• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن.. مركز طاقة كبيرة وهائلة

د. محمّد عبدالرحمن مَرحَبا

القرآن.. مركز طاقة كبيرة وهائلة

◄القرآن أصل الدين وأسُّه وأساسه، نزل على قلب محمّد من لدن حكيم عليم تبياناً لكلّ شيء وتفصيلاً لكلّ مطلوب. إنّه كلام الله الأزلي بلفظه ومعناه (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصّلت/ 42). فلا تضارب في أقوال الله ولا تعارض (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82). وليس من الممكن أبداً الإتيان بمثله (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء/ 88). هذه هي عقيدة المسلم في كتاب ربّه وهذا هو لسان حال كلّ مؤمن في مشارق الأرض ومغاربها. القرآن في نظر المسلم هو قيمة مطلقة، بل هو القيمة المطلقة التي لا تعلوها قيمة أخرى. فهو الأساس الأيديولوجي والمصدر الوحيد للحقيقة، وإن كانت تشاركه مصادر (شرعية بطبيعة الحال) أخرى تستمد منه شرعيتها وحقيقتها. إلّا أنّ القرآن يبقى عقيدة مركزية وحكماً نهائياً حاسماً وإليه يثوب المسلمون في تفكيرهم ونظام حياتهم.

ومحمّد هو المبلّغ لهذا القرآن ولسانه الناطق. إنّه حامل لواء الدين الجديد والمنافح (مناضل) عنه والمجاهد في سبيله. وأركان الدين التي لا تثبت إلّا بنص من كتاب الله أو سُنة رسوله. ثلاثة: (1) العقائد (2) العبادات (3) التحريم والتحليل. وما عدا ذلك من أحكام الشرع فيثبت باجتهاد الرأي فيما ليس فيه نص، ومداره على إقامة المصالح ودفع المفاسد. فالأحكام التي تحتاج الأُمّة إلى معرفتها لابدّ أن يبيّنها الرسول ولابدّ أن تنقلها الأُمّة. فما لم يبيّنه ليس بواجب ولا حرام. وهو لم ينسَ شيئاً من أصول الدين. بل لقد حذَّر الناس من أن يسألوا عن أشياء إن تُبدَ لهم تسؤهم فيندموا على السؤال عنها. إنّه لا يريد أن يغرقهم في النصوص التي تشل فعاليتهم وتمنعهم من حرّية الحركة. فالسؤال ملزم لصاحبه، فإن لم يكن ضرورياً فمن الخير تركه. إنّ فيه سداً للأبواب وخنقاً للأنفاس، فما الحكمة من طرحه؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) (المائدة/ 101-102). فالله حين سكت عن بعض الأمور إنّما فعل ذلك لحكمة أرادها، ولم يفعل ذلك سهواً أو نسياناً أو إهمالاً. لقد عفا الله عن ذلك. فالعقل الإنساني يجب أن يتحمّل قسطه من المسؤولية في تقدير المواقف وإيجاد الحلول لها مادامت أصول العقيدة قد أُرسيت قواعدها، فيجتهد في التشريعات التي تناسب الزمان والمكان والظرف ومقتضى الحال. لا تتشددوا في دينكم ولا تتزمتوا، "فما شادَّ هذا الدين أحد إلّا غلبه" كما جاء في الحديث النبويّ الشريف.

إنّ قراءة القرآن عبادة، وتدبُّره عبادة، ودراسته وتدريسه وتدارسه عبادة والصلاة به عبادة... كلّه عبادة في عبادة. فكان المسلم يقبل على كلّ عبادة من هذه العبادات بنهم شديد وحماسة بالغة. فإذا رأى تعارضاً بين الآيات رفض التسليم بهذا التعارض بل رفض الخوض فيه. فإذا كان على شيء من الذكاء خفَّ لإزالته. إنّه يتّهم نفسه بل يتّهم عقله ولا يتّهم قرآنه ويبدي من العناية والاهتمام في هذا السبيل ما لا يبديه في أي سبيل آخر بتقوى لا مثيل لها تارة، وبحذلقة وتمحُّل تارة، وبابتكار أبواب جديدة في الفصاحة والبلاغة والبيان ما أنزل الله بها من سلطان تارات. المهم أن ينقذ النص مهما كان في هذه الإنقاذ من الحيص، أو اقترف صاحبه من الخبص، واستجلب للقارئ المغص. لقد ارهقوا النص الكريم وحمّلوه فوق ما يحتمل وخرجوا منه بأشياء لم تخطر ببال صاحبه. أبواب كاملة من البلاغة وُضعت للدفاع عن القرآن حتى لرثَّت البلاغة وحتى والله لكرهتُ البلاغة. فلو نصب الفاعل ورفع المفعول لنسبوا ذلك إلى البلاغة. ليسوا في مستواه فهبطوا به إلى مستواهم!! المعقول واللامعقول تجنّدا لإزالة ما غمض من القرآن فزاداه غموضاً وإغلاقاً! أليس هو كلام الله؟ وهل هناك ما هو أدعى للاهتمام من تدبُّر كلام الله وتدارسه وفهم أغراضه ومعانيه؟

لكن هذا المجتمع لم يعدم قلة مستنيرة رفضت نثر البخور. لقد ارهقها حمل المباخر وأحرقت أصابعها المباخر. لقد أضناها حمل البخور وأعشت أبصارها مشاهد البخور، وأزكمت أنوفها رائحة البخور فانتفضت تطرد صناعة البخور. إنّها لم تقتنع بهذا الذي تراءى لها أنّه سيل دافق من السخف والهراء - بزعمها - يجب وقفه قبل أن يستفحل أمره. فلا يخلو مجتمع النعاج من الرُّعاة، والحرب سجال دائماً بين النعاج والرُّعاة. هؤلاء هم الفلاسفة، وهؤلاء أيضاً هم الزنادقة الذين حملوا لواء المعارضة للقرآن والنبوات وأعلنوا النكير عليهما. وكم هلك منهم مَن هلك وكان عبرة لغيره! لقد شككّوا في الوحي والنبوة والرسالات السماوية وعدّوا ذلك كلّه مخرقة (كذب واختلاق) يجب تنزيه الله عنها. علامات استفهام كثيرة تكاد لا تخلو منها كلّ صفحة من صفحات القرآن، لقد هالهم ذلك الحشو الكبير الذي وُضع للتغلّب عليها. بالعلم، بالجهل، بالأسطورة، بالخرافة، بالوهم ذُللت جميع الصعوبات التي يزخر بها القرآن - أو هكذا بدا لأصحابها الميامين! - وأسلس النص القرآني لما هبَّ ودبَّ من العقليات.

وزبدة القول، لقد كان القرآن فرصة ذهبية نادرة لإعمال العقل وقدح زناد العقل والإتيان بالصحيح والزائف مما يقره أو ينكره العقل. وكان كلّ صياد يخرج بدُرَّ ثمين أو بحجرٍ لامع براق يخدع جمهور المشاهدين. اعطني مجنوناً وأنا استطيع أن استخرج لك من هذره (مَن يُكثِرُ فِي كلامِهِ من الخطأ والباطل) حكمة الأولين والآخرين، فكيف إذا كان المتكلّم عملاقاً فذاً أنجبه البلد الأمين، يُبلغ رسالات ربّ العالمين؟!►

 

المصدر: كتاب الفكر العربي في مخاضه الكبير 

ارسال التعليق

Top