◄إنّ الترابط بين الالتزام الأخلاقي والرؤية الكونية من جهة والنهوض الحضاري من جهة أخرى ترابط بيّن، كترابط المبتدأ وخبره أو الاسم وصفته. وليس من الصعب إظهار تهافت الجهود الاستشراقية التي حاولت ربط حضارة العرب بعروبتهم، وتجاهلت دور الإسلام الرئيسي في ظهور العرب، وانتشار لغتهم خارج حدود الجزيرة العربية. فالاستعراض السريع لدور الشعوب الإسلامية في قيام هذه الحضارة من عرب وفرس، وبربر وترك وكرد يكفي لتبرير الوهم الاستشراقي. كذلك يظهر التأمّل في أسماء العلماء والقادة الذين رفعوا راية العلم والكفاح، من أمثال الرازي والغزالي، والبيروني، وأبو مسلم الخرساني، وصلاح الدين الأيوبي، ومحمّد الفاتح، والظاهر بيبرس لإدراك الصفة العالمية للحضارة الإسلامية. فهي لم تكن يوماً من الأيام حضارة عرب، بل حضارة عالمية ذات مرتكزات إسلامية.
نعم شكّل العرب اللبنات الأولى التي قام عليها البناء الحضاري الإسلامي. لكن قدرة العرب على بناء هذا الصرح الشامخ المهيب لا يرتبط بأساس قومي أو عرقي، بل بالرؤية التي حملوها والقيم التي التزموا بها، والمبادئ التي دافعوا عنها، المنبثقة من رسالة الإسلام وجهود الرعيل الأوّل الإصلاحية. لقد استطاع الرسول الكريم مؤيّداً بوحي السماء، وجهود أصحابه الصادقة من تغيير الرؤية الكونية التجزيئية، والمنظومة القيمية القبلية للمجتمع العربي الجاهلي، واستبدالها برؤية كونية توحيدية، ومنظومة قيمية إنسانية، تجلّت عملياً في مجتمع المدينة وثقافتها العالمية.
إنّ قدرة الإسلام على الانتشار إلى أصقاع بعيدة عن موطنه الأصلي، وقدرته على تحريك المشاعر وتأجيج الهمم واستحضار ولاء الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها، لا يمكن فهمه إلّا من خلال فهم الثقافة العالمية الناهضة التي تجلّت في مجتمع المدينة. فقد مثّل مجتمع المدينة نموذجاً مُصغراً لمجتمع عالمي، يضم قبائل عربية متصارعة ألّف الإسلام بين قلوب أبنائها، ثمّ عاد ووحّد بينها وبين موالٍ من حبشة وفرس وروم، ثمّ جمعها ضمن ولاء تعاقدي مع يهود المدينة. وبذلك حقق الإسلام نموذج المجتمع القبلي القائم على مبدأ التضامن العضوي العقدي. لقد وحّدت مبادئ الحقّ والعدل والتكافل والتراحم والتسامح التي جاء بها الدين الجديد مجتمعه المدينة، وتكفّلت وثيقة تأسيسه التي تمثلت (بصحيفة المدينة) الحفاظ على كرامة وحقوق أفراده بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية والعرقية والدينية. ولا يقولنّ قائل: إنّ مجتمع المدينة التعدّدي المنفتح على الإنسان، بوصفه إنساناً، كان نموذجاً انتقالياً، ولم يكن نموذجاً نهائياً بدليل إخراج المسلمين اليهود من المدينة بعد صراع دامٍ، والقضاء على معاقل الشرك في المدينة. فهذه صراعات مرهونة بظروفها التاريخية الخاصّة، وبمواقف اليهود والمشركين العرب من الدِّين الجديد، ناقشتها في مواضع أخرى، ولا أرى إمكانية الاستفاضة في بيانها هنا. ويكفي لإظهار أنّ النموذج المدني المشار إليه كان نموذجاً نهائياً، أنّ المسلمين أعادوا بناءه على مستوى الحضارة العالمية التي أنشؤوها وأشادوا صرحها، والتي ضمت المسيحي واليهودي، والمجوسي والهندوسي، كما ضمت المسلم، والتي وفّرت لجميع المنتسبين إليها فرصة المشاركة في بنائها وترسيخها.
وكما شكّل الإصلاح الديني حجر الزاوية في بروز الحضارة الإسلامية، فقد مارس الإصلاح الديني المسيحي في بلدان أوروبا الغربية مهمة مماثلة في انطلاق الحضارة الغربية. ولعلّ البعض يتساءل - وهو محق بذلك - كيف نعزو دوراً أساسياً للإصلاح الديني في حضارة تقوم على مبدأ العلمانية؟
لفهم الأساس الديني للحضارة الغربية يجدر بنا العودة ستة قرون إلى الوراء عبر التاريخ الأوروبي، وتركيز النظر على الجهود التي بدأها مصلحون دينيون، يتقدمهم توماس أكويناس، الذي عكف على تخليص الرؤية المسيحية الأوروبية من تناقضاتها الداخلية. ثمّ تبعه مصلحون دينيون ثاروا ضد سلطة الكنيسة وتعسفها في تفسير نصوص الإنجيل من أمثال كالفين السويسري، ومارتن لوثر الألماني. وشدد الأخيران على التساوي بين المسيحيين وحقّهم في النظر، قساوسة وعامّة، في نصوص المسيحية المقدسة وتفسيرها، ورفضا فكرة وساطة الكنيسة، وعصمة الحبر الأعظم. لقد كان لقيم العدل، وسيادة القانون، وتساوي الناس في الكرامة، التي تسرّبت إلى أوروبا الغربية خلال عصر النهضة من العالم الإسلامي عبر التجار والرحّالة الغربيين، وعبر فلول الجنود الصليبيين الذين عادوا من بيت المقدس والساحل السوري بعد تحرير تلك المناطق من الاحتلال الصليبي، وعبر ترجمات الكُتُب التي نقلها الفاتحون الأوروبيون من جنوب إيطاليا والأندلس، أثر كبير في تحرير المجتمع الغربي من الجمود وتحفيزه إلى الارتفاع إلى مستوى الفعل الحضاري.
