• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أهمية القدوة في التربية الإسلامية

أ. د. حلمي محمد القاعود

أهمية القدوة في التربية الإسلامية

لاشك أن موضع القدوة في التربية الإسلامية هو موضوع الساعة وكل ساعة؛ فهو مرتبط بنمو المجتمعات الإسلامية وتطورها إلى الأفضل، والفرد المسلم رجلاً كان أو امرأة أساس هذا النمو وذلك التطور، وبدونه فإنّ الغرباء لا يخدمون غيرهم ولا يقيمون لهم بناء ولا كياناً.. ولأمر ما كان وصف المولى سبحانه وتعالى لنبيه (ص) بالخلق العظيم، تبياناً لأهمية الخلق في تكوين الفرد المسلم، وصناعة مستقبله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4).
تربية نموذجية: والخلق العظيم لدى النبي (ص) تربية ربانية نموذجية فريدة يتأسى بها المسلمون في بناء مجتمعاتهم الإسلامية وتربية أبنائهم، حيث تنطلق القدوة الصالحة أو الأسوة الحسنة منه (ص)، ليسير على هداها بقية المسلمين في كل زمان ومكان: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).
المسلمون في كل زمان ومكان محتاجون إلى استدعاء النموذج النبوي الشريف ليقتدوا به في تعليم أبنائهم ورجالهم ومجتمعاتهم وتربيتهم التربية الصالحة التي تهيئهم للتمكين في الأرض، والعزة في الدنيا، والنجاة في الآخرة، والفوز برضا الله في كل الأحوال.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 55).

- قدوة محمدية:
والقدوة المحمدية تتمثل في اللفظ العف والسلوك الحميد، والمنهج اليقظ الواعي الجاد، الذي لا يركن إلى الكسل، أو يميل إلى التراخي أو التواكل، أو الرضا بالقصور المفتعل الناتج عن الجهل أو الفساد أو عدم الوعي بضرورات الحياة.
القدوة المحمدية تقدم الجد والدأب والإصرار، وحب العلم والعمل إلى جانب العبادة والذكر والطاعة والرضا بقدر الله، والتوبة والاستغفار، ومراجعة النفس، أو ما يسمى في أدبيات عصرنا الحالي بـ"النقد الذاتي".

- مسؤولية خلقية:
والقدوة تبدأ من المنزل والأسرة، فالوالدان هما أوّل من يقابل الطفل في حياته غالباً، مع إخوته وأخواته وأعمامه وبقية الأقارب، وهؤلاء جميعاً مصدر تربيته وتعليمه وقدوته التي يقتدي بها، ويمشي وراءها، وخاصة الأب والأُم، ولذا فهؤلاء مطالبون أن يكونوا على مستوى المسؤولية الخلقية في كلامهم وتصرفاتهم؛ لأنّ الطفل يقلدهم ويحاول أن يسلك سلوكاً مشابهاً لسلوكهم، ويتكلم بمنطقهم وحديثهم..
وبلا شك، فإنّ القدوة الحسنة في التربية هي القدوة التي لا تعاني انفصاماً أو ازدواجية أو تناقضاً، فالأب والأُم ينبغي أن يتطابق قولهما مع فعلهما، ولا يجوز أن يقول أحدهما شيئاً، ويمارس نقيضه، فالتناقض هنا يكون خطره عظيماً على الطفل الذي ينعكس عليه ما يجري في البيت مثل المرأة تماماً.

- أسس تربوية:
إنّ تطابق القول والفعل لدى الأب والأُم وبقية أفراد الأسرة من الأسس التربوية التي يحث عليها الإسلام، وهو في الوقت نفسه من أسس أحكام الشريعة الإسلامية.
والطفل ينشأ متأثراً بما يراه من أقوال وسلوكيات، فإذا رأى فصاماً أو تناقضاً من الأبوين أو الأقارب، فإن ذلك يفتح أمامه باب الانحراف والاضطراب، ويعطي الفرصة لوقوع أخطاء وسلوكيات يصعب معالجتها فيما بعد.
إنّ التناقض بين الأقوال والأفعال يشكل بصفة عامة معصية لله سبحانه ومخالفة شرعية تستوجب العقاب الإلهي، ولذا نجد التحذير الإلهي من الفصام أو التناقض، بل نجد اللوم والتبكيت لهذا العمل المشين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3)، ويقول سبحانه: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة/ 44).
ولذا يكون التناقض في مرآة الطفل أشد خطراً وتأثيراً؛ لأنّه يضع أساساً للسلوك الشاذ الذي لا يعبأ بقيمة، ولا يحرص على فضيلة، ولا يتجنب رذيلة، بل يفسد المجتمع من أساسه حيث تسود قيم الانتهازية والكذب والاستباحة والتضليل والزور والبهتان وغيرها من الرذائل التي تعطل مسيرة الأُمّة وترتد بها إلى مجاهل التخلف والانحطاط.

- أبشع الصفات:
ولعل أبشع الصفات التي ينشئها التناقض بين القول والفعل صفة الكذب، وهي صفة ذميمة قبيحة، وتتناقض مع ما ينبغي أن يتحلى به المسلم من فضيلة عظيمة وهي الصدق التي يأمر بها الحق سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119)، وقد بين رسول الله (ص) أنّ الصدق دليل حي، يهدي إلى البر وهو الخير بكل أنواعه وألوانه، وبالتالي فإنّه يقود إلى الجنة، فعن ابن مسعود (رض) قال: قال رسول الله (ص): "إنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنة، وإنّ الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً".
إنّ فضيلة الصدق هي أساس نهضة الأفراد والمجتمعات والأُمم، ولا ريب أنّ النماذج المتقدمة في عالم اليوم قد قامت على أساس الصدق في داخلها وبين أفرادها، فحققت إنجازات عظيمة استطاعت أن تطال بها العالم، صحيح أنّ هذه المجتمعات تستبيح الكذب والخداع والمكر مع الأُمم الأخرى لتحقق مكاسب ومصالح أنانية – وهو ما يستنكره أصحاب الضمائر في العالم – ولكنها في الداخل لا تقر الكذب، وتتعاون من خلال الصدق، وهو ما يحقق لها التماسك والنمو والازدهار.
المجتمع الإسلامي ينهض بفضيلة الصدق مع نفسه ومع الآخرين، وقد حقق به تقدماً عظيماً في القرون الأولى من صدر الإسلام، وظل كذلك حتى دهته الداهية الكبرى بالاجتياح التتري من الشرق والإعصار الصليبي من الغرب، فتأثرت القيم وتغيرت الفضائل، وانهارات الأخلاق بعامة، وعانى الناس ألأمرّين في الداخل والخارج.

- نهوض حقيقي:
ولاشك أنّ المدرسة تمثل القدوة الثانية بعد البيت، فالمعلم قدوة لتلميذه، ويجب أن يتحلى بالأخلاق الرفيعة والقيم السمحة والسلوك الحسن، فهو راع في فصله مثلما الأب أو الأُم راعية في بيتها، وفي الفترة التي تعقب الطفولة المبكرة يجلس الطفل في المدرسة والكلية أكثر مما يجلس مع أهله في البيت، وهو ما يجعل لمكان العلم دوراً محورياً في بناء الشخصية الإنسانية للطفل؛ حيث تكون المدرسة أو الكلية أو المعهد مجتمعاً تطبيقياً للسلوك الإسلامي، ونتيجة صادقة لمدى انعكاس التربية الإسلامية للطفل، وهو ينمو نحو الصبا والشباب والرجولة.. والمشكلة اليوم أنّ الأُمّة تعاني في كثير من معاهد العلم ضعفاً واضحاً في مستوى الأداء التعليمي والتربوي، وهو ما يوجب النهوض بالتعليم والتربية نهوضاً حقيقياً، يعيد للأبناء صورة التربية الصالحة والعلم النافع؛ لأنّ ذلك طريق الأُمّة الوحيد للتعايش مع العالم الذي يتقدم ويتفوق من حولنا.

- تأثير لا يقاوم:
وقد دخلت إلى المجال التعليمي والتربوي أجهزة الإعلام بصورة مؤثرة غير مسبوقة، وأضحى للتلفزيون خاصة تأثيره الذي لا يقاوم، حيث تمثل الصورة على الشاشة إبهاراً لا يقاوم، حيث تمثل الصورة على الشاشة إبهاراً لا يقاوم، ومن ثمّ كانت المادة التي تعرض على الشاشة الصغيرة من أخطر وأهم ما يعرض على أطفالنا وشبابنا، الذين يتأثرون في سلوكهم وتفكيرهم وأقوالهم ولغتهم بما يرونه ويسمعوننه، مما يعني أنّ هذه المادة لابدّ أن توظف توظيفاً جيِّداً وحسناً للحفاظ على الهوية العربية الإسلامية من ناحية، وللبناء السلوكي والفكري للأبناء من ناحية أخرى، لقد شبه بعضهم التلفزيون بـ"الأب الحاضر دائماً"، الذي لا يجد الأبناء مفراً من تقليده والتأسي به، ولذا فإنّ المواد المستوردة من الغرب، والمنتجة محلياً يجب أن تكون على مستوى الأب القدوة الذي يتحرك بمفاهيم الإسلام وتصوراته، وإلا فإنّ النتائج ستكون غير طيبة على المستويين الفردي والجمعي.
يضاف إلى ما سبق من أهمية، دور المسجد وخاصة خطبة الجمعة والدروس الدينية اليومية التي تنقل الثقافة الإسلامية والاجتماعية إلى الطفل والشاب والشيخ، وهو ما يوجب أن يكون الخطيب والإمام عموماً على مستوى راقٍ من الفكر والسلوك وحفظ القرآن الكريم والاستعداد لتحفيظه وتفسيره بما يتناسب مع مستوى الأطفال والشباب والكبار جميعاً.

- أهمية قصوى:
إنّ القدوة في التربية الإسلامية مسألة غاية في الأهمية، وبلغة الصراع العسكري فهي إستراتيجية؛ أي أساسية نحتاج إلى تجويدها عملياً باستمرار، وتحسين أداء القائمين عليها في البيت والمدرسة والجامعة، والمسجد، وأجهزة الإعلام، حتى يكون للأُمّة مكانها تحت الشمس.

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1920 لسنة 2010م

ارسال التعليق

Top