• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المعرفة والسلطة أم سلطة المعرفة؟

فتحي بو فارس

المعرفة والسلطة أم سلطة المعرفة؟
◄تاريخ إنتاج المعرفة:

إعلم انّ السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره.. وفي وسط الدولة تعظم الحاجة إلى تعريف القلم وتكون السيوف مهملة في مضاجع أغمادها، إلا إذا نابت نائبة فيكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاهاً وأعلى مرتبة وأعظم ثروة وأقرب من السلطان مجلساً.. لأنّهم حينئذا آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه.. وتثقيف أطرافه[1].

اخترنا أنْ نسهلَ البحث في العلاقة بين المعرفة والسلطة في المجتمع العربي إنطلاقاً من هذا النص لنلفت الانتباه إلى تجربة ابن خلدون الذي جمع بين السياسي والثقافي، ومارس التجربة العلمية والسياسية في مرحلة تاريخية متوترة بالنزاع وفي مجتمع يتفكك سياسياً إلى دويلات. النص يكشف عن التوزيع الشامل للسلطة ويعكس طبيعة العلاقة بين المعرفة والقوة، حيث يظهر من شهادة ابن خلدون وكأنّ قدر المثقف أن يكون أداة في يد السلطان يدور معه حيثما دار سواء كان داخل الدولة أو خارجها، بل لا يمكن له أنْ يوجدَ خارج محور السلطة.

لهذا يظل الحديث عن هذه الظاهرة متعثراً مع غياب كتابة تاريخية أمينة للاجتماع – السياسي وإذا كانت هناك محاولات راصدة للتجربة السياسية فلا تعدو أن تكون مجرد تأريخ لأفراد وعائلات تتنافس على الحكم، تبقى معزولة عن سياقها والعوامل التي ساهمت في ظهورها. نحن أمام تجربة سلطتين: سياسية وعلمية اتسم فيها الحكم بالتقلب تجاه المعرفة: مرة بالاستبعاد والتهميش حينما يضيق حجاب السلطان وأخرى بالاستيعاب والاحتواء عندما تشتد الحاجة إلى تعظيم القلم وسيصل الأمر كما حصل مع ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين الذي سمي بـ"السلطان" – العالم وهي وظيفة مركبة طالما حَلُمَ بها الفلاسفة.

لم يكتب لهذا الحلم التحقق مع ابن تومرت حينما أساء الجمع بين السلطتين واحتكم إلى السيف لتصفية خصومه وفرض عقيدته. هذا الإخفاق لم يكن البداية ولن يكون النهاية بل هو مشهد من مسرح طويل طبع عالم الحكم والسياسة. لذلك كان من الصعب أنْ يتحملَ زمن ابن تومرت هذه المهمة، زمن تكدس فيه إرث يسوده الإخضاع المتبادل بين صاحب العلم وصاحب السلطان، وسؤال مستمر عمن يشرع للآخر؟

بجانب السلطة السياسية المباشرة كان الفكر العربي ينتج بالمقابل سلطات أخرى يؤسس عليها كلّ طرف رؤيته للحقيقة التي تشرع له ممارسة الحكم.

المتصوف يشكك في دعوى الفقيه تمامية معرفته التي هي بالنسبة للغزالي علم بظاهر النص. هكذا وكرد فعل على تضخم السلطة السياسية يُعلي المتصوف من سلطة الذات ويجعلها فوق كلّ سلطة. إنّه في الوقت الذي يتعالى فيه عن الاجتماع – السياسي وصراعاته يوحي للمجتمع بأنّه أحق بالحكم من غيره، جاعلاً من العامة رهاناً بينه وبين الفقيه يتنافسان عليها للظفر بولائها.

علم الكلام كان مادة لإذكاء التنافس والصراع على السلطة. والملاحظ انّه ومنذ ظهوره كف عن أن يكون منتجاً للمعنى، فكلما توسع الكلام فيه ازداد المعنى غموضاً ويمكن القول أنّه مع علم الكلام بدأت المعرفة تتحول إلى سلطة علمية تمارس دور الحذف للمخالف، وتوفر للأتباع حصناً يتقون به سلطة الآخر.

برزت هذه الوظيفة لعلم الكلام عندما أصبحت مهمته منتجة لمعنى – السلطة والتبرير للعقيدة. لم يكن عبثاً عندما تجاوز علم الكلام النخبة وانتشر بين الناس: عبر المتكلمين أنفسهم الذين أسسوا لمذهبهم الكلامي (كالذي حصل مع أبو الحسن الأشعري) حيث تحول المذهب إلى سلطة عقائدية غير قابلة للمراجعة أو بواسطة سلطة – سياسية تمهد له وتعمل على تنزيله بالقوة (الدولة الموحدية في المغرب عندما عممت مذهب كلام الأشعري على أنقاض الدولة المرابطية باسم انّها بنيت على فروع الفقه وليس على أصول الدين (الكلام)).

لم يؤثر الفكر الفلسفي في التجربة السياسية كما يجب فلقد كانت السلطة العلمية تحاكي منطق الدولة وتنتج على قياسها، ولم يكن للفلسفة صدى في المجتمع لمخالفتها العقائد الشعبية السائدة، فليس أمام الفيلسوف سوى العزلة والصمت أو طلب الحماية من السلطة السياسية إتقاء من أذى العامة وفقهائها. لذلك لن نعجبَ حينما استخدم الفيلسوف الطب – كعلم لا علاقة له بالفلسفة – وسيلة ليعبر حجاب السلطان ويحاول التأثير في الثقافة العربية. فأعلام الطب في العصور العباسية هم نقلة الفلسفة اليونانية ومعارفها، وبالرغم من ذلك ظلت الفلسفة على هامش السلطة السياسية. وإذا كان فقهاء الكلام سجلوا حضورهم بالقرب من السلطة تحت عنوان ترشيد الدين للسياسة أو النصح للسلطان، ، فإنّ الفلسفة ابدت اللامبالاة وتعالت فوق الجميع معزية اتباعها بالتأمل في سياسة المدينة أو التنظير للمدينة الفاضلة. إنّ الفيلسوف لم يكن يعنيه أن يجعل من مجتمعه مجتمعاً سياسياً بقدر ما كان يشغله البحث عن مثال يتجاوز ما هو كائن لا يهمنا هنا أن نبحث عن الدوافع التي جعلت الفلسفة على هامش السيرة السياسية العربية سواء كانت داخل السلطة أو خارجها إنما نريد أن نشير إلى أنّ السياسة بتأسيسها للسلطة قد أعلنت نهاية الفلسفة وموتها دائماً كما انّ الفلسفة عندما تأملت في المدينة الفاضلة أعلنت نهاية السياسة وموتها وإخفاقها باستمرار[2]. إنّه النفي المتبادل بين سلطة العقل اللاهث وراء الكمال وسلطة الدولة القائمة على المصلحة الآنية.

بالعودة إلى جذور الظاهرة يمكننا أنْ نتلمسَ أسباب التنافي بين السلطة – الدولة والسلطة – والمعرفة. لقد ظهرت في حرب الفتنة شريحة سياسية سميت باسم القراء حاولت أنْ تجعلَ من النص الأوّل الإطار المرجعي لعلم الكلام لتواجه به السلطة السياسية القائمة. هذا الموقف أسس لأوّل علاقة توتر بين المعرفي والسياسي وسيستمر التوتر كلما تضخمت الدولة. وقد ظهر بوضوح مع ابن حنبل حيث شهدت مرحلته تدخل الدولة بقوة لإحتواء المعرفة واحتكار مؤسسات التعليم ونشر العقيدة الدينية للسلطة مثالها مسألة خلق القرآن التي كشفت الصراع الدفين بين محتكري الشرعية الدينية (أهل الرأي والحديث) وبين السلطة السياسية المصادرة للشرعية المطلقة (زمانية ودينية). هنا وفي ظل وراثة الدولة للسلطتين الدينية والزمانية ستصبح الحاجة إلى سلطة القلم أكثر – إلحاحاً من ذي قبل تتحصن بها من كلِّ سلطة محتملة الصعود إلى الحكم من جهة، وتصقل بها قنوات دعايتها وعصبيتها من جهة أخرى. لقد لعبت هذا الدور بامتياز رسالة ابن المقفع إلى أبي جعفر المنصور التي هندست طريقة تطويع المعرفة للسلطة، مستهدفة الحدّ من تنوع الاجتهاد والرأي، تمهيداً لتوظيف السياسي والديني في خدمة السلطان[3]. الدور الآخر مثّله الماوردي المنظر الأوّل لسلطة الخلافة في كتابه الأحكام السلطانية مستنداً إلى الأدب السياسي الذي انتجه الكتّاب الإداريون قبله للحفاظ على استمرار سلطة الفرد والتشريع لها. هذا الأدب الذي عمل على تخريجه الكتاب بأسلوب حكيم، ونصائح ووصايا تعرف فن الحكم على أنّه: "علم وتقاليد تلقن إلى الحاكم ويعمل على تطبيقها ليستتب له الأمر وتستكين له الرعية.

هكذا نسج الكتّاب الإداريون مفهوم الحكم في العقل العربي، وأدخلوا تقاليد النظام الملكي الاستبدادي الذي كانت السلطة السياسية آنذاك تبحث عن سند شرعي ومعرفي له. فموضوع الأدب السياسي هو شخص السلطان وجسده وأداة هذا الجسد هم الذين سماهم ابن المقفع بالصحابة الذين يطوفون بمركز السلطة. مع هؤلاء تصبح مهمة العقل هي فن تدبير السلوك والمصلحة الشخصية، وتصبح مساحة المعرفة هي السلطة السياسية.

لم يكن ابن المقفع مثلاً فريداً في مجال توظيف القلم من أجل النفوذ السياسي والاجتماعي، بل كان أستاذه عبدالحميد بن يحيى وأسرة البرامكة... من الشواهد البارزة لتحالف النخبة مع السلطة. لقد كان الجاحظ صوت احتجاج على وظيفة المعرفة في زمانه حينما فضح وكشف مكانه العلمي وكيف تتحول إلى بضاعة تتزاحم على باب السلطان: السلطان سوق، وإنما يجلب إلى كلِّ سوق ما ينفق فيها وقد نظرت في التجارة التي اخترتها والسوق التي اقمتها فلم أرَ فيها شيئاً ينفق إلا العلم والبيان عنه[4]. إنّ رسالة كانت محاولة للخروج عن تقاليد كتاب الدواوين، والقطع مع نموذج الاقتباس من علوم الأوائل وتجارب الأُمم بالدعوة إلى تفوق البيان العربي. لم يكن أدبه موجهاً إلى السلطة، بل كان يراهن على العامة ويدعو إلى تحييدهم عن النخبة الضاغطة على السلطان.

مثقف الغربة أبو حيان التوحيدي لخص حالة الوعي الشقي والممزق بين باب السلطان وباب العلم إنها سيرة تكشف عن وطأة وهيمنة سوق السلطان وثقافة الأعيان ولم يكن أمام التوحيدي إلا أن يعود إلى العامة ويتنازل عن خطابه الفلسفي أو الدخول إلى عالم السلطنة وتوظيف علمه في خدمة السلطة، لكنه لم يستطع أنْ يحدد لنفسه موقعاً ثابتاً، بل بقي متردداً بين خيار العزلة وضنك العيش مقابل الحفاظ على شرف المعرفة، وبين خيار التكسب والتوسل بالعلم لأجل الحظوة. هذه أسباب غربته المضاعفة. لعل التوحيدي كان يدرك خطر العزلة ليس فقط على نفسه من البؤس، إنما على المعرفة عندما تكون على هامش ما هو كائن وتتحول إلى فلسفة للبؤس خاصة إذا كانت خارج السلطة.

لهذا السبب لم يحذو التوحيدي حذو أستاذه أبي سليمان السجستاني المنطقي الذي استقل بمجلس غير رسمي يأوي إليه المعارضون لعصبية السلطة العباسية. كان السجستاني من دعاة استقلال المعرفة عن الخطابين الديني والسياسي، ويرفض أن تتخذ المعرفة موضوعاً خارجاً عنها، أما لسان حال التوحيدي فكأنّه يريد أن يقول انّ المعرقة قطعت الوصل بالواقع الذي تمسك به السلطة عندما اشتغلت بما ينبغي أن يكون ولم تنجح إلا في أن تجعل المعرفة متعالية. وهي إحدى الأسباب التي حالت دون أن تؤسس الثقافة العربية علماً موضوعياً لمسألة السلطة في المجتمع العربي.

السلطة المعرفية الأخرى التي انتجها الأدب السياسي هي صيغة العهد السياسي من خلال تمريره للكتب المنسوبة إلى الفلسفة اليونانية التي تجعل للأمير حقّ وراقة السلطة، ككتاب سر الأسرار المنسوب خطأ إلى أرسطو، الذي نقله الأدب السياسي على صورة عهد من فيلسوف إلى ملك يمنح الشرعية للأسرة الحاكمة أن تتوارث السلطة وعلم السلطة. نموذج هذه الفلسفة السياسية التي نقلت إلى العرب هو العلاقة المميزة بين أرسطو المعلم والإسكندر الملك. هذه العلاقة النموذج سعى الأدباء السياسيون لإيصالها إلى الثقافة العربية كلحظة تناغم نادرة بين العلم والسلطان[5].

يمكن أن تكون المرحلة البديهية لحظة لافتة في التاريخ السياسي حيث يذكر التاريخ تجربة جادة في علاقة المعرفة والسلطة وتلاقيها على هدف مشترك، لكن ذلك لم يكن في طبيعة العلاقة بقدر ما هو انعكاس لفضاء الحرية التي أطلقها البويهيون، هذه الطفرة في العلاقة أتت بعد الظهور المباشر لأدب المعارضة في ميادين مختلفة وتشجيع السلطة لتهذيب وتطوير علم الكلام، إلا انّ هذا المشروع لم يكتب له الاستمرار بعد دخول السلاجقة ميدان الثقافة العربية وتسلقهم مواقع السلطة السياسية حيث انحسرت المشاركة العلمية للمعارضة.

 

إشكالية المعرفة والسلطة في العصر الحديث:

مع فريدريك نيتشه سيصبح واضحاً شمولية مفهوم السلطة لكلِّ مفاصل الحياة الاجتماعية، عندما اعتبر أنّ السلطة تشمل كلّ ما يحجب إرادة القوة والمعرفة لدى الإنسان. إنّ كلَّ قراءة للسلطة تغفل العوامل المؤثرة في تكونها هي قراءة لا جدوى منها.

كان الغرب قد آلف بين مجالي المعرفة والسلطة عبر مسيرة طويلة من الصراع وقد نجح إلى حد بعيد في المطابقة بينهما وتخفيض حدة التوتر وتحقق ذلك عندما اعترف كلّ منهما بالآخر في توزيع الوظائف والأدوار بالاتفاق على قواعد موضوعية تتجاوز المصالح المباشرة، أعني بالقواعد الموضوعية امتلاك المعرفة العلمية والعملية أي المزاوجة بين العقل النظري والعقل العملي عبر الممارسة الديمقراطية.

بالمقابل المشهد السياسي في العالم العربي يكاد يفتقد إلى كلّ الخطوط التي تمارس في الغرب، فالعلاقة بين الثقافي والسياسي يستمر في إنتاج الصراع والتنافي. تزداد المفارقة عمقاً عندما أصبحت السلطة تتجاوز الدولة العربية الحديثة، فنحن اليوم أمام منظومة موحدة من السلطة – المعرفة – تمثلها المجتمعات الصناعية الحديثة، تقابلها نظم اجتماعية بالية تسودها سلطة دركية غير مؤسساتية. إنّ احتكار الغرب للعلم حوَّل المعرفة إلى مسألة رهان حول كيفية امتلاكها.

هذه المهمة على عاتق المثقف في العالم العربي قبل غيره حيث بإمكانه أن يكون ناقداً أو مبرراً أو متزلفاً. لا شك انّ التداخل بين السياسي والثقافي يكاد يحجب الرؤية نتيجة لاتساع رقعة السلطة السياسية إلى درجة انّ الثقافة تحولت إلى بعد من أبعاد السلطة، نجد مصداق هذا التداخل بين الممارسة والفكر بين السياسة كسلطة سائدة وبين المعرفة كسلطة تسعى للسيادة؛ بين الثقافة والمؤسسة، هذا التداخل هو استمرار بأشكال جديدة للعلاقة التاريخية بين الملك والكهنة، بين السلطان والسحرة، بين القرار السياسي والاقتصادي وبين مروجيه البيروقراطيين في الدولة الحديثة، هذه العلاقة اللامتكافئة بين المعرفة والسلطة مهدت لظهور الأيديولوجيا كخطاب ثقافة مختلفة سلطوياً في أجهزة الدولة. لقد تحولت الإيديولوجيا إلى مصنع لإنتاج المعرفة المشرعة لعقل الدولة واستمراره انّها إحدى ضرورات الحكم فكلّ دولة لا تملك أيديولوجيا تضمن ولاء واجتماع مواطنيها، لا محالة مهزومة[6] وهو ما دعا إليها التوينز بالتمييز بين سلطة الدولة القمعية وبين سلطة الدولة الأيديولوجية الأمر الذي يكشف عن قاعدتين تشتغل عليهما السلطة السياسية: القوة المادية والقوة العقائدية[7].

أحد وجوه الطابع الإشكالي في العلاقة بين السلطتين هو انّ المثقفين الذين تمر بواسطتهم مهمة المعرفة – الأيديولوجيا، لا يمثلون السيطرة الحقيقية في الدولة، بل تكمن بؤرة السلطة والسيطرة في الفئات المالكة للمال الذي ينتج المعرفة المطلوبة ويهمش ما هو غير مرغوب فيه. يتجلى هذا فيما تقوم به الحكومات العربية الحديثة من سياسات التهميش للثقافة والمثقفين وتحويلهم إلى موظفين بيروقراطيين مكتبيين إنّ الحضور في السلطة لا يتحدد بكون المثقف داخل الدولة أو خارجها، وإنما بالطابع الفكري والمعرفي الذي يتميز به، بمعنى آخر يتحدد حضوره بحالة الوعي لا بالوجود. لذلك لابدّ من إدراك وممارسة هذا التفريق بين الوعي والوجود خاصة في ظل اتساع رقعة السلطة حوله لا لتشمل وجوده الاجتماعي فحسب وانما لتبسط هيمنتها على كلِّ مفاصل المجتمع تعضدها في هذه الوظيفة دول المركز تحت عنوان مراكز الأبحاث العلمية والمعونات الاقتصادية. هكذا يظل المثقف مهدداً من قبل السياسي باستمرار غير انّهما يتقاطعان في السلطة باعتبارها القاسم المشترك بينهما. سلطة الدولة التي فقدت الوعي بمصالح الناس، وسلطة المعرفة – الإيديولوجيا التي يمارسها المثقف ولم يستطع الانفكاك من خطاب المعارضة المطلقة للمجتمع والدولة الأمر الذي جعله يفقد ثقة الطرفين، فهل من المجازفة أنْ نقولَ انّ المثقف لم ينجح في أنْ يتحررَ بالكامل! طالما انّ المعرفة لم تتحرر بعد من سلطة الإيديولوجيا ما هو إذن السبيل لأنْ تتجاوز المعرفة بؤرة السلطة ولعبة الإيديولوجيا؟

ميشال فوكو دعا إلى الخروج من عملية إنتاج المعرفة كأداة تعمل السلطة (بالمعنى الشامل) على احتوائها، فما دام المثقف يعيش داخل هذا الإطار العضوي المكوّن من: نظام – سلطة – معرفة فهو ينتمي بالضرورة إلى فئة مسيطر عليها داخل استراتيجيا السلطة[8].

إذن ليست المسألة في أنْ نعتقَ الحقيقة من كلِّ جهاز سلطة لأنّ الحقيقة هي نفسها سلطة، بل أنْ نفصلَ سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعمل الحقيقة آنيا في إطارها[9].

هكذا يريد فوكو أنْ يتممَ ما رآه سارتر في انّ المثقف هو الذي لا يحمل وكالة من أحد ولا يكتسب موقعه من أيّة سلطة.. وليس نتاجاً لقرار ما.. بل هو نتاج فظيع لمجتمع فظيع..[10].أ

انطلاقاً من هذه التأملات السارترية أراد فوكو أنْ يتجاوزَ كما فعل سارتر اللوغوس إلى البراكسيس فعثر على وظيفة للمثقف عندما قرر: .. ليست المسألة السياسية الجوهرية بالنسبة للمثقف في أن ينتقد المحتويات الإيديولوجية الملاصقة للعلم ولا في أن تواكب ممارسته العلمية إيديولوجيا صحيحة، بل في معرفة ما إذا بالإمكان بناء سياسة جديدة للمعرفة.. بمعنى ليست المسألة في أنْ نغيرَ وعي الناس أو ما يحملون داخل رؤوسهم، بل في أنْ نغيرَ النظام.. المؤسسي لإنتاج المعرفة.. فالأمر لا يتعلق بتحرير المعرفة من كلِّ نظام سلطة.. بل بفكّ الارتباط بين سلطة المعرفة وأشكال الهيمنة..[11].

من خلال هذا المنظور ينفذ فوكو إلى أدب سياسي وفلسفي جديد يتجاوز المعالجة التبسيطية لظاهرة المعرفة والسلطة التي تقاربهما من زاوية الثنائية المصطنعة، بين الفيلسوف والحاكم، كأرسطو – الإسكندر وميكافيلي وعائلة Medias. لأنّها ثنائية تعتم على الظاهرة بطريقة (إما.. وإما). إما أن يكون المثقف حاجباً للسلطة أو أن يكون متمرداً عليها والنتيجة بقاء الجهد مستنزفاً بين السلطة والمعرفة.

إنّ أساس المعارف هي المعرفة التي تحررت من كلِّ إكراه ذاتي أو موضوعي، وأرقاها في الممارسة هي التي لا تتحول في اعتراضها على السلطة إلى سلطة جديدة، تذكيراً بقول نيتشه: حذار وأنت تحارب الوحوش أنْ تتحولَ إلى وحش مثلهم تماماً.

الهوامش:


[1]- ابن خلدون المقدمة (التفاوت في مراتب السيف والقلم) الفصل الخامس والثلاثون، دار التراث، بيروت، 1990.

[2]- مقالة الفلسفة وماهية السلطة، محمّد زيدان، مجلة الفكر العربي 33-34.

[3]- رسالة الصحابة: عبدالله بن المقفع (مكتبة البيان – بيرت 1970).

[4]- رسالة الفتياني الجاحظ: رسائل الجاحظ، ج1، ص213.

[5]- الاقتضاب في شرح أدب الكتّاب، عبدالحميد بن يحيى الكاتب: إحسان رشيد عباس، دار الشروق عمان 1988.

[6]- عبدالله العروي: مفهوم الأيدلوجية، المركز الثقافي العربي، 1996.

[7]- Louis Alusson: positioned. Socials 1976. Pp83. -90

[8]- فوكو ميشال Volonte de Savoir. المركز الثقافي العربي، 1994.

[9]- فوكو ميشال الحقيقة والسلطة، المركز الثقافي العربي، 1995.

[10]- J.P. Sartre L’ami du peuple, Situation VIII P.457 Paris.

[11]- M.F. Verite et pouvoir, ed.PUF. 1989.

ارسال التعليق

Top