• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المجتمع المسلم الواعي

المجتمع المسلم الواعي

◄(وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (الفتح/ 29)، يذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة مثلاً للمسلمين الذين يتّبعون التعاليم النبوية الشريفة.

يقول القرآن الكريم: أنّ مثل هؤلاء في الإنجيل كالزرع الذي يخرج ورقه بادىء ذي بدء وهو لا شكّ رقيق (أخرج شطأه)، لكن لا يبقى هذا الورق على حاله، إذ كلما انتشر في الأرض وأصبح له سويق، قوي وكانت له صفة أخرى أي: يقوي الورقة الأولى التي بدأت في الظهور (فآزره)، بعد ذلك يقوى أكثر ويكون سميكاً (فاستغلظ) ثمّ ينتصب قائماً على سويقه (فاستوى على سوقه) وحينما ينظر إليه الزّارع والاختصاصيون يغمرهم العجب وينبهرون. وهذه هي نفسها حالة النمو والاستقلال والسمو التي تغضب الأعداء وتكون شوكة في عيونهم، وحينما ينظر الكفار إلى تلك الفئة المؤمنة فإنّهم يزدادون غيظاً. ما هو هذا المثل المذكور؟ يجيبنا القرآن نفسه أنّ أصحاب النبيّ هم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) (الفتح/ 29).

التفتوا لهذا الموضوع وهو: أنّ العبادة لا تنفصل عن صميم الإسلام، فبعض الأشخاص ممن اطّلع على تعاليم الإسلام الاجتماعية قد سبّب لهم هذا الاطلاع أن ينظروا إلى العبادة نظرة ازدراء وامتهان، ولكن هؤلاء على خطأ لأنّ العبادة جزء لا يتجزأ من الإسلام على الصعيد النظري والعملي في آن واحد، فلا العبادة لها قيمة دون التعاليم الاجتماعية الإسلامية، ولا التعاليم لها قيمة دون العبادة. فلابدّ من اجتماع الأمرين معاً.

(يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) (الفتح/ 29)، أي: أنهم يريدون من الله الزيادة، ولا يقنعون بما عندهم علماً أنّ ما يريدونه ليس من الأشياء التي يطلبها الماديون الذين يلهثون وراء المال والماديات فقط. أي: يطلبون رضا الله في طريق الحقّ والحقيقة (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح/ 29)، فالإسلام ظاهر على ملامح وجوههم، وآثار العبادة بارزة على محيّاهم، وليس المقصود من هذا كثرة السجود الذي يؤدي إلى ظهور ثفنات في جباههم. بل المقصود هو أنّ خصوصية العبادة تترك أثراً على سيماء الإنسان وهناك علاقة عظيمة بين روح الإنسان وجسده.. وأفكار الإنسان وأخلاقه، وعقيدته، وملكاته تترك أثرها على محياه، فمحّيا الإنسان المصلي ليس كمحيا تارك الصلاة.

ما أعظمه من مثل ضربه الله للمسلمين الأوائل! أنّه مثل الوعي والتكامل.. إنّه مثل المؤمنين الذين يرتقون سلّم الرقي والتطور والمثل هو تشبيههم بالزرع الذي تتفتح أوراقه، ثمّ يكون له سويق سميك ذو أوراق كثيرة، ويكون شجيرياً لا كسائر الشجيرات... إنّه الزرع الذي يبهر الزراع أنفسهم بل ويبهر كلّ الذين لهم باع في التربية الإنسانية، إذ حينما ينظرون إليه يملأ العجب كلّ وجوههم من نموّهم بهذه السرعة، وجودته بهذه الدرجة، ويملأ العجب كيان سقراط وأمثاله، أجل فإنّ من الأمور المحيرة للبشرية على الصعيد العالمي تلك الفائقة لنمو المسلمين واستقلالهم والذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالآية: (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) (الفتح/ 29)، أي يقف وحده على أقدامه.