وما لبثت حركة الإصلاح الديني أن أججت العقل الأوروبي وأطلقته من عقاله، ليبدأ رحلة طويلة ممتدة عبر قرون عديدة، يشير إليها اليوم المثقفون والمفكرون، اتباعاً لماكس فيبر، بالعقلنة الثقافية، والتي بلغت أُوجها في حركة الأنوار التي تألقت في القرن الميلادي التاسع عشر. فالعقلنة عند فيبر تعني إعادة تنظيم المجال الثقافي ضمن دوائر معرفية مستقلة وخاضعة لمجموعة من القيم والمفاهيم المحددة. القيم والتصورات التي تنبتها العقلنة الغربية هي القيم والتصورات التي دعت إليها حركة الإصلاح الديني. والعلمانية نفسها تعود بجذورها إلى أفكار لوثر وكالفن، وإن اختلفت في مفهومها وفحواها مع تقدم الأزمان وتتالي الأجيال. فالعلمانية في أصولها جهد يهدف إلى منع الكنيسة من التحكّم بالمجتمع المدني، وفرض تفسيراتها على أفهام الناس.
إنّ الأشكال السلبية التي تولّدها العلمانية اليوم، من تحلّل أخلاقي، وتهافت على المتعة البدنية، وتراجع البُعد الروحي الوجداني، والفردية المفرطة التي تدفع الفرد إلى إهمال واجباته الاجتماعية، وتفكك الأسرة وانتشار الرذيلة، وغيرها من الأزمات الاجتماعية المحيقة بحياتنا المعاصرة، لا تعود بطبيعة الحال إلى فصل الكنيسة عن الدولة، بل إلى عملية العقلنة الغربية نفسها التي حوّلت الدِّين والأخلاق إلى دوائر معرفية مستقلة عن الدوائر المعرفية والاجتماعية الأخرى، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس. إنّ التفسّخ الاجتماعي والتحلّل الأخلاقي الذي يطبع الحياة في المجتمعات الحديثة ناجم عن فصل الأخلاق والقيم والتصورات العلوية - وفي مقدمتها الشعور بالمسؤولية أمام الله - عن التفكير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي. فالاقتصادي الحداثي اليوم يحكم على الفعل الاقتصادي بأنّه ناجح مادام يؤدي إلى تحقيق ربح مادّي، غير آبه بآثار هذا الفعل على المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية، وغير مكترث فيما إذا نجم الربح عن ظل أو استغلال.
إنّ تلازم الوعي الديني والنهوض الحضاري حقيقة تاريخية وشرط موضوعي. فالحضارات الإنسانية عبر التاريخ تعود في جذورها إلى وعي ديني ورؤية كونية متعالية، بدءاً من حضارات الهلال الخصيب ومصر الفرعونية، ومروراً بالحضارات الصينية والهندية والفارسية والإغريقية والرومانية، وانتهاءً بالحضارتين الإسلامية والغربية. ولقد وثق المؤرخ الغربي الشهير أرنولد توينبي العلاقة بين الدِّين والحضارة وأظهر في كتابه (دراسة الحضارة) أنّ العلاقة بين الدِّين والحضارة علاقة المقدّمة بنتيجتها. كذلك أظهرت الدراسات الاجتماعية أنّ القيم والمعتقدات الدينية تشكل العنصر الأساسي في البناء الثقافي للمجتمع. كذلك أظهرت أبحاث ماكس فيبر العلاقة الوثيقة بين النهوض الثقافي والحضاري لمجتمع وبروز الوعي الديني. وانتهى فيبر إلى تقديم نظرية في التطور المؤسسي الاجتماعي تربط ارتقاء المجتمع والمؤسسات الاجتماعية بظهور القيادة الملهمة (charismatic leadership) التي يمثّل الرسول أهم أشكالها. فالقائد الملهم إنسان يملك رؤية متميزة تؤدي إلى تحفيز الهمم والأفعال، وتوليد زخم نفسي وروحي يخرج المجتمع من ركوده، ويدفعه للمضي في عملية بناء قدراته العلمية ومؤسساته التنظيمية. ويتبع مرحلة القائد الملهم مرحلة العقلنة الثقافية والاجتماعية التي يقودها المثقفون من مفكرين ورجال دولة، والتي تهدف إلى تحويل القيم والتصورات الرسالية الجديدة إلى قواعد ومرتكزات يتأسس عليها البناء الاجتماعي.
فإذا تساءلنا عن سرّ التلازم بين الوعي الديني والنهوض الحضاري وجدنا تعليلاً عميقاً عند ابن خلدون، تحت فصل "في أنّ الدول العامّة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدِّين إمّا من نبوة أو دعوة حقّ" من مقدمته، يقول فيه: "وذلك لأنّ الملك إنما يحصُل بالتغلّب، والتغلُّب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه، قال تعالى: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) (الأنفال/ 63). وسرّه أنّ القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا، حصل التنافس وفشا الخلاف. وإذا انصرفت إلى الحقّ ورفضت الدنيا والباطل، وأقبلت على الله، اتحدت وجهتها، فهذب التنافس وقلَّ الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتّسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة كما تبيّن لك بعد، إن شاء الله سبحانه وتعالى، وبه التوفيق لا ربّ سواه".►
المصدر: كتاب المثقف والنهضة (جدلية الأصالة والعالمية والنهوض)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق