• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نظرة الإسلام العامة إلى الأرض

السيد محمّدباقر الصدر

نظرة الإسلام العامة إلى الأرض

لنفترض، أنّ جماعة من المسلمين قررت أن تستوطن منطقة من الأرض كانت ولا تزال غير مستثمرة، فأنشأت في تلك المنطقة مجتمعاً إسلامياً وأقامت علاقاتها على أساس الإسلام، ولنتصوّر أنّ الحاكم الشرعي. النبيّ (ص) أو (الخليفة) يقوم بتنظيم تلك العلاقات، وتجسيد الإسلام في ذلك المجتمع بكلّ خصائصه ومقوماته الفكرية والحضارية والتشريعية.. فماذا سوف يكون موقف الحاكم والمجتمع من الأرض؟، وكيف تنظم ملكيتها؟.

والجواب على هذا السؤال جاهز، فإنّ الأرض التي قدّر لها في فرضيتنا أن تصبح وطناً للمجتمع الإسلامي. وتنمو على تربتها حضارة السماء، قد افترضناها أرضاً طبيعية غير مستثمرة لم يتدخل العنصر الإنساني فيها بعد، ومعنى هذا أنّ هذه الأرض تواجه الإنسان وتدخل في حياته لأوّل مرة في الفترة المنظورة من التاريخ.

ومن الطبيعي أن تنقسم هذه الأرض في الغالب إلى قسمين. ففيها الأراضي التي وفّرت لها الطبيعة شروط الحياة والإنتاج من ماء ودفء ومرونة في التربة، وما إلى ذلك، فهي عامرة طبيعياً، وفيها الأراضي التي لم تظفر بهذه المميزات من الطبيعة، بل هي بحاجة إلى جهد إنساني يوفّر لها تلك الشروط، وهي الأرض الميتة في العرف الفقهي. فالأرض التي افترضنا أنّها سوف تشهد ولادة المجتمع الإسلامي، هي إذن: إمّا أرض عامرة طبيعياً وإمّا أرض ميتة ولا يوجد قسم ثالث.

والعامر طبيعياً من تلك الأرض ملك الدولة، أمّا بتعبير آخر، ملك المنصب الذي يمارسه النبيّ (ص) وخلفاؤه الشرعيون، وفقاً للنصوص التشريعية والفقهية، حتى جاء في تذكرة العلّامة الحلي. أنّ إجماع العلماء قائم على ذلك.

وكذلك أيضاً الأرض الميتة، وهو واضح أيضاً في النصوص التشريعية والفقهية. حتى ذكر الشيخ الإمام المجدد الأنصاري في المكاسب، أنّ النصوص بذلك مستفيضة، بل قيل أنّها متواترة.

فالأرض كلّها إذن، يطبق عليها الإسلام ـ حين ينظر إليها في وضعها الطبيعي ـ مبدأ ملكية الإمام، وبالتالي ملكية ذات طابع عام.

ولننظر الآن إلى ما يأذن به الإسلام لأفراد المجتمع ـ الذي افترضناه ـ من ألوان الاختصاص بالأرض. وفي هذا المجال يجب أن نستبعد الحيازة والاستيلاء المجرد، بوصفه مبرراً أصيلاً لاختصاص الفرد بالأرض التي يحوزها ويستولي عليها، لأنّا لا نملك نصاً صحيحاً يؤكد ذلك في الشريعة. وإنما الشيء الوحيد الذي عرفنا أنّه يبرر الاختصاص شرعاً: هو الإحياء، أي إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض ميتة، من أجل بعث الحياة فيها.

فإنّ ممارسة هذا العمل، أو العمليات التمهيدية له تعتبر في الشريعة سبباً للاختصاص. ولكنّه بالرغم من ذلك لا يكون سبباً لتملّك الفرد رقبة الأرض ملكية خاصّة تخرج بها عن مبدأها الأوّل، وإنما ينتج حقّاً للفرد، يصبح بموجبه أولى بالانتفاع بالأرض التي أحياها من غيره، بسبب الجهود التي بذلها في الأرض. ويظل للإمام ملكية الرقبة، وحقّ فرض الضريبة على المحيي، وفقاً للنص الفقهي الذي كتبه الشيخ الفقيه الكبير، محمّد بن الحسن الطوسي، حين قال في فصل الجهاد من كتاب المبسوط، "فأمّا الموات فأنّها لا تغنم، وهي للإمام فأنّ أحياها أحد كان أولى بالتصرّف فيها، ويكون للإمام طسقها".

ويستمر الحقّ الذي يمنح للفرد بالإحياء، ما دام عمله مجسداً في الأرض، فإذا استهلك عمله، واحتاجت الأرض إلى جهد جديد للحفاظ على عمرانها، فلا يمكن للفرد أن يحتفظ بحقّه، إلّا بمواصلة أعمارها وتقديم الجهود اللازمة لذلك، أمّا إذا أهملها وامتنع عن عمرانها، حتى خربت سقط حقّه فيها.

مع خصوم ملكية الأرض:

والشكوك التي تثار عادة من خصوم ملكية الأرض حولها، تتجه تارة إلى اتهام واقعها التاريخي وجذورها الممتدة في أعماق الزمن. وتذهب تارة أخرى إلى أكثر من ذلك، فتدين نفس فكرة الملكية وحقّ الفرد في الأرض، بمجافاتها لمباديء العدالة الاجتماعية.

وأقرب الأشياء إلى القبول، حين نتصوّر طائفة بدائية تسكن في أرض وتدخل الحياة الزراعية.. أن يشغل كلّ فرد فيها مساحة من تلك الأرض. تبعاً لإمكاناته، ويعمل لاستثمارها. ومن خلال هذا التقسيم الذي يبدأ بوصفه تقسيماً للعمل ـ إذ لا يتاح لجميع المزارعين المساهمة في كلّ شبر ـ تنشأ الحقوق الخاصّة للأفراد، ويصبح لكلّ فرد حقّه في الأرض، التي أجهدته وامتصت عمله وأتعابه. وتظهر بعد ذلك عوامل العنف والقوّة، حين يأخذ الأكثر قدرة وقوّة يغزو أراضي الآخرين ويستولي على مزارعهم.

فإنّ الصورة الإسلامية ـ سوف تبقى فوق كلّ تهمة منطقية، لأنّنا رأينا أنّ الأرض ـ منظوراً إليها بوضعها الطبيعي الذي هي عليه حين تسلمت الإنسانية هذه الهبة من الله تعالى ـ، ليست ملكاً أو حقّاً لأي فرد من الأفراد، وإنما هي ملك الإمام ـ باعتبار المنصب لا الشخص ـ ولا تزول ـ بموجب النظرية الاقتصادية للإسلام عن الأرض ـ ملكية الإمام لها، ولا تصبح الأرض ملكاً للفرد بالعنف والاستيلاء، بل وحتى بالإحياء، وإنما يعتبر الإحياء مصدراً لحقّ الفرد في الأرض فإذا بادر شخص بصورة مشروعة إلى إحياء مساحة من الأرض، وأنفق فيها جهوده، كان من الظلم أن يساوي في الحقوق بينه وبين سائر الأفراد، الذين لم يمنحوا تلك الأرض شيئاً من جهودهم، بل وجب اعتباره أولى من غيره بالأرض والانتفاع بها.

فالإسلام يمنح العامل في الأرض حقّاً يجعله من غيره، ويسمح من الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة أو الطسق عليه، لتساهم الإنسانية الصالحة كلّها في الاستفادة من الأرض، عن طريق الانتفاع بهذا الطسق.

ولما كان الحقّ في نظر الإسلام يقوم على أساس العمل، الذي أنفقه الفرد على الأرض، فهو يزول - بطبيعة الحال ـ إذا استهلكت الأرض ذلك العمل، وتطلبت المزيد من الجهد، لمواصلة نشاطها وإنتاجها، فامتنع صاحب الأرض من عمرانها وأهملها حتى خربت، والأرض ـ في هذه الحالة ـ تنقطع صلتها بالفرد الذي كان يمارسها، لزوال المبرر الشرعي الذي كان يستمد منه حقّه الخاص فيها، وهو عمله المتجسد في عمران الأرض وحياتها.

العنصر السياسي في ملكية الأرض:

أنّ مساهمة الأرض فعلاً في الحياة الإسلامية وتوفير إمكاناتها المادّية، تنشأ تارة عن سبب اقتصادي، وهو عملية الإحياء التي ينفقها الفرد، على أرض داخلة في حوزة الإسلام، لتدبّ فيها الحياة وتساهم في الإنتاج، كما تنشأ ـ تارة أخرى ـ عن سبب سياسي، وهو العمل الذي يتم بموجبه، ضم أرض حيّة عامرة إلى حوزة الإسلام، وكلّ من العملين له اعتباره الخاص في الإسلام.

وهذا العمل الذي ينتج ضم أرض حيّة عامرة إلى حوزة الإسلام على نوعين: لأنّ الأرض تارة تفتح فتحاً جهادياً، على يد جيش الدعوة، وأخرى يسلم عليها أهلها طوعاً.

فإن كان ضم الأرض إلى حوزة الإسلام، ومساهمتها في الحياة الإسلامية نتيجة للفتح، فالعمل السياسي هنا يعتبر عمل الأُمّة، لا عمل فرد من الأفراد، ولذلك تكون الأُمّة هي صاحبة الأرض، ويطبق على الأرض ـ لأجل ذلك ـ مبدأ الملكية العامّة.

أنّ المجال الأساسي للملكية الخاصّة لرقبة الأرض في التشريع الإسلامي.. هو ذلك القسم من الأرض، الذي كان ملكاً لأصحابه، وفقاً لأنظمة عاشوها قبل الإسلام، ثم استجابوا للدعوة ودخلوا في الإسلام طوعاً أو صالحوها، فإنّ الشريعة تحترم ملكياتهم، وتقرهم على أموالهم.

وأمّا في غير هذا المجال، فالأرض تعتبر ملكاً للإمام. ولا تعترف الشريعة بتملك الفرد لرقبتها، وإنما يمكن للفرد الحصول على حقّ خاص فيها، عن طريق الإعمار والاستثمار.

فالشريعة على الصعيد النظري إذن لم تعترف بالملكية الخاصّة لرقبة الأرض، إلّا في حدود احترامها للملكيات الثابتة في الأرض، قبل دخولها في حوزة الإسلام طوعاً وصلحاً.

 

المصدر: كتاب اقتصادنا

ارسال التعليق

Top