قال أحد الأوروبيين: أننا لو أخذنا بنظر الاعتبار ثلاثة أشياء فإننا سنعترف عندها أنّ لا وجود لشخص في العالم كمحمّد (ص) ولا قيادة فيه كقيادته. وهذه الأشياء هي:

أوّلاً: عظمة الهدف وأهميته، نعم، لقد كان الهدف عظيماً ومهماً للغاية إذاً حدث انقلاباً في الناس ومعنوياتهم وأخلاقهم وآرائهم وتقاليدهم الاجتماعية.

ثانياً: ضالة حجم الإمكانيات والوسائل آنذاك. ماذا كان عنده من أدوات ووسائل؟ لقد كانت معه عشيرته الأقربون، فلم يكن لديه مال ولا قوة ولا مساند ولا ناصر إنها أعجوبة حقاً أن يتمكن شخص واحد من كسب الناس، وجعلهم يؤمنون به، ويلتفون حوله، حتى أصبح أكبر قوة في العالم.

ثالثاً: سرعة الوصول إلى الهدف إذ أصبح أكثر من نصف الناس في العالم مسلمين خلال أقل من نصف قرن. عند ذلك يثبت ما ذكرناه من أنّه لا وجود لقيادة في العالم كقيادته (ص)، وهذا هو قصد القرآن من قوله: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (الفتح/ 29)، إذ أنّ الأخصائيين والخبراء في التربية الإنسانية ينبهرون إلى الأبد بسرعة ظهور المسلمين ونموهم واستقلالهم ونتاجاتهم.. وهذا المثل قد ذكر في القرآن المجيد للأُمّة الإسلامية.

أود أن أطرح هنا سؤالاً: هل أنّ هذه المواصفات التي ذكرها القرآن الكريم تخص المسلمين الأوائل؟ وهل أنّها من خصوصياتهم بالذات أو خصوصيات الإسلام نفسه؟ وبعبارة أخرى إذا ود أناس في أي زمان ومكان، واعتنقوا الإسلام، وعملوا بأحكامه فإنّهم سيحملون ذات المواصفات المذكورة من نمو وتكاثر وكمال واستقلال ونيل إعجاب الآخرين وانبهارهم، فالخصائص إذن هي خصائص الإسلام وليست خصائص الناس، وهي نابعة من الإيمان بالإسلام واتباع تعاليمه. وما جاء الإسلام ليعطل طاقات المجتمع ويقف حائلاً دون تفتقها، أو يُرغم المسلمين ليعيشوا في دوامة من المراوحة الرتيبة.. كلا، إنّه دين التنمية والتحرك والنشاط، وحيث برهن من الناحية العملية أنّه قادر على الأخذ بيد المجتمع إلى الأمام حيث الرقي والتقدم.. ولاحظوا ماذا أحدث الإسلام من قدرة، وماذا قدم من عطاء في القرون الأربعة الأولى من حياته. يقول ويل ديوارنت في "تاريخ الحضارة": "لا يوجد حضارة تبعث على الانبهار كالحضارة الإسلامية" إذن الإسلام كشف عن خصوصياته على الصعيد العملي، ولو كان الإسلام من دعاة الجمود والانكماش والرتابة لظل يراوح في مكانه بين العرب! فلماذا استوعب الحضارات الواسعة وأنشأ من مجموعها حضارة أعظم. فالإسلام لا يعارض تطور الزمن.

إنّ من الإنصاف القول أنّ لـ"غوستاف لوبون" دراسات كثيرة، وكتابه كتاب قيّم للغاية. ولكنه يتكلم أحياناً بطريقة تبعث على العجب، ولا غرو فهذا هو دين الغربيين وأسلوبهم. إنّه عندما يصل به المقام إلى الحديث عن أسباب انحطاط المسلمين، يذكر أنّ تعارض الإسلام مع حاجات العصر كان أحد الأسباب. فيقول: إنّ الزمن في تطور لكن المسلمين يريدون أن يبقى الإسلام في كلِّ عصر على حالته التي كان عليها في عصره الأوّل، وهذا أمر لا يمكن تحققه. وكذلك فهم بدل أن يتركوا الإسلام جانباً، ويسايروا تطورات العصر، نراهم بقوا على تمسكهم بالإسلام فانحطوا وتخلفوا.

وكلّ شخص يرغب أن يتعرف على المثال الذي يذكره هذا المستشرق الكبير لدعم مزاعمه! فأي مبدأ من مبادئ الإسلام تمسك به المسلمون فتخلفوا ولم يواكبوا التطورات الحاصلة في كلِّ عصر! وأي مبدأ في الإسلام وجده غوستاف لوبون لا يلائم حاجات العصر ومستلزماته! وأي شيء لمسه من المسلمين حتى قال: أنّهم كشفوا عن جمودهم وتحجرهم من خلال عدم مسايرتهم لتطورات العصر، يقول: أنّ من المبادئ الإسلامية الرائعة مبدأ المساواة الذي آتى أكله في عصر صدر الإسلام، ومهّد السبيل أمام الشعوب الأخرى لتدخل في دين الله أفواجاً ولا سيّما من غير العرب الذين اكتووا بنار ظلم حكّامهم وأحبارهم، وهؤلاء عندما اطلعوا على ذلك المبدأ العظيم انفتحوا على الإسلام واعتنقوه لأنهم لم يجدوا فيه تمييزاً عنصرياً أو خدمة المجتمع الإسلامي، وظل المسلمون الذين جاؤوا فيما بعد على إصرارهم وتعنتهم في الاستمرار بتطبيق هذا المبدأ في العصور اللاحقة في الوقت الذي لو كانوا قد نبذوه جانباً لظلت زمام الأمور بأيديهم وكانت لهم السيادة والحاكمية. وعندما تسلم العرب مقاليد الأمور، ودخلت الشعوب الأخرى في الإسلام، كان عليهم أن يفضلوا السياسة على الدين، ويقدموها عليه، لأنّ السياسة تقتضي ترك مثل هذه المفاهيم والمبادئ، واستغلال الشعوب الأخرى، وجرّها لتكون تحت نيرها وسلطتها حتى تستطيع توطيد أركان حكومتها.. هذه هي السياسة أما هؤلاء فكانوا لا يفهمون إذ تشبثوا بمبدأ المساواة ولم يفرقوا بين العرب وغيرهم وفتحوا الطريق أمام الأعاجم وكسبوهم إلى صفوفهم، وعيّنوهم قضاة من الدرجة الأولى بعدما هيأوا لهم الفرصة للتزود من التعاليم الإسلامية.. وجاء هؤلاء بالتدرج وأصبحوا في موضع قوة وقدرة فسحبوا البساط من تحت أرجلهم أي أرجل العرب.

قد وقع غوستاف لوبون في خطأ في رأيه بأنّ الإسلام أوّلاً ليس نهجاً سياسياً بالمفهوم الأوروبي ثانياً: ولأنّ المسلمين لو اتخذوا من الإسلام ألعوبة للسياسة لما كان له أي أثر اليوم، ولما كان المسلمون أمّة بهذا الشكل.

إنّ هدف الإسلام هو إقرار المساواة بين الناس بشكل تام. ولو شرّع الإسلام مبدأ نفعياً على النحو المؤقت، أي: مثلاً، لكسب بعض الناس والاستفادة منهم، ثمّ بعد ذلك نقضه لما كان إسلاماً حقيقياً بمعنى الكلمة أنّ هذه هي السياسة الأوروبية التي تصدر وثيقة حقوق الإنسان لتنضوي بقية الشعوب تحت سلطنتها وهيمنتها كما حدث ذلك، وإذا ما انضوت فإنها تقول لها: كلّ هذا الكلام هراء.

هذا هو أسلوب التفكير السائد عند هؤلاء. إنّهم يقولون: أنّ الإسلام فظ غير مرن ولا ينجسم مع متغيرات العصر، وبعبارة أخرى مع السياسة.

الإسلام جاء لمحاربة أمثال هذه السياسة المنحرفة في العالم، أنّه لا يعتقد بمتطلبات العصر التي يريدها هؤلاء إنّه يعتبرها انحرافات العصر لا متطلباته، ويعلن محاربته لها ووقوفه ضدها.

إنّ ما ذكره غوستاف لوبون هو نفس المؤاخذة التي تشدق بها البعض ضد سياسة أمير المؤمنين (ع) فقالوا عنه: أنّ كلَّ شيء فيه حسن، فهو رجل علم وعمل وتقوى وعاطفة وإنسانية وحكمة وخطابة لكن عيبه الوحيد والكبير أنّه لم يكن سياسياً! لماذا لم يكن سياسياً؟ لأنّه – على حد زعمهم – لم يكن مرناً أي: كانت تعوزه المرونة، وكان متشدداً للغاية حيث لم يهتم ولم يفكر بالمصالح السياسية للدولة، إنّ الشخص السياسي – برأي هؤلاء – ينبغي أن يكذب ويزور الحقائق، ويعد ولا يفي بوعوده، ويوقع على ميثاق أو حلف ثمّ ينقض توقيعه بل ينكره، ويظهر البشاشة والطلاقة بوجه شخص ما حتى إذا استسلم له قتله..

وكما فإنّ الإسلام جاء ليكافح هذا اللون من السياسة، ويعمل كل ما في وسعه لخدمة الإنسانية وإسعادها، وهو – بلا شكّ – الحارس الأمين لها، ولو كان قد أُبدي شيئاً من المرونة والتنازل فلا يعدو أن يكون إسلاماً، بل حيلة ومكراً.. إنّ الإسلام هو الحافظ الأمين، وهو الحقيقة ذاتها، والعدالة نفسها، وأساساً فإنّ فلسفته في مثل تلك المواقف المذكورة ينبغي أن تكون قوية متصلبة.

إنّ سياسة عليّ (ع) هي التي جعلت منه حاكماً على قلوب الناس قروناً عديدة. فقد دافع عن أفكاره في عصره، وظلت أفكاره بمثابة مبادئ ثابتة ودروس ذات مغزى في العالم، لهذا فإنّ منهجه صار عقيدة وإيماناً بين الناس، فلم يخسر في سياسته إذاً، ولو كانت سياسته وهدفه أن يتنعم قلائل (كما كان معاوية يصرّح بأنّه غرق في نعم الدنيا ومباهجها) لقلنا أنّه خسر، لكن بما أنّه كان رجل إيمانه وعقيدة وهدف فلم يخسر أبداً. إذاً من التوقعات الخاطئة التي ينتظرها هؤلاء فيما يخصّ الانسجام مع حاجات العصر هي أن يتلون السياسيون بلون كلّ عصر، ويتصفوا بالدهاء والمكر والخديعة كالثعلب الماكر مطلقين على ذلك اسم المرونة والذكاء والانسجام مع الزمان. ويتوقعون من الإسلام أن يكون كذلك وأن يسمح لمعتنقيه بأن يكيفوا أنفسهم مع الزمن مدّعين أن نقص الإسلام يكمن في عدم مرونته وانفتاحه على التطورات الحاصلة في كلِّ عصر. إنّ من دواعي فخر الإسلام أنّه وقف بكلِّ صلابة أمام هذه المداهنة: إنّ عظمة الحسين (ع) هذا الإمام الذي أخذ بمجامع القلوب، وخلّدته الدهور تكمن في أنّه لم يكن متلوناً بلون الزمان. ولم يقل أبداً: أنّ النبي إذا حكم فنحن منه وإذا حكم معاوية، فنحن معه. عندما قال له مروان بن الحكم يا أبا عبدالله: إني أنصحك أن تبايع يزيد. لم يقل (ع): إنّ هذه ليست مصلحتي بل التفت إلى الإسلام قائلاً: وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد.►

 

المصدر: كتاب الإسلام دينُ الله

ارسال التعليق

Top