• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

شريعتنا.. والبناء

أ. د. محمد أديب الصالح

شريعتنا.. والبناء

لست هنا في هذه العجالة من القول، بسبيل أن أقيم الدليل على أنّ ديننا الذي ارتضاه الله لعباده وأتم عليهم به النعمة، يحمل المنهاج الشامل المتكامل المتوازن الذي يتسع للعاجلة والآجلة، والمادة والروح والعقل والقلب، فينظم شؤون الدنيا كما يوضح أمور الآخرة، وكل شيء عند الحكيم الخبير بمقدار.
ولكني أود أن أتناول القضية من أبسط وجوهها فأدعو بثقة كل أولئك الذين ما يزال في نفوسهم شيء من الغبش حول هذا الموضوع، والذين يسوؤهم أن يكون الأخذ بالشريعة أهم مطلب من مطالب الشعوب الإسلامية، أن يقلبوا صفحات الكتاب العزيز، وهو كلي الشريعة وأصل أصولها، ليجدوا أن هذا الكتاب لم يفرط في شيء، وأن تناوله الحكيم لشؤون الدنيا والآخرة جميعاً يبدو أمراً بدهياً ومقولة لا تحتاج – مع الإنصاف المطلوب لسلامة الحكم، والتحرر من الهوى – إلى ذاك النَّصَب في إقامة الدليل.
وإذا نظرنا في حديث رسول الله (ص) كان ذلك خيراً على خير، لما أنّ السنة هي البيان القولي والعملي للقرآن.
ولننظر على سبيل المثال في سورة البقرة ثاني سورة من سور القرآن، وهي سورة مدنية نزلت كلها بعد الهجرة، كما أنّها إحدى الزهراوين – البقرة وآل عمران – وفيها آيات هي من أواخر ما نزل، كما أن فيها قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة/ 281)، وهي آخر ما نزل من القرآن.
ها نحن نقرأ في أوّل السورة قوله جلّ شأنه: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 1-2)، ولنفتح القلوب والعقول هنا لكلمة (هدى) بمدلولها الأشمل، ولتخصيص المتقين بالهدى – مع أنّ الهدى للجميع: لأنّهم هم المنتفعون بهذا الهدى ثمّ يقول تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة/ 3-5).
ولنقلب الصفحات المباركات مصطحبين دلالة الهدى وصفات المتقين الجوامع لنقع في أواخر السورة على آيتين كريمتين: - والمثال لا يقتضي الحصر – هما آية الدين والآية التي تليها، وهي ذات الرقم ثلاثٍ وثمانين بعد المائتين. وآية الدّين أو المداينة هي أطول آية في كتاب الله، وفيها مع اختها – كما يبدو للقارئ – تنظيم لشؤون الدّين وتوثيقه والشهادة والرهن وكل ما هو من ذلك بسبيل، فأنت حين تقرأ هاتين الآيتين بشيء من التدبر والإمعان، تجد نفسك أمام قضايا تنظم علاقة الدائن بالمدين والراهن بالمرتِهن، كما تنظم الشهادة والكتابة والتوثيق عموماً، وقد تكون قضائية تنفيذية في بعض وجوهها.
ذلكم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة/ 282)، ثمّ قال عزّ وجلّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة/ 283).
أعود مرّة أخرى إلى التذكير بأن قراءة هذين النصين.. مع التدبر والتجرد عن الرواسب المُستكِنَّة تنشئ بكل يسر قناعة لمن أراد مقنعاً ولكن أين المنصفون؟؟
إنّ أمتنا مدعوة لأن تكون على غاية اليقظة عند بناء مجتمع العقيدة التي عنوانها الكلمة الطيبة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، وعندها ما ليس عند غيرها من عوامل الإحكام في البناء وخصائص التنمية البشرية والمادية عندما تنهل من معينها الصافي في عقيدة حقة وشريعة منورة بتلك العقيدة، ولا عليها أن تفيد مما يصل إليه العقل – وهذا حقها – مما لا يتعارض مع ذلك المنهل العذب، علماً بأن أحكام العقل السليم المتحرر من سلطان الهوى: لا تتعارض أبداً مع كلام الله خالق العقل والمنعم به على الإنسان والحمد لله أوّلاً وآخراً على نعمة الإسلام.
أرأيت إلى العناية بالإنسان وحقوقه المالية وغيرها، وتنظيم هذه الحقوق في كتاب الله تعالى، تنظيماً يضمن لكل ذي حق حقه، كما يضمن سلامة العلاقة بين الإنسان في المجتمع الإسلامي وأخيه الإنسان، بحيث يكون للتعاون على البر والتقوى سلطانه على الجميع.
وهكذا يتلو التالي هذا الكلام الإلهي الحكيم وله – كما أخبر النبي (ص) – بكل حرف عشر حسنات، والحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء، ويقرأ ذلك المصلي في محرابه، والعالم في مسجده ومدرسته وجامعته، والطالب على مقعد الدرس وهكذا.
نصوص تنظم العلاقات المالية وغيرها بين الناس، ويؤجر التالي لهذه النصوص – على مجرد التلاوة – بكل حرف عشر حسنات؛ فما بالك إذا صحب التلاوةَ التدبر والعمل.
ترى أيُّ باعث على الالتزام وتقديس الكلمة الربانية وإنشاء الحراسة للأحكام من داخل النفس قبل السلطة التنفيذية – أن لو تحرك الباعث القلبي – على صعيد الإحكام لبنية المجتمع والحيلولة دون الضعف والتخلخل؟
ومما تجدر الإشارة إليه بناءً على ذلك: أنّ الفارق بين هذا التنظيم في نصوص الكتاب العزيز وبيانه من السنة النبوية المطهرة: أنّ التشريع هنا يقوم على العقيدة مباشرة، بينما تقوم السنة بدور البيان والتفصيل، وقد يكون فيها تخصيص للعام وتقييد للمطلق إلى غير ذلك؛ فترى هنا الخطاب النديَّ المثقل بالدعوة إلى البر بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيذاناً بأنّ على المؤمن أن يلتزم بالحكم بوصفه مؤمناً؛ فمن التناقض بمكان أن يؤمن بمنزل الشريعة، ويتعدى حدودها، فلا يعمل بأحكامها ولا يلقي لذلك بالاً.
وختمت آية المداينة بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، أرأيت إلى هذه الومضة من ومضات الإعجاز: اتقوا الله، اتقوا غضب الله وعقابه بالعمل بما أمركم واجتناب ما نهاكم، وهو سبحانه العليم بما يصلحكم وما فيه خيركم في الدنيا والآخرة فهو يعلمكم ويشرع لكم ما فيه مصلحتكم على وجه الحقيقة، وهو سبحانه بكل شيء عليم ومن ذلك علمه بما يصلح شأن عباده، وعلمه بمن يمتثل ومن لا يمتثل.
وختمت الآية الثانية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، إيقاضاً للوازع الإيماني في النفوس، كيما تكون في أعماق المكلف – ذكراً كان أو أنثى – حراسة للتشريع الذي يحكم تصرفاته، إذ يرى بعدها: أن وجوده الذاتي مرتبط بالعمل بأحكام الشريعة التي قامت على تلك العقيدة الإيمانية الخالصة.

المصدر: كتاب بناء الأُمّة ومواجهة التحديات

ارسال التعليق

Top