• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الخطاب الثقافي.. مفهوم واسع التداول

أ. د. عبدالكريم بكار

الخطاب الثقافي.. مفهوم واسع التداول
   مفهوم الثقافة مفهوم واسع التداول. وكل ما يتسع تداوله تكثر التباساته، وتتباين التصورات حوله وكأن شدة الظهور تشكل مصدراً لبزوغ الخفاء!. وسيكون في إمكاننا أن نشير إلى مدلولين أساسيين لكلمة "ثقافة" مدلول يجعل الثقافة شيئاً مرادفاً للمعرفة، فنحن حين نقول: "الثقافة الفقهية أو التاريخية أو التربوية، لا نعني في الغالب أكثر من مجموعة من المعارف المنظمة والمؤطرة بإطار معيّن. وهكذا فكلمة مثقف بهذا الاعتبار نطلقها، ونريد بها الفقيه والمؤرخ والفيزيائي.. إنّه شخص تبحر في علم من العلوم، فاستحق هذا اللقب. المدلول الثاني هو ما بلوره "الأنثروبولوجيون" في العصر الحديث حيث صار العلم والمعرفة من مكونات هذا المدلول. إنّ الثقافة صارت تعني ذلك الكلّ المعقد من العقائد والأفكار والمفاهيم والأخلاق والنظم والأزياء والعادات والتقاليد والذكريات والتعبيرات والإبداعات والتصورات السائدة في بقعه مسكونة ومحددة من الأرض. إنها عبارة عن جو كامل، يتنفس فيه الإنسان، ويتشبع بمعطياته ورموزه ودلالاته المختلفة دون شعور منه. هذه الثقافة تجعل أصحابها بمثابة أمة أو مجتمع متجانس، له مرجعيته وطموحاته وهمومه المشتركة. والحقيقة أنّ ثقافة الأمة بهذا المعنى تشكل مكمن ذاتية الأمة والمعبِّر الدقيق عن شخصيتها. وحين تصعد أمة من الأُمم، فإن ذلك الصعود يتجسد في صعود ثقافتها وجاذبيتها. كما أن انحطاط أي أمة يعني انحطاط الأنساق المكونة لثقافتها أو انحطاط معظم تلك الأنساق. هذا يعني أنّ الخطاب الثقافي هو خطاب يهتم بالحياة العامة للناس بكل تفاصيلها ودقائقها، لكن مهما كانت القضايا الفكرية والإصلاحية والتعليمية والتربوية راسخة في اهتمامات صنّاع أي خطاب، فإنّ المتوقع أن يركز الخطاب الإسلامي المنشود على هذه المسائل، وأن يقدم فيها رؤى جديدة ومؤصلة. إذا أردنا أن نحدد معنى كلمة "مثقف" من أفق المدلول "الأنثروبولوجي" للثقافة، فإننا سنواجه العديد من الصعوبات، وعلينا أن نتحلى بشيء من الجرأة والمجازفة. وفي هذا الإطار يمكن القول: بما أنّ الثقافة عبارة عن مركَّب كلي فإنّ أليق الناس بلقب "مثقف" هو ذلك الشخص الذي يمتلك رؤية كلية حول واقع الأُمّة، وما يمكن أن يكون عليه مستقبلها. إنّه يفقه سنن الله – تعالى – في الخلق، ويعرف الكثير عن طبائع الأشياء؛ ولا سيما الطبيعة البشرية، كما يعرف الكثير من العلاقات التي تربط بين جوانب الحياة المختلفة، ويعرف ما يمكن أن يحدثه النجاح في المجال السياسي – مثلاً – من آثار في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. كما يعرف الأضرار التي قد تلحق بالجانب التربوي – مثلاً – في حالة الإخفاق في المجال الاقتصادي أو السياسي. وهو مع هذا يجمع بين العلم والكفاءة المهنية. وكل هذا يظل محدود التأثير في وضعيته ما لم تكن اهتماماته تتجاوز حدود مصلحته الخاصة، لتشمل مصلحة الناس حوله ومصلحة المجتمع الذي يعيش فيه. وإذا تأملت في هذه الشمائل والصفات التي تحدثنا عنها، فإن مدلول كلمة "مثقف" اليوم قد يكون قريباً من مدلول كلمة "فيلسوف" التي كانت تستخدم أيام حضارتنا الإسلامية الزاهية على نطاق واسع. إذا صح هذا التوصيف للمثقف، فهذا يعني أنّه لا يختلف كثيراً عما نطلق عليه اليوم لقب "مفكر" إلا أن هذا الأخير يبدو حسب العرف الشائع وكأنه أرفع مقاماً، أو أنّه مثقف من الدرجة الأولى. والحقيقة أن غموض مدلولات كلمة "مثقف" أسهم في غموض أدوات تكوينه وغموض الدور الذي يمكن أن يقوم به والرسالة التي يمكن أن يبلِّغها، كما أدى إلى وجود نوع من التوجس الخفي من قدرته على العمل داخل إطار الضوابط والأصول والثوابت الشرعية. وزاد في ذلك غموض اللغة والمصطلحات المتداولة بين المفكرين والمثقفين إلى جانب ما نراه من جرأة الطرح – في أحيان كثيرة – بسبب ضعف الثقافة الشرعية لدى كثير ممن يقومون بالتنظير لحلول المشكلات التي تواجه الأُمّة. لهذا لسبب وأسباب أخرى يمكن القول: إنّ الخطاب الثقافي الإسلامي يحتاج إلى المزيد من العمق والتركيز ولولا قوة الأصول التي يرتكز إليها ولولا حب الجماهير المسلمة لكل ما يتصل بدينها من بيان وقول لفقد هذا الخطاب الكثير من قدرته على التأثير في الناس وتحفيزهم. ولهذا فإنّ الخطاب الإسلامية المعاصرة. وهذا التجديد ينبغي أن يشتمل على زيادة وعي صناع الخطاب الإسلامي بطبيعة الطرح الثقافي الموجود الآن في مختلف الساحات: الليبرالية والقومية والعلمانية.. وزيادة وعيهم بالرؤية الإسلامية في مسائل التغيير والتحديث ومسؤوليات المثقف ووسائل التقدم، وكل ما يعد من قبيل مشكلة المثقف مع نفسه وأفكاره وعلاقاته. إن تجديد الخطاب الثقافي الإسلامي يعني التجديد في صياغة الخطاب وترتيب مقولاته وتعميق رؤاه وتحليلاته وتعليلاته، كما يعني زيادة بصيرة المثقف المسلم بطبيعة المجال الثقافي نفسه وما فيه من تأزمات ومشكلات وتداخلات مع المجالات الأخرى. وهذا في الواقع موضوع كبير جدّاً، ويحتاج إلى كتاب مستقل. المصدر: كتاب تجديد الخطاب الإسلامي.. الرؤى والمضامين

ارسال التعليق

Top