إنّ تطوير أي جانب من جوانب الشخصية الإنسانية، يعد بالغ الأهمية؛ لأن تكلفته ليست كبيرة، ولأن ذلك قد يكون الخيار الوحيد في بعض الأحيان، ولأنّ النجاح فيه قد يكون بعيد الأثر، واسع الأصداء؛ إذ يمكن أن ينعكس على جميع جوانب الحياة.
إنّ التقدم المادي، قد تعترضه معوِّقات كثيرة، وقد تُستنفد الموارد الأساسية المستخدَمة فيه؛ كما أن تقدم الإنسان على المستوى العضوي محكوم ببعض الحتميات التي تجعله يقف عند حدود معينة، ثمّ يدخل في مرحلة التراجع والتدهور التام.
أمّا التقدم الروحي والعقلي، فإن أمداء النمو أمامه ما زالت فسيحة جدّاً، لأن ما حصل من تقدم في هذا المضمار هي في الأساس هائلة؛ بالإضافة إلى أن خبرات كثيرة قد تراكمت لدى الناس على صعيد تعلم طرق التفكير الجيِّد، كما تم اكتشاف الكثير من الأخطاء الشائعة في التفكير؛ مما يؤذن بفتوحات كبيرة في هذا الشأن.
كان يعتقد أنّ الدماغ يصل إلى الذروة بين سن (8-24) عاماً من العمر، ثمّ يبدأ بالتدهور بعد ذلك، والذي يشمل معظم القدرات العقلية. وكانت الأقاويل الشعبية تدعم هذا المعتقد، كالقول: "لا يمكنك أن تعلِّم كلباً عجوزاً حيلاً جديدة". لكن البحوث الحديثة أثبتت أنّه إذا ما حُفز الدماغ – بقطع النظر عن سنِّ صاحبه – فإنّه ينمي فيزيولوجياً المزيد من النتوءات على مجسَّات الخلايا الدماغية، وإنّ هذه النتوءات تزيد من عدد الروابط داخل الدماغ الإنساني. في ضوء هذه المعرفة يذوي المعتقد القديم بأننا نفقد خلايا دماغية مع تقدم العمر. هذا إلى جانب حقيقة أنّه يمكننا توليد روابط دماغية جديدة بسرعة أكبر من معدل النقص في الخلايا الدماغية بكثير.
إنّ العقل البشري نعمة عظمى من الله – جلّ وعلا – وله قدرات خارقة، هي أكثر مما يظن، وهو أشبه بعملاق نائم. وتُظهر الدراسات النفسية والتربوية وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات – أن ما تم استخدامه من إمكانات العقل الهائلة لا يزيد على (1%) من إمكاناته الحقيقة. كمبيوتر (كراي) حاسب عملاق، يزن سبعة أطنان، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة عام، فإنّه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة! مع أن وزن الدماغ البشري هو نحو من كيلو ونصف ليس أكثر؛ (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون/ 14).
في العالم اليوم توجه شامل وراسخ إلى اختصار الأعمال البدنية، وتقليل المواد المستخدمة في الإنتاج، إلى جانب تقليل الحركة والتخفيف من أعمال المكاتب لصالح العمل في المنازل، كما أنّ هناك محاولات جادّة وحثيثة في مجالات الكشف عن المواد الجديدة وعن مصادر للطاقة المتجددة... وكل ذلك يدفع – على نحو متسارع – بحركة الاهتمامات البحثية صوب الاستثمار في الأعمال الذهنية والمعرفية، كما أنّه يتم التخلي شيئاً فشيئاً عن الاهتمام بالأعمال البدنية، وما تستلزمه من المهن والحرف المتدنية. ويمكن القول: إنّ ما سيكون مطلوباً من الأجيال القادمة هو المزيد من الاستخدام الكفء للقوى الذهنية، حيث التعقيد المتناهي في جميع نظم الحياة.
وقد باتت الشركات الأكثر ذكاء تدرك أن كلاً من الإنتاجية والربحية يمكن أن يرتفعا ارتفاعاً هائلاً بقدر ما يجري من تخفيض العمل (اللاذهني) إلى الحد الأدنى، وهذا كله يستلزم منا اهتماماً جديداً بأحوالنا العقلية والذهنية.
يمكن القول: إنّ لـ(العقل) شكلاً ومضموناً، فشكله تلك القدرات والإمكانات التي زوّد الله – تعالى – بها دماغنا، مثل قدرته على خزن المعلومات واسترجاعها، ومثل قدرته على التخيل والتحليل والتركيب... وقد كان يظن قديماً أن عِظَمَ الرأس دليلٌ على شرف الإنسان ونباهته وذكائه، والمقولات الشعبية تعكس ذلك. وبعد تقدم المعرفة بالدماغ ساد الاعتقاد بأن عدد الخلايا الدماغية، يقرر مستوى الذكاء عند الإنسان، لكن سرعان ما تم التخلي عن هذا الاعتقاد بعد أكتشف أن هناك العديد من الناس الذين لديهم أدمغة كبيرة وذكاء قليل، كما أنّ هناك العديد منهم الذين لهم أدمغة صغيرة وذكاء ملحوظ.
وقد كان العالم (أنوخين) من أوائل الذين أدركوا حقيقة أن ما يقرر درجة الذكاء ليس عدد الخلايا الدماغية بل علاقة النتوءات الصغيرة لمجسَّات خلايا الدماغ. ووجد أن كل نتوء يرتبط على الأقل بنتوء آخر بفعل الاندفاعات (الكهروكيماوية). وتشكل هاتان الخليتان أشكالاً صغيرة مع خلايا فردية أو مجموعات خلايا أخرى. في أثناء تقدمه في هذا المجال أدرك (أنوخين) أن كل دماغ هو (تحالق) أخّاذ لأشكال كونتها آلاف النتوءات على الأذرع العديدة لملايين الخلايا الدماغية. وقدرات الدماغ المختلفة قابلة للتنمية وللشحذ لتعمل على أحسن وجه ممكن.
أمّا مضمون العقل فمنه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي تستخدم في استيعاب الأشياء وإدراك العلاقات بينها، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين، وإدراك أنّ الكل أكبر من الجزء، واستحالة القيام بعمل خارج الزمان والمكان... والتمايز بين الأمم والأفراد في استخدام تلك المبادئ شبه معدوم.
ومنه ما يعود إلى شيء مكتسب مرتبط ب(الثقافة) السائدة، وهذا في الحقيقة يتشكّل من مجموعات المفاهيم الراسخة والمترابطة التي يحاول المجتمع من خلالها وبها استيعاب الواقع الموضوعي وتنظيمه وتكييفه مع حاجاته... وهذا النوع من المضمون مطلٌّ بالضرورة على مبادئ التفكير الفطرية ومرتبط بها.
القرآن الكريم يركز على هذا المضمون الفكري المكتسب باعتباره شيئاً قابلاً للتصحيح والتنمية، كما أنّه قابل للكثير من الضلال والانحراف، وما ذلك إلا لأنّه يعكس الشروط الاجتماعية والتاريخة للثقافة التي تغذيه، وتمده بالمفاهيم المكونة لوجوده، والتي تحرك الوعي وتوجهه في نهاية الأمر.
والقرآن الكريم في سبيل ذلك لا يستخدم لفظ العقل أو الفقه أو الفكر، وإنّما يستخدم صيغة الفعل (يعقلون)، (يفقهون)، (يتفكرون) ليشير إلى المحصول النهائي الذي يشكل العقل ومضامينه، والذي يتجلى في سلوك المرء، ويحدد مواقفه، كما ينظم ردود أفعاله. وكأنّه بهذا النهج يشير إلى العمل على ذلك المحصول باعتباره الثمرة الشاملة لكل جوانب العقل، وباعتباره المحك النهائي في (تقييم) ما نحرزه من تقدم في هذه السبيل. وذلك المحصول يسميه القرآن الكريم – على نحوٍ عام – (الحكمة) التي هي ناتج مركب ثلاثي، هو: الذكاء والمعرفة والإرادة.
- العقلانية:
العقل من خلال شكله ومضمونه ينتج شيئاً نسميه (العقلانية) وبما أنّ الثقافة تختلف بين أمة وأخرى في كثير من قيمها ومبادئها واهتماماتها – فإنّ المتوقع من (العقلانية) أن تتسم بطابع النسبية بسبب الدور البالغ للثقافة في تكوينها؛ ولذا فليس ثمة عقلانية تستحوذ على الحياد والإطلاق. ومن الملحوظ في التعبير القرآني استخدام كلمة (الحكمة) بعد كلمة (الكتاب) حيثما اجتمعا في الآية الواحدة، وهذا يشير إلى ما ذكرناه هنا، فلابدّ للحكمة وللعقلانية من أن تؤطرا بإطار الكتاب (الوحي) حتى يكتسبا المرجعية العليا والمصداقية الحاسمة، ويمثلا أرضية مشتركة في تعايش الأفراد والأمم، وفي صياغة الخطوط العريضة لفهم الحياة والأحياء.
إنّ بُنانا الفكرية ليست مسوَّرة بأسوار، تصد عنها رياح التغيير العاتية، فهي – باعتبار ما – انعكاس لما يجدّ من نظريات وآراء علمية مبثوثة في جميع مجالات الحياة، كما أن توازنها يمكن أن يتعرض للاختلال بسبب مطالب الحياة الجديدة، والصعوبات البالغة التي تكتنف الحصول على مستوى مقبول من العيش الكريم.
إنّ من واجبنا دائماً أن نمتلك أعلى درجة من اليقظة والحذر حتى نحمي مضمون عقولنا من البرمجات الثقافية والبيئية الزائفة التي تحول دون استيعاب الواقع على الوجه الصحيح، والتي تشوش تنظيماً لردود أفعالنا. والأهمية المتزايدة التي يكتسبها الجانب العقلي من ذواتنا تجعل آثار الأخطاء الصغيرة كبيرة، وعواقب فقد التوازن مدمرة.
إنّ كثيراً من تطورنا العقلي يأتي من خلال (التعليم الرسمي) لكن ما أن يترك كثيرون منا مقاعد المدرسة أو الجامعة حتى يتركوا عقولهم للتجمد، فلا يقومون بأيّة قراءة جادة، ولا يستكشفون موضوعات جديدة بعمق حقيقي خارج دائرة عملهم اليومي، ولا يفكرون بطريقة تحليلية، ولا يكتبون – على الأقل – بطريقة يختبرون بها قدرتهم على التعبير عن أنفسهم بلغة منفتحة وواضحة ومختصرة، ويستسلمون عوضاً عن ذلك لقضاء الوقت في الجلوس لرؤية التلفاز!.
وفي النهاية فإن أفكارنا حول التجديد والتغيير والنمو ستظل عديمة الفائدة، ما لم نمتلك الإرادة الصلبة التي تكتشف الإمكانات، وتصنعها.
المصدر: كتاب العيش في الزمان الصعب
ارسال التعليق