· الكفر يعني اللاعقل
· الإخلاص لا يعني الصواب
· التعقّل وحسابات النتائج
· بين استعمال العقل واتّباع الهوى
لا نزال مع الآيات التي تحدّثت عن العقل في القرآن الكريم، وقد أكّدنا في الأحاديث السابقة أنّ على القائمين على شؤون الثقافة الإسلامية، أن يؤكّدوا على دور العقل في الإسلام، لأنّ هناك الكثيرين من أعداء الإسلام، أو ممّن لا يفهمون القاعدة التي يرتكز عليها، يتصوّرون أنّ الإسلام لا ينطلق من حالة عقلية، وأنّ كلّ ما فيه يتحرّك من خلال التعبّد. ونحن لا ننفي أنّ الإسلام يؤكّد عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، لأنّه تعالى يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب/ 36)، ولكنّ الله تعبّدنا بالعقل في حركة الإنسان في الحياة، وفي إنتاج العلم من خلال التأمّل والتجربة؛ باعتبار أنّ العقل يتحرّك في وجدان الإنسان، لينطلق في خط الإبداع في سبيل أن تكون الحياة أغنى وأفضل.
الكفر يعني اللاعقل:
وفي بعض الآيات التي تتناول موضوع العقل، يؤكّد القرآن الكريم أنّ الكفر هو حالة اللّاعقل، وأنّ الذي يكفر هو الذي لا يستنطق عقله، وإنّما يعتمد على ما ورثه عن مجتمعه، أو على بعض الحالات التي تنطلق من أهوائه الشخصيّة.
فالآية التي يؤكّدها القرآن الكريم في مواجهته لكلِّ المواقف المضادّة التي تواجه الأنبياء (عليهم السلام) عندما يأتون الناسَ بشيء جديد، علماً بأنّ هؤلاء الناس عاشوا على أساس أن يبقى القديم على ما هو عليه، وعلاوةً على ذلك، فإنّهم ليسوا مستعدّين أن يدافعوا عن القديم الذي يلتزمون به على أساس العقل، أو أن يحاوروا الذين يأتون بجديد على أساس العقل، والكلمة التي يبرّرون بها رفضهم للجديد الذي تأتي به النبوّات قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف/ 23)؛ فالقضية لديهم ترتبط بالامتداد الاجتماعي للتاريخ في حركة الزمن، وكأنّ الزمن يتجمّد – في حركة الفكر – عند ذلك التاريخ الذي قد يمتدُّ إلى آلاف السنين، وذلك عندما ينطلق فكرهم من خلال التخلّف أو من خلال ذهنية خرافية أو ما إلى ذلك.
وفي الوقت نفسه، نجد أنّ القرآن الكريم يثير تلك القضية معهم بأسلوب عقلانيّ، فيقول تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).. إنّكم تقولون إنّنا نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا، ولذلك ترفضون كلّ ما لا يتّفق مع ما ورثتموه، والسؤال: ما هو المستوى العقلاني والثقافي لآبائكم، فهل كانوا يملكون العقل الذي يكتشف الحقيقة؟ وهل كانوا يملكون الثقافة التي تُنضج الفكر؟ (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170)، وفي آية أخرى: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (المائدة/ 104)؛ فإنّ آباءكم الذين تلتزمون خطّهم وفكرهم كانوا لا يعقلون، ولذلك فإنّهم لم ينطلقوا من خلال مجتمع يرتكز على العقل كعنوان كبير لكلِّ ما يأخذ به وما يَدَعُه، وهؤلاء أيضاً لا يهتدون، لأنّهم لم ينفتحوا على خطّ الهدى، وهل يتّبع الإنسانُ العاقلُ غيرَ العاقل؟ وهل يتّبع الإنسان الذي يريد الهداية شخصاً لا يملك الهداية؟
فلا تبقوا في امتداد التاريخ تابعين لآبائكم على أساس العاطفة التي تربطكم بهم، لأنّ قضية الفكر شيء وقضية العاطفة شيء آخر.. فالعاطفة تتّصل بالإحساس والشعور، ولكنّ الفكر يتّصل بالعقل والفكر.
إنّ المسألة – في عمقها – تتّصل بالّلاعقل، بحيث ينطلق الإنسان ليتحرّك في تاريخ اللاعقل، وهذا هو الذي يجمّد المجتمعات ويُسقط الحضارات، وإذا كان القرآن الكريم يتحدّث عن هؤلاء الذين يجمدون على تراث آبائهم لأنّهم يريدون بقاء القديم كما هو من دون أن يحرّكوه بفكر أو في حوار، وإذا كان القرآن يتحدّث عن هذا الفريق الذي كان يقف بوجه دعوة الأنبياء (عليهم السلام)، فإنّنا نستطيع أن نستوحيه في كلّ الواقع الذي ينطلق فيه المصلحون ليواجهوا الكثير من عناصر التخلّف أو من أوضاع الخرافات أو الجهل، فيقف أمامهم المتخلِّفون، فيقولون هذه تقاليدنا وعاداتنا، وإنّنا نريد البقاء على تراث آبائنا؛ فإنّ المنهج القرآني يقول إنّ الله سبحانه وتعالى خلق العقل وجعله حجّةً على الإنسان وسيحاكم على أساس ما ينتجه العقل، ولذلك فعليك – أيّها الإنسان – أن لا ترفض الجديد لمجرّد أنّه يختلف عن القديم، كما إنّ عليك أن لا تقبل الجديد إلّا بعد أن تستنفر عقلك وثقافتك لتواجهه بالحوار والنقاش، لتصل إلى النتائج الإيجابية إنْ كان الفكر يتّجه إلى الإيجاب، ولتصل إلى النتائج السلبية إذا كان الفكر يتّجه إلى السلب.
الإخلاص لا يعني الصواب:
وهذا هو الذي يُغني المجتمعات، وهو الذي يرفع مستواها الثقافي، سواءٌ في ثقافة العقيدة أو ثقافة الشريعة؛ لأنّ المسألة هي أنّ المُنتجين للفكر في الماضي قد يكونون مخلصين لفكرهم، ولكنّ الإخلاص لا يعني الصواب، فربّما يخلص الإنسان لفكره ولكنّه لا يملك الوسائل التي تصل به إلى مستوى الصواب، وقد يخطئ المخلصون لا من موقع تعمّد الخطأ، ولكن من خلال عدم وجود الوسائل التي تصل بهم إلى ذلك.. ولذلك فإنّ علينا أن لا نبادر إلى رجم كلِّ فكر جديد، بل أن نفكّر فيه ونحاكمه ونناقشه، وبذلك يمكن أن نُغْنِيَ الإسلام بالفكر الذي يصنع الحضارات التي تنطلق لأجل أن تنتج علماً وفكراً هنا وهناك وتصل إلى مستوى الإبداع. فالمهم أن لا يتجمّد الفكر ولا يتحجّر، بل عليك أن تدعه ينطلق في الهواء الطلق لينفتح على الحقيقة.
وفي الاتّجاه نفسه، نقرأ في آية أخرى قوله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 171)، وفيها يبيّن الله سبحانه وتعالى أنّ مشكلة الكافرين هي أنّهم يجمدون على ما يلتزمون به، كما هو حال الشخص الذي يصيح عندما تنطلق الأصوات من حوله، لا لشيء إلّا لأنّ هناك صوتاً، من دون أن يفهم طبيعة هذا الصوت ومضمونه من الفكر، ولذلك فهم (صُمٌّ) لا يحاولون الاستماع إلى ما يطلقه الآخرون من كلمات ومن أفكار، وهم (عُمْيٌ) لا ينفتحون على الحقيقة بأبصار عقولهم، بل يعيشون كالأعمى، والله يقول: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46)، كما أنّهم لا ينتفعون بأعينهم ممّا يرونه من دلائل العظمة في أسرار الله ممّا ينفتح بهم على توحيده وربوبيّته.. وهم (بُكْمٌ) لا ينطقون، لأنّهم يتحرّكون على أساس ما اختزنوه من الفكر الذي ورثوه أو توهّموه من دون أن يدخلوا في حوار أو جدال أو مناقشة حوله مقارناً بما لدى الآخرين من فكر، (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) كنتيجة لكلِّ ذلك.. باعتبار أنّهم فقدوا العقل الذي يعطي السمع والبصر حركةً وإدراكاً، تماماً كالذي يصاب بالسكتة الدماغية ولكن عينيه تبقيان سليمتين في الشكل، فيما صورة الناس تنطبع في عينيه، إلّا أنّه لا يعرفهم؛ لأنّ البصر إنّما يكون وسيلةً للمعرفة عندما يتكامل البصر المادي مع البصر الروحي والعقلي.. وهكذا بالنسبة للسمع وللنطق، لأنّ حركة الإنسان المادية في جسده مرتبطة بحركته الداخلية المعنوية من خلال السمع أو البصر أو النطق.
وفي آية أخرى، يعبّر القرآن الكريم عن الذين لا يسمعون بما يمكن أن يرفع مستواهم، ولا يتكلّمون بما يعطيهم الثقافة، باعتبار أنّهم لا يسألون ولا يحاورون أو يناقشون، فيقول سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (الأنفال/ 22).
