لا شك أنّ هناك أصنافاً متعددة لمعاملة الأسر للأطفال ينبغي تجنب الكثير منها من أجل تمثل المنهج الإسلامي التربوي الأصيل النابع من روح الدين الإسلامي والإجتهادات التربوية النبوية، وتلك التي توصل إليها كثير من علماء الإسلام ومفكريه. ويمكن تحديد أبرز الأصناف في الآتي[1]:
1- المعاملة المغالية في التأديب Over Correction. ويتمثل هذا الأسلوب في تأكيد الأسرة على الوصول بالطفل إلى الالتزام بضوابط في مجمل سلوكه، مع ميل الأسرة إلى الاستعانة بطرق معينة كالتأنيب والتوبيخ. هذا الأسلوب ينطوي على قدر من تجاهل حاجات الطفل. 2- المعاملة المغالية في الإخضاع وتحقيق الطاعة Over Sumission. تكون المعاملة وفق هذا الأسلوب عن طريق إخضاع الطفل للأسرة إذعاناً لها وإطاعة أوامرها ونواهيها طاعة عمياء. 3- المعاملة وفق مذهب الكمال Perfectionism. ويتمثل هذا الأسلوب من خلال تصور تحقيق السمو في سلوك الطفل، وهو ينطوي على تجاهل الكثير من خصائص الأطفال والنظر إليهم وكأنهم ناضجون. 4- المعاملة عن طريق إنزال العقوبة Punitiveness. ووفق هذا الأسلوب تميل الأسرة إلى الأسلوب التأديبي، مدفوعة بالتصور أن معاملة الطفل تقوم على استمرار إنزال القصاص بالأطفال جسديّاً أو لفظيّاً. 5- المعاملة القائمة على الإهمال Negligence. وتقوم هذه الطريقة في المعاملة على عدم إيلاء الأسرة للطفل اهتماماً أو عناية عاطفية. 6- المعاملة القائمة على ازدراء الطفل Rejection. وتتمثل هذه الطريقة في نبذ الطفل وعدم الاكتراث له وازدرائه والاستخفاف به. 7- المعاملة القائمة على التوهم الوسواسي Hypochondriasis. ويتمثل هذا الأسلوب في شعور الأسرة بقلق مبهم أو خوف في النظر إلى الطفل والتعامل معه، ويرافق ذلك حرص شديد ومبالغة فيه على الطفل. 8- المعاملة القائمة على الحماية الزائدة Over Protection. وهو الإفراط في شدة حرص الأسرة على الطفل والعمل على حمايته من كل شيء أو فعالية. ويصل الأمر إلى محاولة الأسرة التدخل في نمو الطفل وفي حاجاته الطبيعية. 9- المعاملة القائمة على تدليل الطفل Over Indulgence. وهو أسلوب يقوم على الإفراط في تدليل الطفل، من خلال المبالغة في إشباع حاجاته والمغالاة في تلبية مطالبه. 10- المعاملة القائمة على الإفراط في تحمل المسؤولية Excessive Responsibility. ويتمثل هذا الأسلوب في محاولة الأسرة تخليص الطفل من أداء أيّة مسؤولية، والقيام نيابة عنه بإنجاز الفعاليات التي هي من شأن الطفل. ويعطي هذا التصنيف الذي تتكرر الإشارة إليه في المراجع المختلفة بطرائق معاملة الأسر للأطفال صورة عن التباين بين الأسر المختلفة التي تتراوح بين محاولة صياغة الطفل ومن خلال عمليات التأديب إلى محاولة تحمل المسؤولية نيابة عنه. ويمكن أن نجد هذه الطرائق بدرجات متباينة في المجتمعات المختلفة بما فيها المجتمع العربي، غير أن هناك مجتمعات تزيد فيها أساليب معينة وتنقص أخرى. وتُساء معاملة الطفل في الوطن العربي كثيراً، بحيث صار أسير سوء المعاملة، إذ يسهم المجتمع وأنظمته المختلفة بما فيها النظام الأسري في معاملة الطفل. وتتركز أهم التفسيرات لظاهرة معاملة الأطفال في عدد من الاتجاهات منها[2]: 1- إساءة معاملة الأطفال نتيجة الميراث الثقافي (تراث، عادات، تقاليد عتيقة في عقاب الأطفال وانضباطهم). 