• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

من أهداف الزُّهد في الاسلام

أسرة البلاغ

من أهداف الزُّهد في الاسلام

الإسلام يحثُّ على الزُّهد تحقيقاً للأهداف التالية: 1- الإيثار: فمهمّة الدين تتمثّل في حلّ المشكلة الاجتماعية الناتجة عن تعارض المصلحة الفردية مع المصلحة الاجتماعية، والاسلام يُربِّي أبناءه تربية ينحل معها هذا التعارض، بل ويصبح الفرد المسلم يجد لذّته في التضحية بلذائذه من أجل مصلحة الآخرين، ويحرم نفسه من الملبس والمأكل والمشرب كي يتمتع بها الآخرون، ويحرم نفسه من النوم والراحة كي يسعد الآخرون.

صور الإيثار التي يذكرها لنا القرآن وكتب التاريخ عن الرعيل الأوّل من المسلمين تؤكِّد قدرة الاسلام على خلق الانسان المتفاني في سبيل الآخرين.

سورة (هل أتى) تخلد واحدة من تلك الصور، حيث تتحدّث عن إيثار أمير المؤمنين علي وأهل بيته الكرام، وتشير إلى تقديم ما يملكونه من طعام إلى مسكين ليلة، وإلى يتيم في الليلة التالية، وإلى أسير في الليلة الثالثة: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيماً واسيراً * انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً) (الدهر/ 8-10).

الاسلام حثّ على هذا الزُّهد في متاع الحياة الدنيا ورَغَّبَ فيه لأنّه تربية للإنسان على طريق السموّ والتكامل، ومدح الصفوة المؤمنة من الأنصار التي جَسَّدت أروع صور الإيثار في المدينة، فقال تعالى: (ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة) (الحشر/ 9).

2- المواساة: الاسلام يُربِّي أفراد المجتمع على الاشتراك في العواطف والأحاسيس، ويُصيِّر منهم جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.

من هنا لا يمكن أن نتصوَّر في المجتمع الاسلامي وجود فئة معدمة وفئة مترفة، لأن روح المواساة التي يخلقها الاسلام في المجتمع تأبى على المتمكِّنين أن يتركوا المعوزين في فاقتهم وفقرهم.. وهنا يأتي دور الزُّهد ليخلق روح التكافل الاجتماعي، وليدفع أفراد المجتمع الاسلامي إلى لأخذ بيد الضعفاء وإزالة ظاهرة الفقر من المجتمع أو لإزالة ظاهرة التفاوت الفاحش في مستوى المعيشة.

الإسلام يعير أهمية كبرى لزهد الحاكم الإسلامي، لأن هذا الحاكم بحاجة إلى روح المواساة أكثر من غيره، ولأنّ الزُّهد في الحاكم يخلق في المجتمع معايير لتقييم الأفراد لا ترتبط بالمال والمتاع.

من هنا كان لزاماً على الحاكم الاسلامي في المجتمع المسلم أن يعيش مثل أبسط الناس وأضعفهم في المعيشة.

هذا أمير المؤمنين عليّ (ع) يُجسِّد نموذج الحاكم المسلم الزاهد، إذ يقول: ".. وإنما هي نفسي أُروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق.. ولو شئت لاهتديتُ الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز؛ ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمه - ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع - أو أبيتُ مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة ... وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أُسوة في جشوبة العيش؟".

الانسان مُكلِّف بالتحرُّر من هذه القيود المفتعلة قدر ما يتحمّله من مسؤولية على الساحة الاجتماعية، لذلك كان الأنبياء مكلفين بالتحرُّر من هذه القيود أكثر من غيرهم

الزُّهد يؤدّي في حياة الانسان دوراً هاماً في تحريره من العوامل التي تشدّه إلى البطر والراحة والسكون وتكريس الذات، ويجعله قادراً على الاندفاع السريع على صعيد العمل الاجتماعي والخدمة الاجتماعية.

من هنا كان الأنبياء (ع) أكثر الناس تحرُّراً من القيود المفتعلة، وكان رسول الله (ص) "خفيف المؤونة"، كما تذكر كتب السيرة.

وهذا خرِّيج مدرسة رسول الله، علي بن أبي طالب، يتحدّث عن ترويضه لنفسه على الانعتاق من القيود الدنيوية المفتعلة، فيقول: "إليك عنِّي يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذهاب في مداحضك أغربي عنِّي، فوالله لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم الله - يميناً أستثني فيها بمشيئة الله - لأروضنَّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةً دموعها، أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل عليَّ من زاده فيهجع؟!! قرّت أذن عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعيّة!".

وهذا الإنعتاق لا يعني الإنعزال عن الدنيا، بل يعني دخول معركة الحياة بترفُّع والتخلُّص من كلّ الذاتيات، والذوبان التام في المبدأ، والتضحية المستمرة على طريق أهداف الرسالة، يعني ممارسة الحياة ممارسة القائد لها لا المنقاد، والموجِّه لمسيرتها لا التابع لها اللاهث وراءها.

وهكذا كان أمير المؤمنين علي (ع) وسائر المقتدين برسول الله (ص).

4 – تذوُّق اللذّات المعنوية: الانغماس في تلبية حاجات الجسد المادّية يُغلِّظ الحس ويُضخِّمه، ويغلق منافذ المشاعر الانسانية واللذائذ المعنوية.. الفرد الذي يعيش بين معلفه ومضجعه لا يمكن أن يتحسس لذّة معنوية مثل لذّة الدعاء، ولذّة الاتصال بالله ولذّة التضحية من أجل الآخرين، ولذّة طلب العلم والتفكير والعطاء.

وحين يمارس الانسان عملية الترفُّع عن الانغماس في اللذّات المادية، وعملية الانسلاخ من الانشداد البهيمي بالأرض والمتاع، فإنه يتفتح على عالم جديد وعلى لذّات جديدة لا تقل عن اللذّات المادية، إن لم تكن أعمق منها.. من هنا كانت لذّة الصلاة قرّة عين الرسول الأعظم، وإحدى ثلاثة أشياء يتعشقها في الحياة الدُّنيا.

الانسان العابد الزاهد يرى حقائق الكون بمنظار يختلف عن ذلك الفرد المنغمس في حسّه المادي.. والفرق بين الاثنين لا يقتصر على إطار الرؤية، بل يتسع ليشمل التفكير والاستنتاج والتقييم والربط، يقول تعالى: (ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الالباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك).

ارسال التعليق

Top