• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحوار في القرآن الكريم

الحوار في القرآن  الكريم

  اهتمّ القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بالحوار، وضرب لنا نماذج متعددة ومتنوعة، كالحوار بين الله سبحانه وتعالى وملائكته حول خلق آدم (ع). والحوار الذي تم بين بلقيس – ملكة سبأ – وقومها حول فحوى خطاب سليمان (ع).

    كذلك الحوار الذي تم بين إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام حين أراد أن يذبحه تنفيذاً لأمر الله.

    كما نجد أنّ القرآن الكريم حفل بحوار الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، كحوار نوح ولوط وصالح وهود وشعيب وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

    وكثرة الحوار في القرآن الكريم تدل على أهميته الشديدة في سبيل إحقاق الحق وإبطال الباطل وجلاء الحقائق.

    والمتأمل في الحوار بالقرآن الكريم يلاحظ أنه يتسم بأمور عدة من أهمها:

    

    1- تقديم الأدلة والبراهين من أجل إقناع الطرف الآخر:

    فالمتتبع للحوار في القرآن الكريم يلاحظ كثرة تقديم الأدلة والبراهين والحجج من أجل إقناع الطرف الآخر وإزالة الشبه والملابسات في سبيل الوصول إلى الحق. فهذا نبي الله صالح (ع) يقدم دليلاً لقومه على صدق دعواه، بخروج ناقة من صخرة صماء عيّنوها بأنفسهم قال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الأعراف/ 73).

    كذلك يطالب القرآن الكريم من الطرف الآخر تقديم الأدلة والبراهين لإثبات صحة دعواه، ومثال ذلك قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 111).

    

    2- إنّ الحوار في القرآن الكريم يتسم بالتنوع ويشمل جميع أوجه الحياة:

    فأحياناً يتناول الحوار ترسيخ معاني العقيدة والوحدانية لله سبحانه وتعالى كمحاورة نوح عليه السلام لقومه، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (هود/ 25-26). وتارة يتناول الحوار أموراً اقتصادية كمحاورة شعيب عليه السلام لقومه قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود/ 84-85).

    وتارة يتناول أموراً اجتماعية وأخلاقية، كمحاورة لوط (ع) لقومه، قال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (هود/ 78).

    وتارة يتناول أموراً تربوية تعليمية، كمحاورة موسى (ع) للعبد الصالح قال تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) (الكهف/ 65-70). وهكذا يتسم الحوار في القرآن الكريم بالتنوع والشمول.

    

    3- البعد عن المماراة والمشاحنة والتعصب والمغالطات:

    فهو حوار يهدف إلى الوصول للحق، كما أنّه يتّسم بالتجرد وعدم التعصب لوجهة النظر مسبقاً، والإعلان عن الاستعداد التام للوصول إلى الحقيقة، ومثال ذلك: محاورة الرسول (ص) للمشركين، حيث قال (ص) في محاورته لهم – كما جاء في سورة سبأ –: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24).

    وفي هذا دلالة عظيمة على نشدان الحقيقة أنّى كانت، والبعد عن التعصب والتجرد التام من أجل الوصول إلى الحق.

    

    4- إنصاف الخصم:

    من السمات الواضحة في محاورة القرآن الكريم: (المحافظة على حق الخصم وإنصافه من كل وجه، سواء أكان المحاور الذي يمثله القرآن شخصاً مؤمناً عادياً أم كان شخصَ نبيٍّ من الأنبياء) ويتجسد هذا الإنصاف في الأمور الآتية:

    أ. احترام الطرف الآخر: فمهما بلغ الخصم من الضعف في رأيه والخطأ في محاورته نجد أنّ القرآن الكريم يحاوره دون أذى أو تسفيه أو تحقير أو نحو ذلك، مما يفسد القلوب ويهيج النفوس ويورث الحقد. ومثال ذلك محاورة من أنكر البعث وقدرة الله في إحياء الموتى، قال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ) (يس/ 78-81).

    فالمتأمل في الرد على المنكرين للبعث يلاحظ ورود أدلة متعددة تبرهن على قدرة الله التامة على إحياء الموتى وإحياء العظام وهي رميم، دون تسفيه آراء المنكرين أو شتمهم أو الانتقاص منهم.

    ب. إعلان المساواة للخصم: "وهي درجة أعلى من حماية الخصم أو عدم إيذائه، حيث نلمس في محاورات القرآن إشعار الخسم بمساواته مع محاوره أثناء المحاورة، وهذا يعدّ قمة العدالة حيث يشعر الخصم أنه مساوٍ لخصمه".

    ومثال ذلك قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64).

    

    5- تحديد الهدف والغاية:

    يهتم القرآن الكريم بإبراز الهدف والغاية من الحوار، فالحوار دون هدف واضح يؤدي إلى الجدل العقيم وتضييع الوقت، لذلك نجد أنّ السمة العامة للحوار في القرآن الكريم هي التدرج للوصول إلى أهداف وغايات محددة. ومثال ذلك محاورة إبراهيم (ع) للمشركين في عبادتهم للكواكب قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام/ 75-79).

    فقد بين عليه السلام أنّ هذه الكواكب والقمر والشمس لا تصلح إلهاً فهي مخلوقات مسخرة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ثمّ أعلن براءته من عبادتهم لها، ثمّ بين لهم أنّ المستحق للعبادة هو الله الذي خلق السماوات والأرض مدبر الكون الذي بيده ملكوت كل شيء.

    وهكذا نجد أنّ إبراهيم (ع) حدد الهدف والغاية من الحوار وهو الوصول إلى الإله المستحق للعبادة وإبطال عبادة غير الله.

    

    6- طلب الحق:

    المتتبع للحوار في القرآن الكريم – لا سيما بين الأنبياء وأقوامهم – يلاحظ أنّه لا يتطلع إلى تحقيق هدف شخصي أو مصلحة ذاتية أو غير ذلك من الغايات التي تقع بين الناس. إنّما الهدف الأساس هو الوصول إلى الحق، وأولى الحقوق هو وحدانية الله سبحانه وتعالى وتحقيق مصالح العباد في الدارين الدنيا والآخرة.

    لذا نجد أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يوضحون لأقوالهم أثناء محاورتهم أن لا منفعة شخصية ستعود عليهم، بل هدفهم هو تحقيق مصالح أقوامهم في الدنيا والآخرة، فهذا نبي الله هود (ع) يقول لقومه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء/ 126-127).

    كذلك نبي الله صالح (ع)، قال تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) الشعراء/ 141-145).

    

    7- مراعاة أحوال المخاطبين:

    يتسم الحوار في القرآن الكريم بمراعاة أحوال المخاطبين، ومعاملة الخصم بما يتناسب مع أحواله الفكرية والاعتقادية، فمحاورة المشركين – فيما يتعلق بالبعث والنشور واليوم الآخر وإحياء الموتى وبيان قدرة الله – تختلف عن محاورة أهل الكتاب، إذ إن أهل الكتاب لا ينقصهم العلم والحجج والبراهين بخلاف المشركين الذين يحتاجون إلى أدلة وبراهين وحجج. كذلك محاورة المنافقين تتسم بالشدة والغلظة عليهم، لأنّهم لا ينقصهم معرفة الحق ولا يخفى عليهم دلائل الهدى وإنما ينقصهم الالتزام بالإيمان والعمل به.

    والمتأمل في أوائل سورة البقرة يلاحظ أن خطاب المنافقين اتسم بالغلظة والشدة، بخلاف دعوة الناس إلى عبادة الله فإنّها اتسمت بذكر الأدلة والبراهين على استحقاق الله للعبادة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 21-22).

 

    المصدر: كتاب الحوار وآدابه في الإسلام

ارسال التعليق

Top