2- إساءة معاملة الأطفال نتيجة لباثولوجيا الأفراد البالغين في الأسرة. 3- إساءة معاملة الأطفال نتيجة التصرفات المكتسبة والإسقاطية (خبرات الوالدين الذين أسيئت معاملتهم). 4- إساءة معاملة الأطفال نتيجة للضغوط الاجتماعية والبيئية أو طريقة المعيشة العصابية. 5- إساءة معاملة الأطفال نتيجة لباثولوجيا الأسرة (التفكك الأسري). وقد أجريت بعض الدراسات النفسية ودوِّن الكثير من الملاحظات عن أساليب المعاملة الاجتماعية للأطفال في بعض الأقطار العربية. ومن جانب آخر فإن مجتمعنا في تركيبته القائمة حول السلطة الأبوية في الأسرة العربية، يضطهد الفرد ويلفظه إذا ما تستقل عن الأسرة أو العشيرة أو الطائفة، وإن سوء الظن من حيث هو موقف نفسي ونمط من أنماط السلوك يؤدي إلى دعم العلاقات الاجتماعية القائمة والتي ينبثق عنها هذا الموقف. وإنّ التقابل بين المجتمع والأسرة يبدو كآلية من الآليات التي تلجأ إليها الثقافة الاجتماعية المسيطرة لضبط التغيير والمحافظة على استقرار النظام الاجتماعي، الذي هو بدوره مبني على النمط السائد في توزيع الثروة أو السلطة أو المكانة الاجتماعية[3]. إساءة معاملة الأطفال: يمثل التعامل التربوي المناسب مع الطفل أحد أهم الأسس التي يعتمد عليها حق الطفل في تربية سليمة، لأن أي خلل في أسلوب التعامل مع الطفل، وخاصة من والديه وأسرته القريبة منه، يكون له تأثير سلبي على شخصية الطفل. ومن بين أخطر أساليب التعامل مع الأطفال إيذاؤهم من خلال الإساءة إليهم بصورة متمادية ومتعددة. وقد عرّف علماء النفس والتربية إيذاء الطفل بتعريفات عدة، من بينها ما ذكره ريبير Reber من أن إيذاء الطفل يمثل: "أي شكل من أشكال سوء المعاملة البدنية أو النفسية تقع على الطفل بواسطة والديه أو من يتولى رعايته"[4]. وتربط تعريفات أخرى إساءة معاملة الأطفال بالأثر السلبي الذي يحدثه الإيذاء على نمو الطفل، ومعاملته التي تشمل كل ما من شأنه أن يعوق نمو الطفل نموّاً متكاملاً سواء بصورة متعمدة أو غير متعمدة من قبل القائمين على تنشئته، ويتضمن ذلك الإتيان بعمل يترتب عليه إيقاع ضرر مباشر للطفل كالإيذاء البدني، أو العمالة المبكرة، أو ممارسة سلوكيات أو إجراءات من شأنها أن تحول دون إشباع حاجات الطفل المتنوعة: التربوية والنفسية والجسمية والانفعالية والاجتماعية، أو تقلل من حصول الطفل على الفرص المناسبة لنموه نموّاً سليماً[5]. ويتعرض الكثير من الأطفال لإساءة المعاملة من أقرب الناس إليهم وأحبهم لهم كالوالدين أو أفراد أسرة الطفل، وهذا ناتج عن قصور في وعي هؤلاء التربوي والجهل بخصائص الأطفال وحاجاتهم النفسية، وسبل التعامل المناسبة معهم. في مثل هذه الحالات تتصف العلاقة بين الطفل ووالديه أو المسؤولين عن تربيته بالقصور في مستوى الثقة والاطمئنان، وتكون نتيجة ذلك أطفالٌ لم تنمُ علاقات حميمة مع والديهم أن المسؤولين عن تربيتهم، وهذا يؤدي بالتالي إلى ضعف قدرة هؤلاء الأطفال على إقامة علاقات إنسانية واجتماعية وغيرها مع أفراد المجتمع بشكل عام في مراحل حياتهم اللاحقة. وتشير بعض الدراسات إلى أن معظم حالات الإساءة للأطفال تحدث في أسر لديها ظروف صعبة أو مشكلات اجتماعية، ويمكن أن يكون المسيء للطفل قد تعرض للإيذاء في مراحل طفولته، وهذه العوامل ينبغي أن يسعى الكبار إلى التقليل من أثرها على نفسياتهم لاسيما ما يتصل من ذلك بسوء معاملة الأطفال. ورغم أن ذلك ليس سهلاً لدى بعض المسؤولين عن الأطفال إلا أنّه ليس صعباً، بل هو واجب على الوالدين ومن له علاقة بالأطفال، فالقراءة الجادة في مجال التعامل مع الأطفال، والتعرف على خصائصهم واحتياجاتهم، وسؤال المربين وعلماء النفس، واستشعار الحقوق الكبيرة للأطفال، ومدى الأثر السلبي الذي يتركه الإيذاء على شخصية الطفل طوال حياته، كل هذه العوامل تعزز لدى الوالدين والمربين الإحساس بالمسؤولية تجاه الأطفال، وتدفعهم إلى المزيد من الحرص والعناية في تعاملهم مع أطفالهم. وتنقسم صور الإيذاء التي يتعرض لها الأطفال إلى عدة صور منها[6]: أ- الإيذاء النفسي والعاطفي: وهذا النوع من الإيذاء هو أكثر ما يتعرض له الأطفال مقارنة بصور الإيذاء الأخرى. ويزيد من انتشار الإيذاء النفسي للأطفال الجهل وعدم الإدراك بأنّ الكثير من التصرفات قد تؤذي الأطفال نفسيّاً دون أن يشعر الكبار بذلك. فشتم الطفل أو الاستهزاء به إساءة نفسية له، ومقارنته بنماذج سيئة في المجتمع تعد إساءة نفسية له، بل إن عدم الاهتمام بإنجازاته وإطراء أعماله الإيجابية يشعره بالإحباط ويقتل في نفسه الرغبة في الإبداع، وهذه صورة من صور إيذاء الأطفال نفسيّاً. ب- الإيذاء البدني: ولهذا النوع من الإيذاء صور كثيرة تبدأ بالضرب على أجزاء حساسة من جسم الطفل، وتشمل ما لا يدرك البعض خطورته على الأطفال كالتدخين السلبي عليهم، أو ركوب الطفل في المقعد الأمامي للسيارة. ويعد الضرب أسوأ صور العقاب البدني، وهو في الغالب مؤشر على فشل المربي في تربية الأطفال، لأنّ العقاب البدني للطفل قد يكون أسهل الطرق لجعله يستجيب لما تطلبه منه، لكنه أخطر الطرق على نفسيته ونموه العقلي والعاطفي، لأن استجابة الطفل لم تصدر منه عن قناعة وقبول، وإنما خوفاً من الضرب. ولهذا فإنّ الطفل الذي يتعرض للضرب إما أن يصبح عدوانيّاً من خلال رغبته في رد صور الإيذاء التي تعرض لها، أو أن يكون خنوعاً وجباناً لأنّه تعود على الاستجابة لمن هو أقوى منه دون قناعة منه. ج- الإهمال: وهو عدم الاهتمام بتلبية احتياجات الطفل الأساسية، أو عدم إظهار القبول والتشجيع لما يقوم به من نشاط محمود، أو التهاون في الرعاية الصحية. ويشمل الإهمال عدم التعاون مع المدرسة في شؤون الطفل التربوية والتعليمية، ومن ذلك متابعة ما قد يتعرض له الطفل من صعوبات في تعليمه أو سوء معاملته في علاقته بالآخرين، أو عدم الاهتمام بمصروفه اليومي وكيفية صرفه. ولا يعني عدم قدرة الوالدين على تلبية بعض احتياجات الطفل، ولا سيما المادية منها مبرراً لإهمال الطفل، ويكفي التعامل الحنون وإظهار الاهتمام بحاجات الطفل النفسية والمادية من خلال إظهار استحقاقه لها أو التعامل مع عدم القدرة على الاستجابة لبعض حاجات الطفل ومستواه العقلي والمعرفي. المهم البعد عن الإهمال الذي يشعر به الطفل بعدم اهتمام والديه ومربيه به، ويسبب له الإحباط، ويفضي إلى مبادلة الطفل الآخرين بالإهمال وعدم الاهتمام. د- الإيذاء الجنسي: وهو نوع خطير من أنواع الإساءة للأطفال، وقد لا يشعر به الكبار لأنّ الطفل قد يتعرض للإيذاء الجنسي ولا يكون لديه القدرة على تمييز خطورة الموضوع أو لا يملك القدرة على الامتناع عن فعله خصوصاً إذا كان مع الكبار، وقد يخفي الطفل ما قد يتعرض له من إيذاء جنسي لتهديد المعتدي عليه إذا أفشى الأمر، أو نتيجة شكل العلاقة الأسرية مع عائلته التي لم تربِّ فيه قوة الشخصية والقدرة على عرض مشكلاته وإبداء آرائه. ورغم رفض صور الإيذاء الجنسي في مجتمعنا – بحمد الله – إلا أنّ الواجب يقتضي من الوالدين وكل من له علاقة مع الأطفال إعطاء هذا الموضوع ما يستحقه من الاهتمام والمتابعة المباشرة وغير المباشرة، والتأكد من بناء علاقة ثقة مع الأطفال تمنحهم القدرة على الحوار مع الكبار حول كل الموضوعات، كما أنّ من المهم إعطاء الأطفال المعلومات التي تناسب سنهم حول غريزة الجنس والزواج والعلاقات الجنسية، لأن سماع ذلك من والديهم ومربيهم يتيح لهم القدرة على التمييز وحسن التعامل مع ما قد يواجههم من مواقف مع أفراد أو مجموعات قد تسيء إليهم. وإيّاً كان نوع الإساءة وسوء المعاملة التي يتعرض لها الطفل، فإنّ المؤكد أن لها أثراً سلبيّاً كبيراً على شخصية الطفل طوال حياته، ولابدّ أن يدرك الكبار أنهم يرتكبون العديد من صورة الإيذاء للأطفال كل يوم عن قصد أو بدون قصد، لكنها تؤثر في الأطفال بشكل كبير ويدركونها ويتحسرون منها، ومنهم من يشكو هذه الإساءة للكبار، والكثير من الأطفال يضمرها في نفسه فتزيد من أثرها عليه. ولابدّ أن ندرك أنّ الأطفال على اختلاف أعمارهم، تنقصهم الخبرة والمعلومة التي تتوفر للكبار مما يجعلهم يرتكبون الكثير من الأخطاء، وهذا يتطلب حكمة وصبراً من الكبار في التعامل معهم، مع أهمية مراعاة عدم رفع مستوى التوقعات التي يمكن أن يقوم بها الأطفال أكثر من قدراتهم، سواء في مستواهم العقلي والمعرفي أو التربوي، مما يتطلب توقع النقص فيما يصدر عنهم، وتلافي الإساءة إلى الأطفال لخطأ يقومون به لقصورهم. التربية النبوية: تجلَّت خلال السيرة النبوية، والتوجهات القرآنية عدد من السمات والملامح التي ظهرت من خلالها الرؤية الإسلامية في كيفية صياغة شخصية الطفل وطرق تحديد المسار التربوي لتنشئته. فقد يخطئ الأبوان عندما يظنان أنّ العملية التربوية تعني الصرامة والحزم مع الطفل، والتي تعني حرمان الطفل من طفولته وشخصيته التي جبله الله عليها، كما أنها لا تعني اللين والرخاء المجرد من المسؤولية، وإنما العملية التربوية، بدرجة كبيرة، يجب أن تكون وفق المنهج النبوي الذي يعني فهم المرحلة وامتلاك القدرة على التوازن بين طبيعة المرحلة وبين الأسس الدينية والفكرية التي تضمن نجاح العملية التربوية على المدى البعيد وعدم انحرافها وانجرافها أمام رياح التغيير. - وأهم أسس التربية النبوية: 1- النزول إلى مستوى الطفل: والتحدث إليه بلغته وطريقة تفكيره، فالطفل بحاجة إلى عقلية تتماهى مع ما لديه من قدرات وتفهم الميول النفسية التي غرسها الله في شخصيته. فالعملية التربوية القسرية لا تنجح مع الطفل، وإنما هو بحاجة إلى توجيه بسيط وهادئ ينسجم مع فكره وسنه. ويقول رسول الله (ص) في كلمة رائعة: "من كان عنده صبي فليتصابي له"[7]. ويتخطى الرسول هذا التوجيه النظري إلى المنهج السلوكي والعمل من خلال سيرته وطريقته مع الأطفال، ففي الحديث: "عن يعلي العامري أنه خرج من عند رسول الله (ص) إلى طعام دعي إليه فإذا هو بحسين (ع) يلعب مع الصبيان فاستقبله النبي (ص) أمام القوم، ثمّ بسط يديه، فطفر الصبي ها هنا مرة وها هنا مرة. وجعل رسول الله يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه، ووضع فاه على فيه وقبّله"[8]. وهذا يقودنا إلى رسالة أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبعثها إلى أصحابه من خلال هذا الموقف الرائع والمؤثر: أوّلاً: إنّ التصابي للطفل من أقصر الطرق للوصول إلى قلب الطفل وكسب وده ومحبته. ثانياً: إنّ اللعب مع الأطفال لا يخل بشخصية الرجل ولا ينزل من قيمته ومكانته الاجتماعية، وإنما هي دلالة على وعيه وسعة إدراكه، وهو بذلك يؤسس نظرية تربوية في العلاقة بين الكبير والصغير قائمة على المودة والمحبة. ثالثاً: عن مراعاة نفسية الطفل وعدم خدشها مسألة هامة، حتى لو كان على حساب تأثير موعد أو دعوة، فالكبير يمكن أن يتفهم، أمّا الطفل فهو نفسية شفافة وحساسة ينبغي مراعاتها، وإعطائها حقها من الطفولة والفهم والإدراك. ويكاد التربويون يجمعون على أنّ الحب والعطف من أهم دعائم وأساسيات التربية، فإنّ الحب يتمثل في الحنو على الطفل وإن كان صغيراً ضعيف الإدراك قليل الفهم، إلا أنه يعي البسمة الحانية، ويدرك الغضب ولا يمكن أن يتعلم الطفل الرحمة والحنان والعطف إذا كان والداه يقسوان عليه ولا يرحمانه ومن هنا جاءت شريعتنا الإسلامية السمحاء لتجعل رحمة الطفل وحبه حقّاً له على والديه والمسؤولين عنه، فقد روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله (ص): "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا"[9]. 2- أن يكون للطفل شخصيته: ولا يتحقق ذلك إلا بغرس الثقة في داخله، وتعزيزها، حيث المرء يقاس بعمله وإنجازه. ومن هنا كان توجيه النبي (ص) لفاطمة ابنته بقوله: "بنية.. لا يخدعك الناس، يقولون ابنة محمد.. فإني لا أجزيك من الله شيئاً". فهو يحذر من الانجرار وراء الكلمات الرنانة، وجعلها عائقاً أمام بناء الشخص لذاته، وصنع مجده الخاص، الذي هو وحده الذي يستحق عليه الثناء والمدح. 3- الرؤية المستقبلية: والرسول (ص) يؤكد هذا المعنى في تشخيص معالم التربية العامة، وتحديد آفاقها المستقبلية، فأنت أيها الأب تحدد النتيجة التي ترجوها، وبقدر ما تعمل تجد النتائج، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "رحم الله والدين أعانا ولدهما على برّهما"[10]. وقال في حديث آخر لبعض أصحابه: "رحم الله من أعان ولده على برّهما"[11]. وقال لبعض أصحابه في حديث آخر: "رحم الله من أعان ولده على برِّه. قلت: كيف يعينه على برِّه؟! قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه ولا يخرق به"[12]. 