1- الطهارة المادّية والمعنوية:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة/ 6).
التطبيق الحياتي: يريد الله للإنسان أن يعيش طهارتين: حالة التطهّر الجسدي وحالة التطهّر الروحي، لأنّ الحياة المستقيمة الطاهرة بحاجة إلى الطهارتين معاً.
وفي الطهارة الروحية، كالتطهّر من قذارة الكفر، والضلال، والذنوب الكبيرة والصغيرة.
الطهارتان تلتقيان في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222)، فالتوبة طهارة روحية والتطهّر الجسدي طهارة مادِّية، حيث يُراد للطهارة المادّية أن تتحوّل إلى حالة رافضة لكلِّ الخبائث والقذارات، فلابدّ من (المحيط الطاهر) إلى جانب (القلب الطاهر).
2- الصلاة:
أ- غايتها:
قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).
التطبيق الحياتي: إقامة الصلاة غير أدائها، هي أن يكون لها انعكاسات في الحياة، فكلّما ازداد ارتباطك بالله من خلالها شعّ ذلك على المحيطين بك. هي الشعور بحضور الله في وعيك بحيث تسهم في صناعة شخصيتك الرافضة للفحشاء والمنكر وكلّ المعاصي، فهي عمل عبادي تربوي عملي، والحدّ الفاصل بين صلاة مقبولة وأخرى غير مقبولة، هو النتائج العملية التي تترتّب عليها.
في الحديث النبويّ الشريف: "مَن لم تنههَ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بُعداً".
إنّ ذكر الله الأكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر هو المحرِّك لعوامل الخير وإيحاءاته في نفوسنا نحن المصلِّين.
فإذا لم يتحوّل الركوع والسجود الخشوع والخضوع في الصلاة إلى حالة من التواضع يمشي بها المصلِّي بين الناس، ففي الصلاة خلل.
وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 4-7).
التطبيق الحياتي: هم مصلّون يؤدّون الصلاة ولا يقيمونها، أي هم غافلون عن أبعادها وتأثيراتها وامتداداتها الحياتية، عندهم الصلاة شكل، وهي مضمون، مكانها الحياة وهم يتصوّرونها داخل المسجد فقط.
والربط بين الصلاة في الآيات المتقدِّمة وبين (المعونة) كأثر عملي للصلاة يُراد به إخراجها من المسجد إلى الحياة. أما سمعت إلى الحديث يقول: "لا صلاةَ لمَن لا زكاةَ له"، والزكاة عنوان لكلِّ معونة وليست زكاة المال فقط.
إنّ عليّاً (ع) حينما تصدّق بخاتمه وهو راكع، أعطى تجسيداً عملياً للربط بين الصلاة والزكاة، فكان حقّاً أن يكون وليّاً للمؤمنين. وهو وزوجته فاطمة الزهراء (ع)، حينما تصدّقاً لثلاثة ليال متوالية عند الإفطار، مثلا حالة الاقتران بين الصوم وبين الصدقة.
ب- المحافظة عليها:
قال تعالى في صفة المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (المعارج/ 34).
التطبيق الحياتي: إنّ الحفاظ على أداء الصلاة في أوقاتها من أحبّ الأعمال إلى الله، لكن الحفاظ الأكبر هو أن لا يُضيِّعها المصلِّي في الحياة فتكون مجرّد طقس عبادي بلا منعكسات اجتماعية.
أداء الصلاة في أوقاتها يُعلِّمنا الانضباط واحترام الأوقات والمواعيد، والحفاظ على تطبيقات الصلاة في الحياة يُعلِّمنا أنّ الصلاة إذا كانت تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهي بداهةً تأمر بالصلاح والمعروف، بما يعني أنّ صلاتك في خدمة حياتك.
ت- الخشوع فيها:
قال تعالى في صفة المؤمنين أيضاً: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 2).
التطبيق الحياتي: إنّ الذي يُصلِّي ولا يخشع في صلاته، بأن يعتبر نفسه رحلة روحيّة، حقٌّ له أن يقول: أصلِّي ولكنّ صلاتي لا تفعل في نفسي فعلها.
يقول الإمام عليّ (ع) لصاحبه (كميل بن زياد): "ليس الشأن أن تُصلِّي وتصوم وتتصدّق، إنما الشأن أن تكون الصلاة فعلت بقلبٍ نقي، وعملٍ عند الله مرضي وخشوع سوي".
ث- إقامتها عند التمكين في الأرض:
قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) (الحج/ 41).
التطبيق الحياتي: التمكين في الأرض يعني إقامة المجتمع المسلم، وهو وسيلة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وخلاصة ذلك: الإخلاص لله في العبادة، والمسؤولية تجاه الإنسان في روحية العطاء، وإعمار الحياة بإقامة الحقّ وإزهاق الباطل.
ج- تربية الأبناء عليها:
قال تعالى لسان إبراهيم (ع) الذي كان شديد الاهتمام بالمستقبل: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم/ 40).
التطبيق الحياتي: لم يكن إبراهيم (ع) محصوراً في مرحلة حياته فحسب، بل في المراحل التي تعقبها أيضاً، كان يريد حياة كريمة ممتدّة في الأجيال القادمة أيضاً لا بأداء الصلاة بطريقة شكليّة، بل بإقامتها في صدق العلاقة مع الله ومع الناس.
إنّ خط الاستقامة، لكي يحكم الحياة، لابدّ له من تسليم الشعلة من عدّاء إلى عدّاء (كشعلة السباق).
لقد أوصى (لقمان) ابنه، فقال: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) (لقمان/ 7)، ليُعمِّ إحساسه بوجوده، وبحضور صلاته في كلِّ حياته، أن يجعل من صلاته خادماً يقوم على خدمة الناس.
ومَن فهم أنّ النداء في الآية الكريمة (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه/ 132)، خاصّاً بالنبيّ (ص) دون سائر المسلمين، فقد حجّم أو حجّر واسعاً، ذلك أنّ كلّ نداء للنبيّ (ص) في القرآن هو نداء لكلِّ أهل الإيمان: اصطبر عليها كمقيم للصلاة، وأمر أهلك أن يُقيموها حتى تكوِّنوا مجتمع الصلاة الذي ينفتح على الخير كلّه.
ح- (قرآن الفجر) و(الوسطى) و(ناشئة اللّيل):
قال تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/ 78-79).
وقال عزّوجلّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة/ 238).
التطبيق الحياتي: قرآن الفجر هو صلاة الصبح، أي أنّ تفتتح نهارك بلقاء الله لتُجدِّد العهد معه مع بدء يوم جديد، وتتزوّد بطاقة تعينك على شوط آخر. ثمّ تأتي صلاة الظهر (الوسطى) لتقضي على غفلة ما بين الصلاتين، فإذا دخلت نافلة الليل (التطوّعية)، تصبح بطارية القلب مُعبّأة دائماً، فما أن توشك على النفاد حتى تُدخلها الصلاة في الشحن من جديد، بل وتزيح ما يطرأ عليها من صدأ.
وهذه الدورة الصلاتية التي هي رمز لمواقع الصلاة في أوّل النهار ووسطه وآخره، من أجل أن لا نكون نهباً للغفلة، تماماً كالسائق الذي تأخذه سنّةٌ من نوم، فيوشك أن يخرج عن الطريق، حتى إذا انتبه أو أفاق من غفلته عاد إلى الطريق ثانية.
خ- الجماعة والجمعة:
قال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) (النساء/ 102).
وقال عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة/ 9).
التطبيق الحياتي: في تعليل أهميّة صلاة الجماعة، يقول الإمام العارف علي بن موسى الرضا (ع): "إنما جُعِلَت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلّا ظاهراً مكشوفاً مشهوراً، لأنّ في إظهاره حجّة على أهل الشرق والغرب لله وحده، وليكون المنافق والمستخف مؤدِّياً لما أقرّ به يُظهر الإسلام والمراقبة، ولتكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعضٍ جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البرّ والتقوى، والزّجر عن كثير من معاصي الله عزّوجلّ".
أمّا صلاة الجمعة، فصلاة جامعة لا تُقيّم بعددها فحسب، بل بما يسبقها من خطبتين يتلقّى فيهما جماعة المصلِّين حديثاً وعظيّاً وتوجيهيّاً فيما يُقوِّي صلتهم بالله من جهة، وفيما يُمتِّن ويوطِّد صلتهم بحياة المسلمين من جهة أخرى.
وما النهي عن البيع في وقتها إلّا لتحقيق غرض أسمى وهو اجتماع المسلمين في عبادة جماعية تدرّ عليهم بنفع معنوي لا يُقدّر بثمن، بحيث لا قيمة لما يربحونه من أعمال تشغلهم عن هذا المكسب العظيم.
3- الصِّيام:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 183-184).
التطبيق الحياتي: لعبادة الصوم مردودات ومنافع روحية وأخلاقية وصحّية واجتماعية، فالكفّ والترك في الصوم يُقابله كسبٌ واكتساب، (فالامتناع) عن الحلال والمباحات، يُحقِّق (الممانعة) عن الحرام والمعاصي.
أمّا من أين تأتي هذه الممانعة فمن (التقوى) التي هي غاية الصوم ونتيجته، فهي تقوِّي جهاز (المناعة عند الإنسان، وانظر إلى اشتقاق هذه المفاهيم التي تنفذ على بعضها البعض: (الامتناع) (الممانعة) (المناعة).
فالصوم يُنشِّط الرقابة الذاتية الداخلية التي أثبت تأريخ البشرية أنّها أقوى وأمنع الرقابات على الإطلاق، فتمتنع ذاتياً، وتلجم الشهوة ذاتياً، وتقمع العادة ذاتياً، وتوقف انتهاك المحارم لشخصيتك ذاتياً.
أتدرون ما الذي يُفترض أن يصنعه الصوم؟
يجعل منك حصناً منيعاً، وسوراً لا يُتسوّر، وسيِّداً على شهواتك لا عبداً لها، إنّه يمنحك الحرِّية.
تقوى الصوم تعني الانضباط أمام الله فلا يجدك حيث ينهاك، ولن تجد نفسك قويّاً، وبالتبعية سعيداً، إلّا في حال الامتناع الذي يبني جهاز المناعة لديك.
وقوله (ص): "صوموا تصحّوا" ينطوي على صحّتين: جسدية ونفسية، بل روحية وأخلاقية أيضاً.
هذا في النفع الذاتي للصوم.
وأمّا في النفع الاجتماعي، فهو تربية الحس الاجتماعي وتقوية جهاز الاستشعار لديك.
يقول الإمام الصادق (ع): "أمّا العلّة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، ذلك لأنّ لم يكن ليجد مسّ الجوع، فيرحم الفقير، لأنّ الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله أن يُسوِّي بين خلقه، وأن يُذيق الغني مسّ الجوع والألم، ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع".
ولأنّ التشريع لا يريد أن يحرم (المعفوِّين) من الصيام من بعض آثاره الاجتماعية، جعل (فدية طعام مسكين) تعويضاً عن أداء الفريضة، فهو لا يريد حرمانك من متعة نفع الآخر، كما لا يريد أن يحرم الآخر من صلتك ونفعك، إنّه لا يُفرِّط بالتواصل الاجتماعي حتى بين أصحاب الأعذار وبين المستحقِّين من المساكين، حتى أنّ (زكاة الفِطر) في أوّل أيام العيد موضوعة للغرض ذاته.
وفي (حديث المعراج)، فيما رُويَ عن الرسول (ص) أنّه قال: "يا ربِّ! ما ميراث الصوم؟ قال تعالى: الصوم يورث الحكمة، والحكمةُ تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يُبالي كيف أصبح بعُسرٍ أم بيُسْر".
رسالة الصوم هي: اجتناب بعض لذائذ الحياة، حتى تعطي الحياة لذّتها الكبرى.
4- الزكاة:
قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة/ 103).
التطبيق الحياتي: لا يأخذ الإسلام شيئاً منك إلا ويعطيك بدله أضعافاً مضاعفة، فأخذ الصدقات يقابله (تطهير) من الأنانية والبخل والاستئثار والقسوة، و(تزكية) في كل معاني النماء المالي والنفسي والروحي والاجتماعي.
وإنّما سُمِّيت الصدقة صدقةً؛ لأنّها تعبير صادق وحي عن الإيمان الحقيقي. فكما أراد المشرِّع أن تحنّ في الصوم على الفقير والضعيف والمسكين فترحمهم، أراك في الصدقات (الزكاة) كذلك.
يقول الإمام الصادق (ع): "إنّ الله عزّوجلّ فرضَ للفُقراءِ في أموال الأغنياء ممّا يكتفون به، ولو علم الله أنّ الذي فرض لهم لم يكفهم لزادهم، فإنّما يؤتى الفقراء فما أوتوا من منعِ مَن منعهم حقوقهم، لا من الفريضة".
ويقول الإمام الرضا (ع): "إنّ علّة الزكاة من أجل قوت الفقراء، وتحصين أموال الأغنياء، لأنّ الله عزّوجلّ كلف أهل الصحّة القيام بشأن أهل الزمانة (المرض) والبلوى، كما قال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (آل عمران/ 186)، في أموالكم: إخراج الزكاة، وفي أنفسكم: توطين الأنفس على الصبر".
هنا في الزكاة، كما هناك في الصوم، يريد المشرِّع الإسلامي أن يُعلِّمك ويُساعدك على تجسيد روحيّة العطاء والشعور بالآخر، والتخلِّي عن التقوقع في دائرة الذات الضيِّقة الغارقة في أنانيّتها.
أنت قد تسعد بالإنفاق على نفسك، لكن عطاءك للآخر يوسِّع دائرة مشاعرك فتسعد أكثر بإسعادك غيرك: سعادتك بإعانته وسعادته برحمتك، يجعل عالم السعادة أرحب، والشعور بها أعمق، ولذّة العطاء لا يشعر بها أن يستشعرها إلّا أصحاب العطاء، لذلك كانت اليد العُليا خيرٌ من اليد السّفلى.
- خارطة توزيع الزكاة:
قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 60).
التطبيق الحياتي: هؤلاء جميعاً أصحاب حاجات، والإسلام لا يترك محتاجاً من غير أن يسدّ حاجته، هذا هو معنى (التكافل الاجتماعي)، فأنتَ في الإسلام لستَ في كفالة الدولة فقط، بل في كفالة المجتمع أيضاً.
يقول الإمام عليّ (ع): "أمّا وجه الصدقات، فإنّما هي لأقوامٍ ليس لهم في الإمارة نصيب، ولا في العمارة حظّ، ولا في التجارة مال، ولا في الإجازة معرفة وقدرة، ففرض الله في أموال الأغنياء ما يقوتهم ويقوِّم به أودهم".
هؤلاء لا يجدون فرصة العيش الكريم، ولكي ينقذهم الإسلام من (الاقتراض) و(سؤال) الناس، والعيش في أزمة الدين أو التسوّل، قنّن لهم هذا التشريع، وكأنّ كلمته فيه: هؤلاء إخوانكم في الدِّين، فكيف يهنأ لكم عيش، وإخوانكم يعانون الضائقة؟
قال تعالى في صفة المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) (المؤمنون/ 4).
التطبيق الحياتي: (فاعلون) هنا تُقابل (قائمون) في الصلاة، ففعل الزكاة يعني أن تعيش الإحساس بالآخر، وتشعر بالمسؤولية عنه، وأنّ عطاءك له عبادة، ورعايتك للمحرومين قُربة، وزكاتك للمستحقِّين ترجمة للبُعد الإنساني في شخصيتك، بل تطبيق عملي لصلاتك.
الفاعلون للزكاة محرِّكون للمال في قضاء حاجات المحتاجين، وإذا كان المعنى الخاص للزكاة هو ما تقدّم، فإنّ المعنى العام لها يشمل كلّ قدرة غير مالية يمكنك أن تغطِّي أو تؤمِّن بها حاجات المجتمع الأخرى، فلكلِّ شيء في حياة المسلم زكاة:
زكاة قدرته الإنصاف، وزكاة جماله العفاف، وزكاة صحّته السعي في طاعة الله، وزكاة علمه بذله لمستحقِّه، وزكاة شجاعته الجهاد في سبيل الله، وزكاة قوّته خدمة الضعفاء.
5- الحجّ:
قال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج/ 27-28).
التطبيق الحياتي: أن تشهد الشيء لا يعني أن تراه بأمِّ عينك فقط، بل تحضره، فشهد الموسم حضره، أي إنّك لستَ مشاهداً ومراقباً، بل مشاركاً وفاعلاً، ممّا يعني أنّ منافع الحجّ تُلمس لمساً وتُعاش واقعاً.
هي على الصعيد الروحي هجرة إلى الله، وعروج إليه، وفناءٌ في ذاته، و(طوافٌ) حول محور توحيده، و(سعيٌ) في خدمة عباده.
وهي على المستوى الاجتماعي منافعُ تعارف، وتبادل، وتعاون، وتشاور، وإزالة الحواجز والفوارق والفواصل، ليلتقي جميعُ ولد آدم على (صعيد) تُراب (عرفات) وكأنّهم في ساحة المحشر، حيث تذوب وتتلاشى كلّ النعرات العرقيّة واللّونية والقومية.
هنا في رحاب الحج يعود المسلمون كيوم ولدتهم أُمّهاتهم، وكيوم يرجعون فيه إلى الله، ولكنّك وأنتَ في تحليقتك الروحانية تلك، يُطالبك الإسلام بأن لا تُفارق قدماك الأرض، فهي ليست رحلة في العبادة الروحية المجرّدة، بل إحساس بـ(البائس) و(الفقير)، كما في الصوم، وكما في الزكاة، فأضحيتك (ما تنحر من ذبيحة) ليست شاة سالت دماؤها وانقطعت عن الحياة فحسب، بل هي عطاء يسيل، وتواصل مع الحياة من خلال ما تقضي بها من حاجة البؤساء والفقراء. إنّها جزء من منظومة علاج لحلِّ مشكلة الفقر في العالم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق