• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مبدأ التعايش بين البشر.. إسلامياً

مبدأ التعايش بين البشر.. إسلامياً

◄هناك مجموعة من المبادئ التي تجعل (التعايش) بين البشر متحققاً، يمكن عرضها على هذا النحو:

1-    التكييف الفطري: أي إنّ السماء التي أبدعت الكائن البشري، ركّبت فيه نزعة (الحاجة إلى الاجتماع)، تجسيداً للمهمة العبادية التي تتطلب مفروضية (اجتماعهم) بدءاً من عملية (التناسل) لاستمرارية البشر، مروراً بعملية (توصيل) مبادئ السماء إليهم، وانتهاءً بممارسة المبادئ الاجتماعية المفروضة عليهم: في عملية الاختبار الإلهي التي خلق الإنسان أساساً من أجلها، حيث لا يمكن أن نتصور إمكانية تمرير (التجربة العبادية) إلا من خلال (العلاقات) التي تفرضها عمليات (التناسل) و(التوصيل) و(ممارسة المبادئ)، وحيث لا يمكن تمرير هذه (العلاقات) إلا من خلال (نزوع فطري) يحمل البشر على (التعايش) فيما بينهم. ولا أدلَّ على ذلك من ملاحظتنا لحياة الطفل – وهو لم ينضج بعد: عقليّاً ونفسيّاً – حيث يستجيب فطريّاً – منذ ولادته – لمفهوم (التعايش). وأما عدوانيته (في حالة إحساسه بالحاجة إلى الطعام مثلاً) فلا تتجاوز المدى القصير، ليعود إلى التعايش من جديد. وحتى في حالة عدم إشباعه: فإن إمكانية تدريبه على تأجيل ذلك، لو لم يقترن بـ (نزوع فطري) نحو التعايش، لما أمكن أن تتم أية عملية (تدريب) كما هو بيّن.

2-    نزعة الخير: إنّ المبدأ الإسلامي القائل بفطرية (الإيمان) وكراهية الكفر والفسوق والعصيان (حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم، وكرّه إليكم الكفر..) هذا المبدأ يفترض (خيرية) الإنسان أساساً، وفي مقدمة ذلك (التعايش) بين البشر، حيث نرى أنّ (الحب) هو جوهر التركيبة البشرية، ولا يمكن أن نتصور دلالة لمفهوم (الإنسان) في حالة سلخه من مفهوم (الحب). ولذلك فإن افتراض (حد أدنى) من (الخيرية) – متمثلة في حدٍ أدنى من الحب – يظل أمراً يفسّر لنا واحداً من أسرار التعايش.

3-    إلهامية الخير والشر: إنّ هذا المبدأ (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 8)، يعني بوضوح، أنّ البشر (يرث) جهازاً (قيميّاً) يستطيع من خلاله أن (يميّز) بين ما هو خير أو شر: حتى لو لم يقترن ذلك بتنشئة اجتماعية هادفة، ولذلك فإنّ (المعرفة أو الثقافة الفطرية) لمفهوم (الخير) وتمييزه عن (الشر)، يفرض على البشر أن (يتعايش) فيما بينه: انطلاقاً من فرضية وجود (الحد الأدنى) من (القيم) التي تحمل الأفراد على (التعايش) فيما بينهم.

4-    التنشئة الهادفة: ونعني بها (القيم الثقافية) التي يتقبلها الأفراد تلقائيّاً (من خلال التنشئة الاجتماعية)، حيث تحملهم على أن (يتعايشوا) فيما بينهم: انطلاقاً من قناعتهم بمعطيات التعايش: مع ملاحظة أنّ هذا المبدأ يظل مرتبطاً بمبادئ (التوازن)، إلا أنّه يسهم في تعميق مفهوم (التعايش) وهو الذي يميّز المجتمعات بعضها عن الآخر في طبيعة (القيم والمعايير) التي يملكونها. فالمجتمعات الأرضية (وهي بطبيعتها معرضة للخطأ والصواب) قد تتوفّر على (قيم) إيجابية (من حيث إمكانية أن تكون صائبة في صياغة القيم)، وقصورها جميعاً عن تحقيق ما هو إيجابي منها من جانب آخر، حيث أنّ (التفاوت) في تحديد القيم يكشف عن كونها (نسبية) وإلا أصبحت (مطلقة) لا خلاف فيها، وهذا يعني أنّ (الخطأ) يطبعها دون أدنى شك: بخاصة أنّ التطور البشري يكشف عن كون (القيم) لا حقيقة مطلقة فيها وإلا لما خضعت لمفهومات التطور، بصفة أنّ التطور يكشف عن (قصور) في مرحلة سابقة، وهكذا.. ولا أدلّ على ذلك كله أي: (اختلاف القيم من جانب، وقصورها جميعاً من جانب آخر) هو ما نلحظه من (التفكك الاجتماعي) متمثلاً في (المشكلات) – التي أشرنا لها في حقل سابق – إلى أن علماء الاجتماع لم يرسموا (بدائل) لها حتى الآن بالرغم من كونهم يمتلكون الملاحظة الصائبة في تشخيصها – كما أسلفنا – ... وهذا  كله فيما يرتبط بالقيم الأرضية... أمّا (القيم العبادية): أي القيم التي رسمتها السماء (وهي قيم صائبة مطلقاً بصفتها مبادئ الله تعالى) فتظل مقتصرة على الأفراد والجماعات الإسلامية، أي أنها تشكّل الوجه الآخر من المبدأ رقم (4)، فيما يشكل الوجه الأوّل منها (قيم الأرضيين)... ولا شك أن حجم الالتزام بها أو العكس، سيحدد – بالنحو الذي نوضّحه لاحقاً – مدى حجم (التعايش) إيجاباً أو سلباً... والمهم هو: أن نعرض لمبادئ التعايش المشار إليها، لتحديد مدى الفارق بين التصورين الإسلامي والأرضي، فنقول: إنّ المبدأين: (1) و(2) من المبادئ الأربعة المشار إليها، يحملان الأفراد على أن (يتعايشوا) بصورة فطرية. أما المبدءان: (3) و(4) فهما يحملان الأفراد على (التعايش) بصورة واعية، كلّ ما في الأمر، أنّ المبدأ رقم (3) يقترن (بثقافة فطرية) تحمله على أن (يعي) فائدة التعايش، بينما يقترن المبدأ رقم (4) بثقافة بينية أساساً...

يترتب على ما تقدم – وفقاً لتصورنا الإسلامي – أن يتحدد مفهوم (التعايش) وفق مستويات ثلاثة:

1-    التعايش المطلق: ونعني به أنّ (التعايش) أمر مفروض منه (قائم بالفعل): بغض النظر عن الزمان والمكان ومستوى الوعي، فمنذ النشأة البشرية وحتى حياتنا المعاصرة لم يحدث انقطاع الوجود البشري البتة، مما يعني أنّ (التعايش) فرض وجوده في الحالات جميعاً،... وتفسيرنا لاستمراريته يتمثل في توفّر المبدأين رقم (1) و(2)، حيث أن وجود (حد أدنى) من (حب الاجتماع)، ووجود (حد أدنى) من (نزعة الخير) تحمل الأفراط فطريّاً على التعايش فيما بينهم.

2-    التعايش النسبي: ونعني به أن مستويات (التعايش) من حيث حجمه أو نوعه أو مقداره (إيجاباً وسلباً)، تتحدد وفقاً للمبدأين رقم (3) و(4)، فبقدر الاستعداد الذي يبذله البشر (وفقاً للمبدأ رقم (3)) في التنازل عن (الذات) وتأجيل إشباعاتها أو العكس، يتحدد حجم التعايش أو العكس كذلك، فالأفراد والجماعات ما داموا يملكون (معرفة أو ثقافة فطرية) نحو مفهومات الخير والشر: مثل المسالمة والمحاربة، حينئذٍ يتوقف مستوى التعايش فيما بينهم على مدى استعدادهم لتقبل هذا الخيار أو ذاك، وهو ما يفسر لنا مدى تفاوت مستويات التعايش التي شهدتها المجتمعات قديماً وحديثاً: تبعاً للمبدأ المذكور.

كذلك بالنسبة إلى المبدأ رقم (4)، فبقدر ما يملك الأفراد أو الجماعات من قيم اجتماعية (تراث اجتماعي) ذات طابع إيجابي أو سلبي، وبقدر ما يملكون من الاستعداد لتقبّل ما هو إيجابي أو العكس: يتحدد حجم التعايش، ومن ثم حجم (التوازن الاجتماعي) الذي يترتب على مدى تحقق المستويات من (التعايش) النسبي فيما بين الناس.

3-    التعايش الإسلامي: ونعني به أنّ الأفراد والجماعات، حينما يتعاملون مع المبدأ رقم (4) (من خلال التنشئة العبادية) متمثلة في مبادئ الإسلام التي رسمت مختلف خطوط التعايش، حينئذٍ فإنّ (التوازن الاجتماعي) – وهو هدف كلّ المجتمعات – سوف يتحقق حجمه من خلال استعداد الإسلاميين للالتزام بمبادئ السماء: أي بقدر ما يمارسونه من الطاعة أو المعصية.

وفي ضوء هذه الحقائق، يمكننا أن نتبين مدى صحة أو خطأ التصورات الأرضية حول (مبدأ التعايش)، أي: تساؤل علماء الاجتماع عن ماهية المبادئ التي تجعل "الاجتماع" قائماً بين البشر: بالرغم من (الذاتية) و(العدوانية) اللتين تطبعان سلوك البشر...

إنّ المبادئ الأربعة التي أشرنا إليها، تحدّد بوضوح طبيعة (التعايش) المتحقق في المجتمعات كلها: قديماً وحديثاً... أمّا التصور الأرضي فيظل بعضه موسوماً بالصواب والآخر بالخطأ دون أدنى شك. فالاتجاه الذاهب إلى أنّ العقد الاجتماعي: بنمطيه (القهري والتلقائي) هو الذي يفرض (التعايش) بين الناس، يظل تصوراً مخطئاً دون أدنى شك، حيث أنّه يفترض إنّ الكائن البشري ينطلق من (نزعة آحادية) هي: ذاتيته وعدوانيته، أي أنّه لا ينزع إلا لسلوك واحد هو إشباع حاجاته بنحوٍ مطلق مما يضطره إلى أن (يتعايش) مع الآخرين: إما (قهراً) بسبب (القوة) المفروضة عليه، أو (تلقائيّاً) بسبب مصالحه المشتركة... هذه النظرية تتنافى أساساً مع (خيرية) الإنسان التي تقررها غالبية المعنيين بشؤون الاجتماع والنفس، وفي مقدمة ذلك (حب الاجتماع)، بل تتنافى – تجريبيّاً – مع ما نلحظه – في الحياة العادية عند المجتمعات كلها – من أفراد وجماعات ومؤسسات ذات طابع (إنساني) لا تعمل إلا من أجل الآخرين، فضلاً عن أنها تتنافى مع الدراسات الميدانية التي اضطلع بها (علماء الأقوام) عبر دراستهم لمجتمعات لا تتحرك من خلال (الذات) و(العدوان) البتة، بل تتحرك على العكس من ذلك تماماً، هذه جميعاً تكشف عن خطأ التصور الأرضي في تفسيره (الآحادي) لتركيبة الإنسان... أما الاتجاه الأرضي الذاهب إلى (فطرية الاجتماع) فهو موسوم بالصواب دون أدنى شك تبعاً لما أوضحناه (خلال عرضنا للتصور الإسلامي)، وإن كان الاتجاه الأرضي المذكور لم ينجح في تحديده للمصدر الفطري (أي: التكييف العبادي) لفطرية الاجتماع: نظراً لعزلته عن معرفة السماء ومبادئها بطبيعة الحال.

وأما الاتجاهات الأرضية التي أضافت إلى سابقتها: مبدأ (القيم)، فهي متسمة بالصواب أيضاً، طالما أنها تشخّص طبيعة التركيبة البشرية القائمة على (ثنائية) النزعة، ذاتية الإنسان وعدوانيته من جانب، وإيثاره ومسالمته من جانب آخر...

بيد أنها – بطبيعة الحال – لم تنجح في تحديد (القيم) الخارجية أو الداخلية التي تحمل البشر على (التعايش) في حده الأدنى أو حدوده النسبية التي تعمل (القيم) على فرزها من مجتمع لآخر، مما يترتب على عدم هذا التحديد: أن يظل هذا الاتجاه ومثله سائر الاتجاهات حائماً على تفسير (التعايش)، دون أن ينجح في تفسير ما يترتب على التعايش من ضرورة اجتماعية هي تحقيق (التوازن) الذي يظل هدفاً للدارسين لا مجرّد التعايش المصحوب بمشكلاته التي أشرنا إليها، حيث تظل أسئلتهم حائمة على ماهية المبادئ التي تجعل المجتمعات (متوازنة) وليس عن ماهية المبادئ التي تجعل المجتمعات (قائمة) فحسب، وهو ما يفترق عن التصور الإسلامي الذي يحدد (القيم المطلقة) التي تحقق "التوازن" المستهدف بالنحو الذي تحاول دراستنا عرضه في هذا الميدان...

وأيّاً كان، إن ما نستهدف التأكيد عليه – إسلاميّاً – هو: أن مبدأ (التعايش الاجتماعي) يفرض ضرورته على المجتمعات تبعاً للمبادئ الأربعة المشار إليها، يضاف إليها – بطبيعة الحال – ما أشار البحث الأرضي إليه من مبدئي: (المصلحة المشتركة) و(القهر أو الضبط)، أي: إنّ المبادئ الأربعة (فطرية الاجتماع، فطرية الخير، إلهاميته، التنشئة الإيجابية) تشكّل الجانب القيمي الصرف في ظاهرة التعايش،... وأما المصالح (المشتركة) و(القهر) يشكّلان الجانب الأقل فعالية من الجانب القيمي: بخاصة أنّ المبدأ (4) – أي القيم الواعية – تسهم في تدعيم (المصالح) و(القهر) من جانب، تمتصهما من جانب آخر، بمعنى أنّ (القيم) تدرّب الأفراد والجماات على أن يترفعوا بمصالحهم، وتطالبهم بأن يتعايشوا طواعية دون قهر من الخارج، إلا أنها – أي القيم – من جانب آخر تنبههم إلى أن "مصلحتهم المشتركة" أو يتعايشوا، وإلى أنهم مهددون بـ"القهر" في حالة عدم استعدادهم للتعايش...

هذا يعني أنّ (القيم الواعية): أي القيم التي يتشربها الأفراد والجماعات، سواء أكانت أرضية أو إسلامية، تظل مبادئ مدعمة لتحقيق التعايش أما المبادئ الرئيسة التي تحقق ذلك، فتعتمد على (فطرية الاجتماع والخير وإلهاميته).►

 

المصدر: كتاب الإسلام وعلم الاجتماع/ موسوعة الفكر الإسلامي (3)

ارسال التعليق

Top