لكي نسلك مسلكاً سليماً في التربية الاجتماعية والنفسية لأولادنا، لابدّ أن نفكر في أمر إشباع حاجاتهم النفسية والاجتماعية والوجدانية، وهذه الحاجات نحتاج إلى أن نتعرفها ونتعلم كيف يتم إشباعها لدى أولادنا، وذلك على الوجه الآتي:
ضرورة أن يشبع الطفل حاجته إلى الحب والحنان وأن يشعر بأنّه مقبول وهذه الحاجة ضرورية؛ فالطفل خُلق ليكون مُحِباً ومحبوباً، حبّاً يحقق له التفاعل من خلال التبادل بينه وبين والديه وإخوته وزملائه، فهو يريد أن يشعر بأنّه مرغوب فيه وأن أسرته وبيئته ترغب في وجوده، فهو يحتاج إلى الصداقة والحنان، ويحتاج إلى الحضن الاجتماعي الذي يشعره بدفء العاطفة وليعمل على إشباعه وتنمية وجدانه. وبطبيعة الحال فإنّ الطفل الذي لا يجد البيئة التي تشبع له هذه الحاجة إلى الحب والحنان، فإنّه يعاني "الجوع العاطفي" ويشعر بأنّه غير مقبول أو غير مرغوب فيه؛ فينعكس كل ذلك على مستوى توافقه النفسي والاجتماعي، وقد يجعله مضطرباً نفسياً واجتماعياً عكس الطفل الذي يشعر بالحب والحنان من والديه، الحب الواعي الفاهم البناء الذي يوفر له الشعور بالسعادة والطمأنينة والرضا.
إنّ الطفل يستطيع أن يستشعر ذلك من خلال نظرات والديه واللمسات الحانية الرقيقة عندما تداعبه الأُم أو تحتضنه في صدرها الرؤوم، وأيضاً يحسه في بسمات سعيدة يقرؤها في وجوه من يتعامل معهم؛ فيشعر بدفء الحياة وجمالها وأنّه شخص له قيمته ومرغوب فيه من كل الذين يتعامل معهم.
الحاجة إلى الشعور بالاطمئنان والأمان، حيث يمثل هذا الشعور قيمة كبيرة ويعمل على تحقيق الإشباع النفسي للطفل فهو لا يحس بالأمان إلا إذا كان الوالد يعامل الوالدة بروح ملؤها المودة والرحمة والتفاعل المثمر.
إذن فالطفل في حاجة إلى القبول الذي يعطيه الراحة النفسية والسعادة بمعنى أن يستشعر الطفل أنّه مقبول لدى والديه، فتلك حاجة نفسية توفر للطفل نمواً متوازناً وتربية صالحة لبناء الثقة بالنفس... وتمنحه الطمأنينة وتدفعه إلى الإمام لبناء معالم شخصيته، وتشكل في الوقت نفسه حصانة ضد الاضطرابات النفسية والسلوكية لديه.
قبول الابن ينبغي ألا يكون مرتبطاً بانجازات معينة وفي الوقت نفسه نظهر للولد عدم قبوله لو أخطأ أو فشل... فنحن نقبله لأنّه ابننا ولأنّه ولد صغير وإنسان ينبغي أن يحترم وتصان كرامته بعيداً عن أي ظروف أخرى سواء أكانت إنجازات أم إخفاقات.
لو علمنا الولد أننا نقبله إذا أحسن ونرفضه إذا أخطأ، فإننا نشكل لديه حيرة وتذبذباً بين احترام واحتقار وقبول ورفض.. ونتيجة هذا التذبذب ضعف في مكونات شخصيته وسرعة استجابته للمؤثرات الخارجية وانقياده للآخرين بلا حدود ولا مقاييس... وينتج عنه كذلك انهيار حاجات الطفل الأخرى بحاجته إلى المحبة فيرسخ في ذهنه أن رفضه يعني كراهيته وبغضه.. ولا يتعلم الفصل بين السلوك والذات.. إنّ الإنسان الذي يحترم نفسه هو الإنسان الذي يحسن السلوك والتصرف والذي يفتقد احترام ذاته لا يمكنه إلا أن يفسد مع نفسه ومع غيره. ولذلك كان من أهداف الإسلام في بداية انتشاره بث معاني العزة والعلو لدى المسلمين:
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8).
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) (آل عمران/ 139).
إنّ قبول الولد يعني تهيئته للانخراط في حياة إنسانية واجتماعية يتعلم منذ نعومة أظفاره كيف يقبل هو نفسه التعامل مع غيره.. والبيت مرآة حقيقية تنعكس على الطفل سلوكاً وشعوراً ومفاهيم يبنى عليها معالم شخصيته.. فحين يسود الاطمئنان والقبول ينتشر الاحترام والتقدير والسكن والمودة والحب والمحبة.. وكلما انعدم القبول بين أفراد الأسرة الواحدة زاد التباعد والتوتر والشحناء فيما بينهم وانتشرت سلوكيات الأنانية وحب الذات مقابل سلوكيات التعاون والإخاء.. ولذلك كان لزاماً على الآباء والأُمّهات والمربين الحرص على ما يلي:
1- الابتعاد عن السلوكيات الأبوية التي تشعر الولد بالافتقار إلى القبول.
2- الحرص على ما يشجع إشباع حاجة القبول لديه.
سلوك الوالدين وتصور الطفل:
سلوكيات الوالدين تعكس بشكل كبير تصور الطفل عن ذاته وموقعه لدى الآخرين.. وليس المهم أن يكون ابني مقبولاً لي ولكن الأهم أن يشعر ابن أنّه مقبول غير مرفوض...
سلوكيات تربوية غير صحيحة تحرم الطفل من القبول:
1- لا تنتقد الطفل باستمرار:
انتقاد الطفل بصورة دائمة ومستمرة والتربص له أثناء كل حركة تصدر منه أو كلمة يتفوه بها تولِّد لديه إحساساً بأنّه مرفوض وتصيبه بالإحباط وخيبة الأمل وتنزع منه الثقة بقدراته وإمكاناته، وقد ينتج عن هذا الوضع خوف دائم من القيام بأي عمل أمام الآخرين وقتل لروح المبادرة التلقائية.. ولذلك ليكن حوارنا إيجابياً مع الأبناء. وليتخذ الانتقاد طابع التوجيه الطيب بالتي هي أحسن، وليكن في حالة الضرورة ومتى رأينا تكراراً وإصراراً من الطفل...
2- لا تلزم الطفل أكثر مما يستطيع:
جميل أن يكون الآباء طموحين ويعملوا على بثّ الطموح لدى أبنائهم، ويشجعوا الخطوات المؤدية لتحقيق ما لم يحققه الآباء... ولكن لا ينبغي أن يمارس هذا الطموح بشكل يلغي ذات الطفل وشخصيته ويقدم الطفل على أنّه إلزام له وأحياناً كثيرة يتطلب طموح الوالدين من الطفل جهداً أكثر مما يستطيع وطاقة لا تراعي مراحل نموه الجسمي والنفسي... وكلما شعر الطفل بعدم قدرته على تحقيق رغبات الوالدين وطموحهما كلما أحس بعدم قبوله...
3- لا تقارن طفلك بغيره:
المقارنة بين شخصين – علمياً ومنطقياً – سلوك غير صحيح، وغير مقبول... لأنّهما عالمان مختلفان.. ولذلك فإنّ المقارنة عادة تتم بين سلوكين وليس بين شخصين... وفي المجال التربوي المقارنة بين طفلين لها من السلبيات أكثر من الإيجابيات، حيث تصيب المقارن الضعيف بالإحباط وتولد لديه شعوراً بالرفض.
4- لا تفرط في الحماية والدلال:
إحاطة الطفل بحماية زائدة تشل قدراته ولا تسمح له بتنميتها ولا باكتساب مهارات جديدة في الحياة... ولذلك لا نبالغ في موافقتنا على أنّ "الإقلال من حماية الولد أقل خطراً من الإفراط فيها".
الإفراط في الحماية تقضي على حب المغامرة والمبادرة لدى الطفل وقد تصيبه بالاتكالية القصوى والاعتماد الدائم على الغير...
والطفل يفهم الحماية الزائدة على أنها انعدام ثقة الوالدين في إمكاناته وقدراته وبالمقابل يرى أنّه مرفوض من والدين يمنعانه من تحقيق استقلاليته وذاته... والتعبير عن نجاحه في مراحل نموه المتعددة.
