتعاظم قيمة المعرفة والخبرة والتدريب. ومما يروى عن (أديسون) قوله: العبقرية واحد في المائة إلهام وتسعة وتسعون في المئة عرق جبين.

في الحضارة الإسلاميّة الزاهية كانت المعرفة تستمد نموها واكتمالها من التجربة. وعندما دخلنا في نفق الجمود والانحطاط، صارت المعرفة تنمو بعيداً عن الواقع، وتستلهم الخيال، وتستند إلى معطيات المماحكات الجدلية واللفظية. ومنذ (جليلو) في القرن السائع عشر أخذت التجربة الأوربية في بناء العلم على البحوث الميدانية والآلات الصناعية التي يتم تحسينها باستمرار، وبتقدم العلم ذاته. وصار تقدم الفكر من ذلك اليوم مرهوناً بتقدم المعرفة.

وقد طرأ تحول ذو شأن على تعاملنا مع القدرات الفطرية، حيث كان يُنظر إليها على أنها شيء محتوم لا حيلة لنا تجاهه، لكن الأمر قد تغير اليوم؛ إذ إنّ هناك فيوضاً من الدراسة والملاحظات التي تؤكد ارتفاع مستوى الذكاء نتيجة التدريب واستخدام تقنيات الوسائل التعليمية. وقد أظهرت بعض الدراسات أنّ الأطفال الذين نُقلوا من بيئة فقيرة بالمثيرات العقلية إلى بيئة غنية بالنشاط الثقافي، أظهروا ارتفاعاً في نسبة ذكائهم.

وفي بحث حديث حول أثر تقنيات التعليم في الذكاء لدى الأطفال سجَّل الأطفال الذين يدرسون في مدارس غنيّة بوسائل التعليم ذكاء مرتفع قدره (53/ 104) بالنسبة للبنات و(106) بالنسبة للبنين.

أما الطلاب الذين يدرسون في مدارس فقيرة بالوسائل التعليمية، فكان حاصل ذكائهم منخفضاً، وهو (4/ 86) لدى البنات، (75/ 88) لدى الذكور.

وهذه فوارق كبيرة، وهي تؤكد على أنّ الحد من ضعف الإمكانات الذهنية صار اليوم ممكناً أكثر مما كان يُظن.

ويمكن تعريف النظام المعرفي بأنّه: "جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخيةٍ ما بنيتها اللاشعورية، أو هو في ثقافةٍ ما بنيتُها اللاشعورية".

والخبرة هي ما يتزايد باستمرار مما يُسجَّل في الذاكرة... من وقائع وضوابط ودوافع وقواعد وفروض.

والوعي هو استخدام الخبرة استجابة للإرادة.

والتفكير هو مهارة التشغيل التي تؤثِّر من خلالها الإمكاناتُ الذهنية في الخبرة.

إنّ التفكير هو نوع من الاستقصاء والسبر والخضّ لما لدينا من معلومات ومعارف ومبادئ وملاحظات وانطباعات من أجل الفهم أو اتخاذ قرار أو القيام بعملٍ ما.

إنّ التفكير قد يكون مستحيلاً في بعض الأحيان دون وجود معلومات، وقد يؤدي توافر المعلومات بصورة كافية إلى جعل التفكير غير ضروري.

أما ما يقع بين هذين الحدين فإنّه يتطلب كلاً من التفكير والمعلومات.

ويمكن القول بعد هذا وذاك: إنّ بين الأفكار والمعلومات تفاعلاً دؤوباً؛ فالأفكار تتولد بتطبيق التفكير على البيانات، ولدى قيامنا بجمع المعلومات، فإننا نجمع البيانات التي سبق أن نُظمت عن طريق الأفكار القديمة. وللإفادة من تلك الأفكار نجدنا بحاجة إلى التفكير، وليس إلى مزيد من المعلومات.

إنّ الوعي حين يصدم بمشكلة يعود إلى (الثقافة)، باعتبارها مخزون الخبرة الجماعية، فإن لم يجد جواباً، أو وجد جواباً ناقصاً لجأ إلى الخبرة المباشرة التي تشكل التجربةُ مصدرَها الأساسي، فإن لم يجد لجأ إلى تلقين أجوبة سحرية أو خيالية أو خرافية بغية الخلاص من القلق الذي يصاحب كلّ مجهول.

إنّ من جملة مشكلاتنا فقد التوازن بين المعلومات والتفكير، وكثيراً ما ننحاز إلى جانب المعلومات على حساب الاهتمام بالتفكير، لكننا في بعض الأحيان نمارس التفكير دون أدنى قاعدة معلوماتية مقبولة.

إنّ كثرة المعلومات والتفاصيل حول قضية محددة قد تعوق العقل، وتضيّعه، وتجعل استخدامه لنماذجه الخاصة صعباً؛ لأنّ المعلومات كثيراً ما تتوزع على نماذج ومساقات متعارضة ومتقاطعة، مما يُربك العقل الذي سيستخدمها إرباكاً عظيماً!

إنّ الخلاصة التي ننتهي إليها، هي أنّ تنمية قدراتنا العقلية، وتنمية طرق التفكير الجيد صارت ممكنة أكثر من أي وقت مضى، وإنّ الذي نحتاجه هو التدريب الجيد إلى جانب عطش للمعرفة لا يعرف الارتواء!.►

 

المصدر: كتاب مدخل إلى التنمية المتكاملة/ رؤية إسلاميّة

ارسال التعليق

Top