• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نصيحة أبنائنا.. حب وإشفاق

أسرة البلاغ

نصيحة أبنائنا.. حب وإشفاق

◄يطرح بعض الآباء والأُمّهات سؤالاً مهمّاً:

لماذا يُعرِض أبناؤنا وبناتنا عن نصائحنا؟ لماذا يسدّون أسماعهم عن وصايانا؟ لماذا لا يأخذون بتعاليمنا وتعليماتنا؟ هل انتهى زمن النصائح واندثر؟

من جهتهم، يقول الأبناء والبنات في الردِّ على هذه المؤاخذة:

آباؤنا لا يملكون إلّا النصائح المجرّدة.. لا نجد لما يقولون تطبيقاً، ولا لما يعظون صدىً. نصائحهم لا تتناسب وطبيعة العصر.. زمانهم غير زماننا.. وقد يتحدّث آخرون بلهجة مغرورة فيقولون: نحن أفهم منهم، فلماذا نلجأ إليهم؟

بين (أسف) الآباء المقرون (بالألم) أحياناً.. ورفض الأبناء المشوب (بالتكبّر) أحياناً.. يمكن أن نتلمّس خيط الحقيقة.

 

أوّلاً: لم ولن تفقد النصيحة قيمتها!

مهما كسدت بضائع في سوق المجتمع.. فإنّ بضاعة واحدة لن تكسد ولن تبور وهي (النصيحة)، لسبب معقول وهو أنّ (النصيحة) تعني (الإخلاص)، فاللّبن الناصح – في اللّغة – هو الخالص من أيِّ غشّ، وطالما أنّ النصيحة لاسيّما (الوالديّة) مخلصة وغير مغشوشة، فإنّ ذلك عامل من عوامل تأثيرها إن لم يكن الوقتيّ أو الظّرفيّ أو الآنيّ، فالمستقبليّ حتماً.

القرآن الكريم يقدِّم لنا (لقمان) واعظاً لابنه.. ويقدِّم الأنبياء واعظين ناصحين مشفقين لمجتمعاتهم.. والقرآن – بصفته الخالديّة – لا يقدِّم لنا علاجات زمنيّة مرهونة بأسباب نزولها.. إنّه يقول بما عُرِفَ به من صدق: (النصيحة) خير ما يقدّم لإنسان عزيز..

فنحن – رغم عدم توفّر الأدلّة البيانيّة عن تجربة لقمان العمليّة مع ابنه – لكنّنا نستطيع أن نجزم أنّه لم (يعظ) بما لم (يتّعظ) أو لم يقل بما لم يفعل!

لاحظنا – من خلال تجربتنا مع المؤتمرات والندوات والبرامج الشبابيّة – أنّ سؤالاً يتردّد بكثرة: ما هي نصيحتكم للشباب المعاصر؟ ولو كانت النصيحة كاسدة وبائرة، فلماذا يشتريها أو يُقبِل عليها الشبّان المعاصرون؟

 

ثانياً: انتصح.. ثمّ انصح:

في تجربة (الأئمّة) من آل البيت – عليهم السلام – مع الأُمّة، إنّهم كانوا لا يأمرون بشيء إلا وقد سبقوها للائتمار به، ولا ينهون عن شيء إلّا وقد تقدّموا عليها في الانتهاء عنه..

هذا هو سرّ إقبال (الأُمّة) خاصّة عناصرها الواعية على طلب (النّصح) و(الوصيّة) من الأئمّة – عليهم السلام –.

تريد أن تكون ناصحاً مؤثِّراً.. إعمل بما تنصح به، بل حتى ببعضه، فليس الأمر بالمعروف أن تعمل بالمعروف كلّه والنّهي عن المنكر أن تنتهي عن المنكر كلّه، وإلّا لما أمرَ آمِر بالمعروف، ولا نهى ناهٍ عن المنكر إلّا الأنبياء والأوصياء.. ليسبق عملُك قولَك.. لينصح عملك بلسانه فهو أبلغ في الواقع والتأثير.. وقد أكّد العقلاء أنّ الأعمال تتكلّم بصوت أعلى من الأقوال، وأنّها خيرُ الدّعاة وأبلغهم.

 

ثالثاً: النّصيحة (أسلوبٌ) وليس مضموناً فقط:

يمكن تقديم النصيحة على أكثر من طبق: (طبق الانفعال)، (طبق الإلزام والإكراه)، (طبق التعالي)، (طبق الشّفقة) و(طبق الحبّ).. أفضلها الأخير.. وبعده الذي قبله..

حين تخلو الأُمّ بابنتها وتنصحها بلهجة ملؤها الرِّفق والحنان واللّطف والعطف والمحبة، ستتفتّح مسامع قلب البنت قبل أذنيها لنصيحة أمّها، وحين يخلو الأب لابنته ناصحاً محبّاً وواعظاً مرشداً يغمِّس كلماته بدفء عاطفته، وإشراقة ابتسامته، ورقّة نبرته.. ستنفذ كلماته إلى الأعماق..

(طبق الشفقة) هو انّك لا تريد لابنكَ.. أو لا تريدين لابنتكِ أن يقعا فيما وقعتما فيه، وأن يخطئا فيما أخطئتما فيه، أو يقصِّرا فيما قصّرتما فيه.. أو ما يقع فيه مَن هو مثل سنّهما، كمَن ليس له أبوان يهتمّان بشأنه.

ربّما يأتي السؤال من أحدهما أو كليهما:

لماذا تنصحان بما لم تفعلا؟

الجواب:

إذا كنّا نفعل فعسى أن فعلوا، وإذا لم نوفّق فعسى أن توفّقوا.. ربّما لم نجد ناصحاً.. ربّما كانت ثقافتنا يومها أقل.. وربما كان أصدقاؤنا أسوأ.. ننصحكم الآن بما نتمنّى لو كنّا انتصحنا به بالأمس.. نقول ذلك حبّاً وإشفاقاً عليهم لأنّكم أعزّ الناس لدينا.

 

رابعاً: النّصيحة (مطلوبة) و(ممنوحة):

إذا طلبها الشّاب، فهذا يعني أنّه بحاجة إليها، وإذا منحتها له في وقتها المناسب، فهذا يعني أنّك تقدِّر حاجته إليها، وفي كلِّ حال من الحالين إحدى الحسنيين.

 

هذه هي بالمجّان.. فلماذا تدفعون الثمن غالياً؟!

الخطاب هذه المرّة للشباب والفتيات أنفسهم، فلقد أجبنا على سؤال: لماذا يزهد أبناؤنا وبناتنا بنصائحنا، اليوم نجيب على السؤال المطروح علينا كشباب:

لماذا نأبى ونصرّ على أن نخوض التجربة بأنفسنا؟! لماذا نريد أن ندفع الثمن رغم أنّ هناك مَنْ دفعه، ووفّروه لنا بالمجّان؟!

ثمّة مقطع لافِت في وصيّة الإمام أمير المؤمنين عليّ (ع) لابنه الحسن (ع)، وهي كلّها مادّة للدّرس ووجبة ثقافية وتربوية صحِّية حبّذا لو يتزوّد بها ومنها شبابنا وفتياتنا، يقول (ع):

"فبادَرْتُكَ بالأدَبِ قبلَ أن يَقْسُوا قَلْبُكَ، ويَشتَغِلُ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدٍّ رأيكَ مِنَ الأمْرِ ما قَدْ كَفاكَ أهْلُ التّجارِبِ بُغْيَتَهُ وتجْرِبَتَهُ، فتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَؤُونَةَ الطَلَبِ، وعُوفِيتَ مِنْ عِلاجِ التّجْرِبَةِ، فأتاكَ مِنْ ذلِكَ ما قَدْ كُنّا نأتِيهِ، واسْتَبانَ لكَ ما رُبّما أظْلَمَ عَلَيْنا مِنْهُ"[1]!!

وإذا أردنا أن نضع خطّاً تحت كلّ كلمة مهمّة في هذا النصّ، فإنّنا سنضع خطّاً موصولاً تحتها كلّها، أنظر قوله: "ما قد كفاكَ أهل التجارب بغيته وتجربته"، وقوله: "كُفِيتَ مَؤُونَةَ الطّلَبِ"، وقوله: "عُوفِيتَ مِنْ عِلاجِ التّجْرِبَةِ"، والعلاج هنا المعالجة، أي معاناتها ومقاساتها ومكابدتها.. و"اسْتَبانَ لكَ ما رُبّما أظْلَمَ عَلَيْنا مِنْهُ"..

ولو توقّفنا هنا لنقول لك لا نجد أبلَغ وأصدَق وأغنى من هذا لنقوله لك، لما عدونا الحقّ.. لكنّ بعض الشّرح أو الإشارة بما يكون مجدياً.. دعنا نعترف:

نحنُ نرفض الاستماع أو الانتفاع بتجارب أهلنا، أو حتى تحارب الآخرين من أمثالنا، لواحد أو أكثر من الأسباب التالية:

1-  نفترض واهمين أنّ كلّ حالة إنسانيّة هي فريدة من نوعها، ووضعي مختلف تماماً، فتجربة الآخر كلباسه ربّما لا يناسبني، قد يكون ضيِّقاً عليَّ أو فضفاضاً، لكنّه قد يكون على مقاسي أيضاً، أليس كذلك؟ لماذا إذاً يضرب الله الأمثال بالأُمم السابقة لو كانت مختلفة تماماً.. أليسَ للإتِّعاظ بها والإفادة من تجاربها.. التجربة الإنسانية لا تشيخ ولا تموت، ينبغي أن نعرف هذا ونعترف به.

2-  نضح حاجزاً أو فارقاً زمنياً وعمرياً واسعاً بيننا وبين آبائنا، لنبرِّر لأنفسنا أنّهم جيل وأنّنا جيل آخر، ومرّة أخرى نؤكِّد.. أنّ التجربة كائن حيّ لا يموت ولو مات أصحابه.. ومشاكل الشباب في أغلبها متشابهة، ما عدا ما يضيفه كلّ عصر، وهو إن اختلف في الشكل لكنّه قريب ممّا سبقه في المضمون.

3-  الغرور والتعالي والتعصّب لحماس الشّباب واندفاعهم يقول لنا في وسوسة شيطانيّة: أنتم (الصحّ) وهم (الخطأ) ليدقّ بيننا وبين زاد التجربة إسفيناً.

4-  التجريب الذاتي والإصرار عليه يعني (عدم قناعة + عدم ثقة)، فلسنا مقتنعين بما يقوله آباؤنا والحريصون علينا، وبالتالي فلا نثق بهم أو بصدقهم، مصدِّقين أنّ مُطربة الحيّ لا تُطْرِب، حتى وإن كان صوتها شجيّاً!

5-  أحياناً نتوسّل بالتجارب الفاشلة أو الخاطئة لنقول: لقد جرّب فلان ما قاله أبواه وفشل.. لنتّخذ من ذلك ذريعة للهروب من نصائح والِدَيْنا، من غير دراسة أسباب فشل الذي نضرب له مثلاً.

تذاكروا أنّ بعضكم، وهو ليس قليلاً من حيث الكمّ، يقول بعد الاصطدام بالتجربة القاسية والارتطام بالفشل، أو الإفاقة من الصّدمة: ليتكم منعتمونا.. وقفتم بوجوهنا.. لماذا تركتمونا نخوض التجربة لندفع ثمنها الغالي؟! أليسَ هذا ما يحصل بالنسبة للكثيرين منّا؟!! وإذا كابرنا فقد نناجي به أنفسنا ونحنُ نعضّ أصابع النّدم.

ما هو الحلّ لذلك؟!

لنزن ما يُطرح علينا من مواعظ وتجارب بعقولنا.. نقارن بينه وبين ما توسوس به أنفسنا، بحياديّة.. نحنُ نعرف أنّه من الصّعب أن لا تكون منحازاً لنفسك، وأنّها الأمّارة بالسّوء.. لكن التفكير بدمٍ باردٍ، وأعصابٍ باردةٍ، وعقلٍ باردٍ، وبانفرادٍ، أو مع الثّقاة من أصدقائنا.. سيُعافينا – على تعبير الإمام عليّ (ع) – من علاج التجربة طالما أنّ أهل التجارب آباءنا، أصدقاءنا، والآخرين كفونا مؤونة التجربة. وقديماً قال العقلاء: "مَن جرّب المُجرّب حلّت به الندامة"، و"العاقل مَن وَعظَتْهُ التجارب"، ليس بالضرورة تجاربه، بل تجارب غيره الذين دفعوا ثمنها ووصلتنا بالمجّان!!

نصيحة أبنائنا مخاض تجربة، زبدة معاناة، والعاقل العاقل ليس الذي يعتبر برجاحة عقله مكتفياً بما عنده، بل الذي يضيف لعقله عقول الآخرين، والتجربة عقل، والمشاورة عقل، والنصيحة عقل!

الهامش:

[1]- نهج البلاغة، كتاب 30، للحسن بن عليّ (ع)، كتبها إليه بـ(حاضرين).

ارسال التعليق

Top