كيف تنمي حاجة القبول لدى ابنك؟
القبول حاجة نفسية لدى الطفل – وإشباعها ينمي الصفات الإيجابية لديه ويبعده عن الكثير من السلوكيات السلبية التي يمكن أن تتولد من افتقار الطفل للشعور بالقبول... وإذا كانت الوقاية من هذه السلوكيات السلبية تقتضي ابتعاد الآباء والأُمّهات عن مجموعة من التصرفات سبق بيانها.. فإن بناء القبول لدى الطفل وإشباع هذه الحاجة بنفسه تتطلب من الوالدين مواقف تربوية معينة نذكر منها:
مواقف تنمي حاجة القبول لدى ابنك:
1- امنح الطفل استقلاليته:
بعد تجاوز السنتين يبدأ الطفل بالنمو نحو الاستقلالية والاعتماد على الذات، ويسلك في سبيل ذلك طرقاً متعددة منها العناد بكل أشكاله، الإيجابية والسلبية، وكلما شعر الطفل باستقلاليته ورأى تشجيع محيطه، شعر بالقبول...
2- اعترف بالطفل بوصفه فرداً مستقلاً:
حينما نختار للطفل اسماً فإننا نقوم بعملية التمييز والاعتراف به كياناً مستقلاً لا رقماً داخل الأسرة.. ولذلك ينبغي تحديد المخاطب دائماً بين الأطفال والتمييز بينهم اعترافاً باستقلاليتهم.. فليس هنالك طفلان متطابقان أو متماثلان شخصية وكياناً.. ومن الخطأ معاملة الأطفال جميعاً بالأسلوب نفسه... ومخاطبتهم بالكلام نفسه وإخضاعهم للتربية نفسها.. فلكلٍّ كيانه الخاص، ولكلٍّ شعوره وموقعه الذي يختلف عن غيره... ولذلك ينبغي أن ينشَّأ الأطفال على هذا الشعور وهذا النمط التربوي... لكلِّ كيانه المستقل ولكلٍّ ظروفه وخصائصه المختلفة... فلو أنجز أحد الأبناء إنجازاً هائلاً احتاج منا إلى تقدير واحتفال وتخصيص هدية له على ذلك، فهل ينبغي أن نهدي الجميع ونقدر الجميع وكأنّهم كيان واحد؟
3- امدح إنجازاته:
قدرات الطفل مهما صغرت تجعله يحقق إنجازات تتناسب وإمكاناته الذاتية ومراحل نموه.. فما نراه – نحن الكبار – صغيراً هو في عرف الطفل إنجاز... وكلما اعترفنا للطفل بإنجازاته، شعر بالرضا عن نفسه واكتسب ثقة في قدراته واستشعر فعلاً أنّه مقبول، فامنح ابنك فرصاً لينجز ولا تحطه بسياج من الحماية الزائدة والدلال.
الإنجازات تقوي الطفل وتهيئه لمواجهة مصاعب الحياة وتحديات المستقبل...
4- عبر له عن المحبة:
ليس المهم أن نحب أبناءنا ولكن المهم أن نعبر لهم عن هذه المحبة بالكلمة والسلوك... وشعور الطفل أنّه محبوب يشبع لديه حاجة القبول...
5- استمتع بتربية ابنك:
التربية توجيه وتعامل مع زينة الحياة الدنيا، فاجعلها متعة وبرمج نفسك على الاستمتاع بالتعامل مع أبنائك... وكلما استشعرت هذا الشعور أحسست بسعادة كبيرة وكلما عبرت عن عبء التربية، شعر الطفل بعدم قبوله...
6- تقبل اقتراحات الولد:
الابن يحاول الإدلاء برأيه – اختباراً لقدراته ودفاعاً عن استقلاليته – فاسمع رأيه واهتم باقتراحاته مهما كانت – في نظرك – تافهة، فإنّ الإنصات والاهتمام بما يقوله يشعره بقبولك له وينمي لديه مهارات كثيرة ويقوي اعتزازه بنفسه.
7- تقبل صداقات الولد:
بناء علاقات مع أقرانه حاجة اجتماعية (الحاجة إلى الانتماء) لا يمكن استغناؤه عنها.. فابحث له عن الصحبة الصالحة، وأبد ارتياحك وقبولك لأصدقائه.. وافتح بيتك لزيارتهم.. إن في هذا السلوك الأبوي تشجيعاً للطفل على بناء علاقات سليمة تحت متابعة الأسرة، وفي الوقت نفسه تقوية لقدرته على توطيد العلاقات واكتساب مهارات التعامل مع الآخرين.
إنّ انتقاد الوالد/ الوالدة لأصدقاء الطفل باستمرار ودون مبررات مقنعة لديه تسبب للطفل أذى نفسياً وإحباطاً.
والتعبير عن تقدير أصدقائه يعزز لديه شعوراً ذاتياً بالقبول.
8- شجعه ولا تحبطه:
الطفل يتعثر أحياناً وهذه سنة الله في خلقه.. فحين يسقط الطفل يحتاج لمن يساعده على النهوض، لا لمن يعنفه ويحبطه بالتعليق السلبي والتعنيف والتنقيص.. لا تظهر نفسك وكأنك كامل، فإن كان الطفل يجد صعوبة في مادة ما، فلا تحبطه بأنك لما كنت في سنه كنت متفوقاً.. بل قل له أنا أيضاً كنت أجد صعوبة، لكنني تقويت وتجاوزتها بالمثابرة والجد، أو إذا كان ولدك يخاف من حيوان أو ظلام، فهدئ من روعه وأخبره أنك أنت أيضاً كنت كذلك، وقد بددت الخوف وتغلبت على المخاوف، بدل ان تنعته بصفات سلبية تحبطه ولا تقدمه خطوة واحدة إلى الأمام.
9- تعلم فن الإصغاء للولد:
الإصغاء والإنصات للولد تعبير منك على قبولك له واهتمامك به... والتواصل الذي يتم عبر الحوار والإنصات يحقق شعوراً لدى الطفل بقدرته على إثارة انتباهك وشعوره بأنّه مقبول لديك... ولذلك خصص وقتاً يومياً للإنصات للطفل ولو لبضع دقائق... وسوف يتعلم الابن الكثير ويبني الكثير من المهارات لديه... وسوف يتعلم الآباء الكثير كذلك من الطفل ويفهمانه أكثر ويكونان أقدر الناس على توجيهه وتعديل سلوكه...
10- عامل ولدك كما تحب أن تُعامَل:
كم يرتاح الكبار لو سمعوا كلمات الشكر والاعتذار ومجاملات الحديث من مثل "عفواً" "لو سمحت" "شكراً" "لو تكرمت"... وما أجمل أن يتعلم الآباء أن يحاوروا أبناءهم بمثل هذه العبارات الودية الجميلة... سوف تجعل منهم بحق آباءً إيجابيين وسوف ينشئون – بإذن الله – أبناء أكثر إيجابية...
إنّ الأطفال أشد حاجة من الكبار إلى معاملة الود ولطف الخطاب... وهي من أفضل الطرق للتعبير لهم عن القبول وتعليمهم كذلك كيف يحترمون غيرهم...
خلاصة القول..
إنّ الطفل في حاجة إلى التقبُّل: أي إشعاره بأنّه مقبول ومرغوب فيه من والديه والكبار من حوله، أما إذا شعر بأنّه منبوذ فإن ذلك سيؤدي به إلى الانطواء، والشعور بالعجز، وعدم القدرة على تحمل المسؤولية وبالتالي يتعلق بأعناق الراشدين من حوله، ويصبح طفلاً ذليلاً، عنيفاً كذوباً، محباً للانتقام، لا يرى نفسه إلا منتصراً أو مهزوماً، ولا يعرف للحب والأخوة والتعاون طعماً، ولهذا كان رسول الله (ص) يحض أصحابه على إحاطة الأطفال بمشاعر الحب والرحمة، فقد روى عن عائشة قالت: جاء أعرابي إلى النبيّ (ص) فقال: أتقبِّلون الصبيان فما نقبلهم! فقال النبيّ (ص): "أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة".
المصدر: كتاب الإبداع في تربية الأولاد
ارسال التعليق