• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دلائل وجود الله في الآفاق والأنفس

دلائل وجود الله في الآفاق والأنفس

 

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت/ 52-53).

أنّ محور الحديث في الآية الأولى هو: القرآن، وضمير "كان" عائد إلى القرآن إذ يقول تعالى:

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ (القرآن) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

وبناء على هذا يجب أن يكون الضمير في الآية الثانية في قوله: (أَنَّهُ الْحَقُّ) عائداً إلى القرآن، هذا لو اعتبرنا الآيتين مرتبطتين مفاداً ومتحدتين سياقاً فيكون ملخص الآية الثانية هو: أنّ الآيات الآفاقية والأنفسية التي سيريها الله للبشر خير دليل على صدق جميع ما يحتويه القرآن، لا خصوص "وجود الله" أو خصوص "توحيده الذاتي".

ومعنى ذلك أنّ الآية تعني: أنّ الله سيثبت صدق ما جاء به القرآن بنحو كلي من خلال ما سوف يريه الباري سبحانه من الآيات الآفاقية والأنفسية المرتبطة ببيئة المشركين، والآيات الموجودة في أنفسهم.

إنّ توسّع الإسلام التدريجي في شبه الجزيرة العربية، وتهافت قلعة الشرك والوثنية على أيدي المؤمنين الموحدين، وقيام دولة التوحيد في تلكم الربوع، لهي بجملتها سلسلة من الآيات الآفاقية التي أخبر بها القرآن، والتي تثبت مصادفة.

أفليست الآيات القرآنية حملت سلسلة من البشائر والوعود والتنبّؤات التي صرح فيها بوقوع تلك الوعود في المستقبل القريب، ومنها إخبار القرآن باستقرار حكم الله على الأرض بأيدي الموحدين المسلمين والذين آمنوا، إذ يقول:

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ) (النّور/ 55).

إذن يجب علينا أن ننظر كيف عمل الله بوعده في استخلاف المؤمنين.

إنّ انتشار الإسلام وتوسعه في عهد النبيّ الأكرم (ص) وبعده لهو أحد تلك الوعود، والبشائر التي تحقّقت، وهو بالتالي إحدى الآيات الآفاقية الدالة على صدق أخبار القرآن الغيبية المستقبلية.

كما أنّ هلاك صناديد قريش وأقطابها وزعمائها في بدر وأحد والأحزاب واندحار النظام الكسروي والقيصري هي الأُخرى من الآيات الأنفسية الشاهدة على صدق أخبار القرآن ومغيّباته.

وبعد تحقّق هذين النوعين من الآيات والعلامات يجب أن لا يشك أحد في صحّة القرآن الكريم وصدقه، لصدق تنبّؤاته، وصحّة دعاويه.

لقد ذكر الله تعال في ذيل الآية الثانية بواحد من أهم أُسس الدعوة القرآنية، ألا وهو حضور الله في كلّ مكان وشهادته على كلّ شيء دون استثناء أو أنّ جميع الأشياء تراه وتشهده، إذ قال:

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

وعندئذ – أي وفق النظرية التي ذكرناها – لا تكون الآية الثانية ناظرة إلى الاستدلال على وجود الله سبحانه عن طريق الآيات الآفاقية والأنفسية، بل تكون ناظرة إلى صحّة دعوة الرسول (ص) لتحقّق أخباره.

وهذا التفسير – كما قلنا – إنما يكون وجيهاً ومقبولاً إذا ربطنا بين الآيتين وحافظنا على وحدة السياق بينهما.

وأمّا إذا درسنا الآية الثانية بقطع النظر عن الآية المتقدمة عليها، أو احتملنا نزول الآية الثانية مرتين: مرة مع الآية الأولى وبصحبتها، وأخرى منفردة وبصورة مستقلة.

ففي هذه الحالة (أي في حالة نزولها منفردة مستقلة) يمكن أن تكون ناظرة إلى دلائل وجود الله في الآفاق والأنفس ويكون ذيلها إشارة إلى برهان ثالث.

وحينئذ يكون مرجع الضمير في قوله (أَنَّهُ الْحَقُّ) هو: الله تعالى، نفسه.

على أنّ ذيل الآية، أعني قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، أنسب مع هذا التفسير.

 

توضيح الاستدلال:

إنّ جميع الأنظمة البديعة الحاكمة على عالم الكون، والسنن السائدة على النجوم، ثابتتها وسيارتها، والأنواع المختلفة من الموجودات التي تعيش على الأرض.

كلّ ذلك من الدلائل والآيات الآفاقية على وجود الله تعالى.

كما أنّ الأنظمة العجيبة المعقدة الحاكمة في وجود البشر وتكوينه وخلقته منذ نشوئه في رحم الأُم حتى موته أدلة وآيات أنفسية على وجود الله سبحانه.

والنظر إلى هذه الدلائل والآيات في الآفاق والأنفس يقود كلّ عاقل منصف إلى الإذعان بوجود الله، والاعتراف به. وهذا هو ما تقصده الآية المطروحة هنا.

إلى هنا تم الاستدلال بصدر الآية على وجوده سبحانه عن طريق آياته الآفاقية، الأنفسية، وبقي الكلام في ذيل الآية، أعني قوله: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فيمكن أن يكون إشارة إلى برهان آخر تسمّيه الفلاسفة ببرهان "الصديقين".

ارسال التعليق

Top