4- إعطاء الطفولة حقها: حدث ذات يوم كان النبي (ص) يصلي في فئة من الناس والحسين صغيراً بالقرب منه، فكان إذا سجد جاء الحسين (ع) فركب ظهره، ثمّ حرك رجليه وقال: حل، حل! فإذا أراد رسول الله (ص) أن يرفع رأسه أخذه فوضعه إلى جانبه، فإذا سجد عاد على ظهره، وقال: حل حل!، فلم يزل يفعل ذلك حتى فرغ النبي من صلاته. فقال يهودي: يا محمد إنكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن. فقال النبي: لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان. حينئذ قال اليهودي: فإني أؤمن بالله. فأسلم لما رأى كرمه مع عظم قدره[13]. ومن الأمور المهمة التي يسهم بها هذا النوع من التعامل مسألة تعزيز الثقة بالنفس التي تتكون لدى الطفل في الغالب خلال هذه الحقبة السنية، فالتصادم الدائم مع الطفل يولد لديه الإحجام النفسي، والتشوش الذهني عن مفهوم الصح والخطأ، وربما التردد الدائم في كل خطوة في حياته. ولبناء هذا النوع من الثقة كان الرسول (ص) يفتح قناة بينه وبين مرحلة الطفولة بغرض تعزيز وتشييد هذه الثقة لديها. يقول أنس: إنّ رسول الله (ص) مرّ على صبيان فسلم عليهم وهو مغذ – أي ماش مسرعاً"[14]. ونجد في أحاديث النبي كثيراً من التوجيهات التربوية الرفيعة مثل: "الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة"، و"خير بيوتكم بيت فيه يتيم تحسن إليه، وشر بيوتكم بيت يساء إليه"، "من عال يتيماً حتى يستغني عنه أوجب الله له بذلك الجنة"، و"جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: ما قبلت صبياً قط. فلما ولّى، قال النبي (ص) هذا الرجل عندنا من أهل النار"، و"نظر الوالد إلى ولده حبّاً له عبادة"، و"أكثروا من قبلة أولادكم، فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة"، و"أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم فوفوا لهم، فإنّهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم". وكان يقول (ص) "إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز". وجاء في حديث آخر "كان النبي (ص) إذا أصح مسح على رؤوس ولده". وقال: "إنّ الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم حتى في القبل"، ويقول: "من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كالحامل صدقة إلى قوم محاويج". ثمّ يضيف الرسول (ص) قائلاً: "ويبدأ بالإناث قبل الذكور".وهكذا يهتم المسلم بتربية روح الطفل وتزكية نفسه وإكسابه الأخلاق الحسنة والحميمة، كما يقول الغزالي في إحيائه: "الصبي أمانة عند والده، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عوِّد الخير وعلِّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه وكل معلم له ومؤدب، وإن عوّد الشر وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له. وقد قال تعالى عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم/ 6)، ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من قرناء السوء"[15].
الهوامش:
[15]- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص79.
المصدر: كتاب أطفالنا.. وتربية عصرية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق