• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوظيفة الاجتماعية للمال

مصطفى عبدالجبّار

الوظيفة الاجتماعية للمال

للمال، في النظام الاقتصادي الإسلامي، وظيفة اجتماعية. وتتلخّص وظيفته في استخدامه كوسيلة لتحقيق إشباع الحاجات الأساسية للإنسان، وتوفير العيش الكريم له، واستثماره في مجالات الإعمار والتطوير وتطويع الطبيعة لخدمة متطلبات الإنسان.

ويعود تقرير مبدأ "الوظيفة الاجتماعية للمال" إلى نظرة الإسلام للمال والملكية.

 

المال.. مال الله:

فالإسلام يرى، ورأيُه الحقّ، أنّ المال الذي يحوزه الإنسان هو، في الأصل وفي الحقيقة، ملكٌ لله تعالى، إلحاقاً بملكية الله الحقيقية للكون، تلك الملكية المنبثقة من اعتبار أنّ الكون مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى.

وإلى هذه الحقيقة يُشير القرآن الكريم بقوله:

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (الشورى/ 49 – النور/ 42 – الجاثية/ 27 – الفتح/ 14).

ويُلاحَظ أنّ القرآن في كثير من الآيات القرآنية ينسب أصل المال الذي بحوزة الإنسان، إلى الله، حيث يطالب المؤمنين بالإنفاق في سبيل الله، كما في قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة/ 234)، فكلمة "رزقناكم" – وقد وردت في القرآن بهذا الاستعمال – 7 مرّات – تؤكّد هذه النسبة: أنّ مال الإنسان هو في حقيقته رزقٌ من الله.

وعلى نفس السياق يستخدم القرآن تعبير "رزقكم" 9 مرّات، و"رزقناهم" 13 مرة وهكذا.

وفي إشارة مماثلة، يقول القرآن الكريم:

(وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النّور/ 33).

ويستلهم الإمام الصادق هذا المعنى، حين يقول:

"المال مالُ الله، جعله ودائع عند خلقه".

 

.. والجماعة البشرية مستخلفة فيه:

هذا أوّلاً، ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى، جعل ملكية المال للجماعة البشرية، بحكم استخلافه لها على الأرض، حسب نصّ الآية القرآنية الكريمة التي تقول:

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرةم 30).

والاستخلاف هنا، كما ينصّ المفسّرون، ليس منصرفاً إلى شخص آدم الفرد، وإنما هو منصرف إلى النوع البشري، الذي يُمثّله آدم (ع). فالجماعة البشرية هي المستخلفة في – وعلى – الأرض، بل الكون، بما فيه من خيرات، وثروات، وأموال، وموارد..

ولذا نجد أنّ القرآن الكريم، حيث يدعو إلى الإنفاق في سبيل الله، يُشير إلى حقيقة أنّ الناس مستخلفون على مال الله، وإذن، فعليهم أن يمتثلوا أمره في طريقة إنفاقه، وذلك كما في قوله تعالى:

(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7).

(وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) (الأنعام/ 94).

(وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور/ 33).

وتبلغ ذروة التجسيد القرآني لهذه الفكرة، في قوله تعالى:

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَام) (النساء/ 5).

ففي إضافة كلمة "أموال" إلى ضمير "كم" العائد إلى الجماعة البشرية الإسلامية، إشعار إلى أنّ مال السفهاء، وهو ملكية فردية في الاعتبار الأوّلي، إنما هو مال الجماعة البشرية بالأساس.

ويعقّب العلّامة السيد محمّد حسين الطبطبائي صاحب "الميزان في تفسير القرآن" على هذه الآية، قائلاً:

"إنّ مجموع المال والثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها، وإنما اختصّ بعض أفراد المجتمع ببعض منه آخر بآخر للصلاح العام الذي يبتنى عليه أصلُ الملك والاختصاص، فيجب أن يتحقّق الناس بهذه الحقيقة ويعلموا أنّهم مجتمعٌ واحدٌ والمال كلّه لمجتمعهم".

ويضيف: "ففي الآية دلالة على حكم عام مُوجّه إلى المجتمع، وهو أنّ المجتمع ذو شخصية واحدة له كلّ المال الذي أقام الله به صُلبه، وجعله له معاشاً، فيلزم على المجتمع أن يدبّره ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقاً معتدلاً مقتصداً ويحفظه عن الضيعة والفساد".

ويؤكّد: "أنّ المال لله، ملكاً حقيقياً، جعله قياماً ومعاشاً للمجتمع الإنساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص".

ويخلص أخيراً إلى القول: "فإنّما تُراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التي تعود إلى المجتمع وعدم المزاحمة، وأمّا مع المزاحمة والمفاوتة فالمقدّم هو صالح المجتمع من غير تردّد".

وهذا هو ما يسمّيه المفكر السيّد محمّد باقر الصدر بالتفسير الخُلُقي للملكية، الذي يعتبره قوّة موجّهة في مجال السلوك، وقيداً صارماً يفرض على المالك التزام التعليمات والحدود المرسومة من قِبَل الله عزّ وجلّ، بشرط أن يتركّز هذا التفسير ويسيطر على ذهنية الإنسان المسلم.

وكان الإمام الباقر (ع) يستحضر هذا المفهوم حين سُئِل عن الدنانير والدراهم، فقال: "هي خواتيم الله في أرضه، جعلها الله مصلحةً لخلقه، وبها تستقيم شؤونُهم ومطالبهم".

وبالجمع بين مفهومي: "ملكية الله للمال" و"استخلاف الجماعة فيه"، يستشعر الفرد المسلم المسؤولية الشرعية في تصرفاته المالية أمام الله تعالى، باعتباره المالك الحقيقي لجميع الأموال، كما يحسُّ بالمسؤولية الاجتماعية أمام الجماعة أيضاً لأنّ الخلافة لها بالأصل، والملكية للمال إنما هي مظهرٌ من مظاهر تلك الخلافة وأساليبها.

 

الإنفاق في سبيل الله:

والوظيفة الاجتماعية للمال تقوم على قاعدة الإنفاق في سبيل الله، فعبارة "سبيل الله" هي الاتجاه الذي تتحرّك نحوه الوظيفة الاجتماعية للمال. والمراد "بسبيل الله"، حسب تعريف العلامة الطبطبائي، هو كلّ أمرٍ ينتهي إلى مرضاته تعالى. ومن هذا العنوان العام والعريض، تتفرّع كلّ العناوين الفرعية والتفصيلية للوظيفة الاجتماعية، قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة/ 195). وفي إشارة إلى نفس المفهوم، يقول الإمام عليّ (ع): "إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجّهها الله عزّ وجلّ"، ويقول الإمام عليّ (ع): "إنّ إنفاق هذا المال في طاعة الله أعظم نعمة".

وتتم ترجمة مبدأ "الوظيفة الاجتماعية للمال" عن طريق إنفاق المال لعمارة الطبيعة والمجتمع، وتوزيعه توزيعاً عادلاً بين الناس، واستخدامه لسدّ حاجاتهم، وخاصة الفقراء منهم، وتوفير الخدمات الأساسية التي تحتاجها الجماعة البشرية، وخاصة في المجالات الثقافية والصحية، وغيرها، كما في قوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 19).

إنّ المال وفقاً لهذا المبدأ يُصبح وسيلةً لا غَاية، على عكس المفهوم الرأسمالي للمال. حيث انّ الثروة هدفٌ يسعى إليه الإنسان في المجتمع الرأسمالي، حتى انّ نجاح الفرد يُقاس بمقدار ما حقّق من ثروة، وبالتالي فإنّ مكانته الاجتماعية هي أثرٌ وتعبير عمّا في حوزته من مال، أو عمّا عنده من رصيد ماليّ في البنوك. أما في المجتمع الإسلامي، فإنّ الثروة التي يحصل عليها الإنسان يجب أن تكون وسيلة لتحقيق غاياتٍ أسمى: مرضاة الله، وإسعاد الجماعة البشرية، وإشباع حاجات الناس، وإعانة فقرائهم..

ولهذا نجد أنّ القرآن الكريم يقرّر بوضوح أنّ مكانة الإنسان عند الله – وبالتالي في المجتمع – لا علاقة لها بأمواله: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) (سبأ/ 37).

هذا فضلاً عن أنّ المال، في التصوّر الإسلامي، فتنة وابتلاء واختبار، كما يشير القرآن الكريم بقوله:

(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (الأنفال/ 28).

فالغني مفتونٌ بماله، يُنظَر إليه كيف يُنفق ماله، وكيف تؤثر عليه كثرة المال؛ هل تزيده انشداداً إلى الدنيا، ويكبر عنده الميل إلى تكديس الأموال، أم أنّه يعتبر ماله عطاءً من الله، لإنفاقه فيما يقرّبه إلى الله درجة.

ولذا، نجد أنّ القرآن يأخذ للأمر حيطة، فيُحذّر المسلمين أن تكون أموالهم الكثيرة سبباً في ابتعادهم عن الله، حيث يقول:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (المنافقون/ 9).

 

محرّماتٌ في السلوك المالي:

ومن أجل تنشيط الوظيفة الاجتماعية للمال، لم يكتفِ القرآن الكريم بدعوة المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله، وإلى التصرّف بأموالهم وفق الموازين الشرعية، وإنّما تدخّل تدخّلاً مباشراً في توجيه السلوك المالي للإنسان المسلم، على مستوى تحريم بعض أوجهه، مثل تحريم التبذير بماله أو الإسراف في مجال الإنفاق، وحرّم تنمية المال عن طريق الربا، كما حرّم الاكتناز، واعتبر أنّ ذلك مما يتنافى مع الوظيفة الاجتماعية للمال، وإطارها الأخلاقي، كما في قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (البقرة/ 278-279).

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34).

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء/ 27).

 

دعوة:

ومما يجدر الإشارة إليه في ختام هذه المقالة، أنّ حديثنا عن "الوظيفة الاجتماعية للمال" لا يستهدف التغنّي النظري بإحدى مكارم الإسلام الفكرية في حقل الاقتصاد والاجتماع، بقدر ما نستهدف توجيه الأنظار إلى ضرورة تجسيد هذا المفهوم في حياتنا العملية وفي أوساطنا الإسلامية عن طريق وضع مشروع يمكن من خلاله استثمار الأموال الطائلة عند بعض أفراد الوسط الإسلامي لأداء وظائفها الاجتماعية، ومسؤوليتها الشرعية، إزاء هذا الوسط، وأفراده الأقلّ ثراءً، أو فقرائِهِ، ومحتاجِيه.

 

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان الخامس والسادس لسنة 1988م

ارسال التعليق

Top