التعقّل وحسابات النتائج:
ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الحالة النفسية التي كان يعيشها اليهود الذين كانوا في المدينة، وقد خانوا النبيّ (ص) والمسلمين، وتحالفوا مع المشركين ضدّ الرسول محمّد (ص) الذي انتصر عليهم، بقوله سبحانه وتعالى للمؤمنين: (لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (الحشر/ 13)، ولو أنّ اليهود يؤمنون بالله على طريقتهم الخاصة، ولكنّهم يفقدون هذا العمق الإيماني الذي يجعلهم يعيشون الإحساس والثقة بأنّ (القُوَّةَ للهِ جَميعاً) (البقرة/ 165)، وأنّه (مالِكَ المُلْكِ) (آل عمران/ 26)، إلى غير ذلك من الصفات، لا يمكن أن يعيش الرهبة إلّا من الله عندما يقف بين يديه في العبادة أو يتحرّك في الحياة، كما يعبّر عنه قوله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (الأحزاب/ 37).
وهذا خطُّ إيماني لابدّ للمؤمن أن يعيشه أمام التحدّيات الكبرى التي تواجه المؤمنين من خلال القوى المستكبرة أو من خلال الطغاة أو الظالمين وما إلى ذلك؛ حيث نجد أنّ بعض الناس ضعيفي الإيمان يشعرون بالهزيمة والزلزال أمامهم ولا يخافون من الله مثلما يخافون من الناس. وقد حدّثنا القرآن الكريم عن هذا النموذج من المؤمنين في معركة (الأحزاب) بقوله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(الأحزاب/ 10)، أمّا المؤمنون فعبّر عنهم بقوله: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب/ 22)؛ لأنّ الإيمان كان عميقاً في وجدانهم بالمستوى الذي يشعرون فيه بأنّ هذا البلاء لا يعني الهزيمة، بل إنّ عليهم أن يثبتوا ويثقوا بنصر الله، حتى يستطيعوا مواصلة المواجهة ضدّ تحالف اليهود مع المشركين.
ونعود إلى حديث الله عن اليهود في قوله تعالى: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) (الحشر/ 14)، حيث يبيّن الله أنّ هذه الرهبة التي يعيشونها تجاه المسلمين، تجعلهم لا يقاتلونكم وجهاً لوجه كما هو الحال في تلك العصور، (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)، فلو نظرت في داخلهم لرأيتَ بعضهم يعادي بعضاً، ولرأيتَ الفتنة تتحرّك في كلِّ أوضاعهم وانقساماتهم.. (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)، يعني أنّ هذه الوحدة الشكليّة الظاهرية لهم لا تنطلق من وحدة عقلية باطنية، ولذا يصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر/ 14)؛ لأنّ المجتمع العقلائي هو المجتمع الذي يعتقد أنّ الوحدة هي مركز القوّة، وأنّ اختلاف وجهات النظر لا يعني التشتُّت، بل يعني الحوار والمناقشة للوصول إلى نتائج إيجابية.
فالله سبحانه وتعالى يصف اليهود في ذلك العصر بأنّ سلوكهم يمثّل سلوك الذين لا يملكون فهم الأشياء في عمقها، ولا يملكون العقل الذي يستطيعون من خلاله أن ينظِّموا واقعهم ومجتمعهم بالطريقة التي يمكن أن تمنحهم القوّة والنصر.
بين استعمال العقل واتّباع الهوى:
ومن ناحية أخرى، نقرأ في القرآن الكريم عن هؤلاء الذين ينطلقون في الحياة من خلال أهوائهم وغرائزهم، فلا يستنطقون عقولهم، ويجعلون أهواءهم هي البوصلة التي يستهدون بها في حركتهم في الحياة على المستوى الفردي أو الاجتماعي. يقول تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا) (الفرقان/ 43)، وليس معناه أن يقول أحدهم إنّ إلهه هو هوى نفسه، ولكنّه يتعامل مع هواه كما يتعامل العبد مع إلهه في الطاعة والتسليم المطلق، (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) ممّا تلقيه عليهم من وحي الله، (أَوْ يَعْقِلُونَ) فقد صادروا عقولهم وصادروا كلّ حالة التوازن في شخصيّتهم.. (إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) (الفرقان/ 44)؛ لأنّ الأنعام لا تملك العقل الذي تستطيع من خلال أن تحرّك حياتها في اتّجاه التغيير أو مواجهة كلّ أنواع الأحداث. إنّ هؤلاء الذين لا يعقلون رغم أنّ الله أعطاهم عقلاً فهم يستعملونه في غير الاتّجاه الصحيح، هم أضلّ من الأنعام، لأنّ الله وهبهم طاقةً يمكنهم أن يجدوا فيها السعادة والخير، فلم يستخدموها بل أهملوها..
المصدر: كتاب العقل في القرآن الكريم
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق