نحن نعرف على نحو جيد رفاهية الجسد وأناقته، حيث يتجلى ذلك من خلال نيل حظ وافٍ من الراحة ومن خلال لبس النفيس وركوب الفاخر وأكل ما تشتهيه النفس، والبعد عن القيام بالأعمال الشاقة... ونعرف أنّ الرجل الأنيق هو الذي يهتم بزيه ومظهره، فيلبس الثياب ذات الألوان المتناسقة والثياب المكوية، والملائمة للجو والمهنة والمناسبة... وإذا بحثنا عن القاسم المشترك بين كلِّ ذلك وجدنا أنّه يتجسد في تجاوز حالة الضرورة، أو الوضعية التي يتوفر فيها الحد الأدنى من شروط تلبية الحاجات، كالذي يجد من الطعام ما يقيم أوده، ومن اللباس ما يستر عورته...
أمّا أناقة الروح ورفاهيتها فتتمثل في تلك المشاعر النبيلة والدافئة التي تغمرنا حين نتجاوز في أعمالنا مرحلة الواجب إلى مرحلة التطوع والتنفل ومرحلة التضحية والعطاء المجاني. وتلك المشاعر هي مزيج من مشاعر الغبطة بما يسره الله – تعالى – وأعان عليه من عمل الخير بالإضافة إلى مشاعر الفرح بالإنجاز إلى جانب مشاعر الثقة بالنفس والتفوق وإلى الشعور الجوهري الذي يغمرنا حين نكون على الطريق الصحيح.
لعلنا لاحظنا أنّ رفاهية الجسد تقوم على المزيد من الأخذ والاقتناء والاصطفاء، أما رفاهية الروح فإنها تقوم على المزيد من العطاء المجاني والطوعي، وهذه مفارقة لافتة نتعلم منها ملامح العظمة الحقيقية لهذا الدين والتي تتمثل في أمرين أساسيين: الأوّل هو العبودية الحقة لله – تعالى – والثاني هو نفع العباد والإحسان إليهم. وتذكرني هذه المفارقة بالمقارقة الموجودة بين (المال) و(العمل) حيث إنّ القانون الذي يحكم (المال) هو الأخذ والجمع، أما القانون الذي يحكم (العمل) فإنّه البذل والعطاء، فأهل الثراء هم أهل جمع وجباته، وأهل الخير والفضل هم أهل عمل ونفع.
يقوم كلّ مجتمع برسم خارطته القيمية والخلقية من أفق عقائده وتقاليده ونظرته العامة للحياة، ونجد في كلِّ خارطة ما يشير إلى ما هو من قبيل الواجب الأخلاقي، وما هو من قبيل المرغوب أو المندوب أو المستحسن، وإنّ الجهود التربوية في البيوت والمدارس تتكفل بتوضيح معالم تلك الخارطة، كما تتكفل بتوضيح نوعية المشاعر التي ينبغي أن تثيرها الأفعال والمواقف الأخلاقية المختلفة، وعلى سبيل المثال فإنك إذا كنت في صحراء، وطلب منك رجل عطشان شيئاً من الماء حتى يروي غليله، فإنّ المشاعر التي تغمرك في حال سقياه هي مشاعر القيام بالواجب وضرورة إنقاذ روح من الهلاك، وإذا لم تفعل فإنّ ضميرك سوف يهتاج ويزمجر، وستشعر بالتقصير والتفريط الشديدين؛ وذلك لأنّ الموقف موقف إغاثي، وإنّ ما يؤثر عن كثير من العرب القاطنين في الصحراء من قصص معبِّرة عن الكرم والشهامة نابع من هذا المعنى. وسيكون الموقف الأخلاقي مختلفاً جدّاً لو كان طالب الماء أو غيره في مدينة كبرى، أو كنت حين مررت به ضمن قافلة كبيرة، وهذا واضح.
أنا أشعر أنّ ما نحس به من متعة روحية فائقة حين نقوم بعمل ليس واجباً عليناً، إنما هو عاجل الجزاء والمثوبة من الله – تعالى – لأنّه – عزّ وجلّ – أكرم من أن نعامله نقداً، ويعاملنا نسيئة!.
نحن نشعر بالتأنق والرَّفَه الروحي إذا:
· بادرنا بالسلام من كان عليه هو أن يبادرنا به، كما يحدث حين يُلقي السلام الكبير على الصغير، والماشي على الراكب...
· إذا قمنا بتزكية أموالنا، ثمّ شرعنا في الصدقة.
· إذا قمنا الليل، وحرصنا على النوافل الراتبة.
· إذا عفونا عمن ظلمنا وأساء إلينا.
· إذا صبرنا على ما يبديه بعض الأقران والأقرباء من سيِّئ الأخلاق وقبيح التصرفات.
· إذا أصلحنا بين متخاصمين.
· إذا أقرضنا محتاجاً قرضاً حسناً.
· وهناك صور أخرى من نحو هذا، والذي يجمع بينها جميعاً هو أننا كنا لما فعلنا ما فعلناه مخيَّرين لأنّنا نقوم بما لا يجب علينا القيام به.
هل يعني هذا أي شيء؟
إنّه يعني الآتي:
1- إنّ رفاهية الجسد تعزز الندرة في المجتمع وتزيد في شح الموارد، لأنها تحتاج دائماً إلى المال، والذي نشعر على نحو مستمر أنّ المتوفر منه أقل من المطلوب، مهما كانت أوضاعنا المالية ممتازة. أما رفاهية الروح فإنها تعمل بطريقة معاكسة لأنها تُوجِد فائضاً، فهي لا تحيا إلا من خلال العمل والعطاء والمعاونة، ولهذا فإنّ التأنق الروحي، هو مشاعر بالنسبة إلى من يظفر به، وهو خير ونماء ورخاء بالنسبة إلى الآخرين، وليس كذلك التأنق الجسمي والعمراني.
2- الشعور بالرفاهية الروحية هو طريق كسب محبة الله – تعالى – ورضوانه، والذي يشكل أغلى أمنيات المسلم في هذه الحياة، وما أجمل قول الخالق – جلّ وعلا – في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
3- نحن في حاجة إلى إثراء ثقافة التطوع والخدمة العامة حتى نخفف من تيار المتعة الشخصية الذي يجتاح العالم اليوم، وحتى نخفف من مشاعر الأنانية التي تتعاظم في كلِّ مكان من الأرض، وهذا يحتاج إلى جهود متميزة من الكبار والوجهاء والأثرياء، فالأُمم ترتقي بالنماذج والقدوات أكثر من ارتقائها بالمفاهيم والأفكار.
المصدر: كتاب هي.. هكذا (كيف نفهم الأشياء من حولنا؟)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق