• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التاريخ والنظام السياسي

عادل عبدالرحمن البدري

التاريخ والنظام السياسي

 ◄لا يمكن وضع معيار أو مقياس للأُمّة بدون أن نحتكم إلى الوثائق والمذكرات للحكم بصلاحية هذا النظام أو ذاك.

ويقول أصحاب نظرية التطور التاريخي للنظم السياسية والدستورية: إنّ كلّ أمّة تتوالى وتتطوّر تطوراً طبيعياً طبقاً لظروفها الخاصة وبناءً على عوامل متعددة. وتؤدّي هذه النظرية فيما يرى بارتلمي Berthelmy إلى تقرير مبدأ هام: هو أنّ أفضل نظام حكم لشعب من الشعوب هو ذلك النظام الذي يُرى أكثر ملاءمة لدرجة تطوّر الشعب ومستواه من المدنية في زمن من الأزمنة، وبذلك يُعدّ أفضل نظام لحكم فرنسا مثلا قديماً هو النظام الملكي[1]. فالأنظمة الجمهورية مثلاً ونظم أخرى ديمقراطية كنظام الكومنولث والنظام الفيدرالي تعتبر غير عملية وذالت فائدة لحقب تاريخية معينة وهذا يعكس لنا أهمية التاريخ السياسي في البحث النظري. فالكومنولث Commonowealth، كنظام سياسي يعني رابطة بين دول متقاربة في الاتجاه قد يصل لتكوين اتحاد كونفدرالي، وهي غالباً علاقة تعتمد على الثروة والاقتصاد بينما تكون كلّ دولة مستقلّة استقلالاً تاماً، ومن أشهر هذه الروابط في عالمنا المعاصر الكومنولث البريطاني، وهو الولاء للتاج البريطاني. والكومنولث لفظ أطلق على الحكومة الجمهورية في انجلترا التي تشكلت في الفترة من عام 1649-1660م قبل أن يعود الحكم الملكي لها مرّة ثانية بأسرة استيورات. ويعني الكومنولث حرفياً الثروة المشتركة، ويرمز به إلى نظام سياسي اتحادي يقوم على استقلال كلّ عضو في انتمائه إلى جماعة معيّنة والعمل في اتحاد دفاعاً عن المصالح المشتركة للجماعة[2] قد لا يجد موقعاً في الخريطة السياسية المعاصرة، في حين أنّ الفيدرالية قد تجد لها موقعاً وقبولاً في التاريخ الحديث الذي يبحث عن أنظمة تتناغم مع تطلعات الأُمم. والفيدرالية Federalism هي أهم الكيانات الدولية المتحدة والمتوحدة والناجحة والمستمرة في النظام الدولي منذ قرون عديدة وحتى الآن، وهي تعني اتحاد وحدات أو ولايات مستقلّة أو دول مستقلة تحت سلطة سياسية واحدة في السياسة الخارجية والدفاع، على أن تبقى باقي السلطات في أيدي الولايات والتي تتمتع بالحكم الذاتي الكامل، وينظر إلى الهيكل الاتحادي بأنّه يسهم مساهمة كبيرة في الدفاع عن الحرية وحمايتها من ظهور الاستبداد المركزي. ويتم تقنين هذه الفيدرالية على شكل دستور أو معاهدة بين أطراف الفيدرالية حتى تتخذ الصفة القانونية الدولية أمام العالم، وقد تكون إحدى أطراف الفيدرالية عضواً مستقلاً بالأُمم المتحدة كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق وأهم النماذج الفيدرالية التي نشاهدها في عالم اليوم الولايات المتحدة الأمريكية ونيجيريا[3]. ولم يضع الإسلام نظاماً ثابتاً لنظام الحكم، فلم ترد في رواياتنا فرض نمط من شكل نظام الحكم الذي يتداول في لغة القاموس السياسي الحديث وإنما كان التأكيد على مبدأ العدالة، فالعدالة إذا حققها الملك أو رئيس الجمهورية أو الحاكم العسكري أو الأمبراطور هي المبتغاة[4]، فلم يطالب النبي (ص) والصحابة الأخيار والأئمة المعصومون والفقهاء من الأُمّة الانسياق في نظم سياسية معينة وإنما تحقيق العدالة والمساواة بين الناس هو مطلبهم، عملا بقوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58)، ففرض نظام سياسي باسم حكومة الله في الأرض والوقوف عنده وإلغاء الأنظمة الأخرى غير وارد في النظرية السياسية للإسلام. "إنّ الإسلام لم يفرض شكلاً من أشكال الحكم محدد التفاصيل الجزئيات فيجرفه الزمن بتبدلات أحواله ولا ترك الأمر مهملاً والجوّ فارغاً لتملأه المصالح والأهواء أو التقاليد المحلية الموروثة ولكنه فعل ما هو خير من الطريقتين، فقد قدّم للناس مبادئ عامة أثبتت تجارب البشرية في المجال الدستوري السياسي صلاحها، وقواعد عامة كانت خلال تطور الدولة في تاريخ البشر أهدافاً مثالية تتطلع البشرية إلى تحقيقها، وترك التفصيلات الجزئية والتطبيقات العملية التي يمكن أن تحتملها هذه المبادئ والقواعد لاجتهاد البشر حسب اختلاف أطوارهم وبيئاتهم وأحوالهم. إنّ هذه الأسس منها ما يقوم عليها بناء الدولة ونظام الحكم، ومنها ما هو قواعد يجب مراعاتها في قيام الدولة، حاكماً وشعباً، بوظيفتها وممارستها لها"[5]. وقد لمّح الإمام الرضا (ع) إلى دور الحاكم والحكومة المرادة والمطلوبة حين اعترض عليه جماعة من المتصوّفة بقولهم: إنّ الأُمّة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن، ويركب الحمار، ويعود المريض، فقال (ع): إنّ يوسف (ع) كان نبيّاً يلبس أقبية الديباج المزرّدة بالذهب، ويجلس على متكآت آل فرعون. ويحكم! إنّما يُراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق، وإذا حكم عدل، وإذا وعد أنجز، إنّ الله لم يحرّم لبوساً ولا مطعماً[6]. فالإشارة إلى أقبية الديباج ومتكآت آل فرعون، كناية عن رفاه الحاكم وسعة يده، كما أنّ شكل النظام السياسي الذي يقرأه الباحث من بين هذه المفردات ويُتراءى من بعيد لا يعني شيئاً في الرؤية الإسلامية. ولا يخفى بأنّ البحث التاريخي للدولة وتشكيلها من أغنى البحوث السياسية والقانونية وأكثرها جدلاً واضطراباً للباحثين، لغنى مفهومها وتشعبه وقدمه. وقد أشار السيد أحمد عبدالعلام لذلك بقوله: الدولة من الألفاظ التي تجاوز معناها الاصطلاحي تجاوزاً كبيراً معناها الأصلي المتّصل باشتقاقها والملاصق له، حتى أصبحنا نخشى من الإشارة إلى ذلك الاشتقاق أن يوهم خلاف ما يدلّ عليه المعنى الاصطلاحي وأن يتّجه بالباحث إلى سبل تنتهي إلى غير منفذ، فيتيه في ضروب التحوّل والتغير التي تشير إليها الكلمة في أصل مادّتها ومصدر اشتقاقها[7]. ويقول الأستاذ لؤي صافي: قد يثير استخدامنا لمصطلح الدولة للإشارة إلى البنية السلطوية للنظام السياسي تحفظات البعض لسببين: أوّلاً؛ لأنّ فقهاء السياسة المتقدّمين قد استخدموا مصطلحي الإمامة والخلافة للإشارة إلى السلطة السياسية، وتكاد كتاباتهم تخلو من ذكر مصطلح الدولة. وبالتالي فإنّ الاعتراض الذي يمكن أن يُثار في هذا الصدد أنّ استخدام مصطلح الدولة يؤدي إلى تفاوت في المصطلحات المستخدمة في التنظير السياسي الإسلامي عند القدماء والمحدثين وربّما أدّى إلى خلافات تصورية ومفهومية. ثانياً: قد يتحفّظ البعض على استخدام كلمة دولة بدلاً من إمام أو خلافة نظراً لأنّ مصطلح دولة برز إلى حيّز الاستخدام عقب انقسام الأُمّة الإسلامية إلى وحدات سياسية مستقلّة أو شبه مستقلّة نتيجة لضعف سلطة الخلافات المركزية للنظام السياسي الإسلامي[8]. فالدولة تمثل ظاهرة تاريخية، وفي ذات الوقت تمثل ظاهرة سياسية فمن حيث أنها تمتدّ في عمرها الزمني إلى أعماق التاريخ، وإلى عهود قديمة جدّاً من عمر الأُمم الإنسانية، تعتبر ظاهرة تاريخية. ومن حيث إنّها ظاهرة في المجتمع السياسي، بل هي خاصّته المميزة له عن المجتمعات البدائية البسيطة، تعتبر من هذه الناحية ظاهرة سياسية. وقد وقف الباحثون التاريخيون والسياسيون معاً عند تفسير هذه الظاهرة وتساؤلوا عمّا إذا كانت قد حدثت صدفة وبشكل عفوي، ودخلها المجتمع الإنساني دخولاً تلقائياً أم كانت عملاً سياسياً مقصوداً، عمدت إليه مجموعة الأفراد الذين شاركوا في المجتمع السياسي أو بعضهم. كيف حدثت ظاهرة الدولة؟ وكيف انساقت التجمعات الإنسانية إليها؟ وما هو تفسير ذلك؟ وكما يبدو من طبيعة هذه الأسئلة أنّ البحث حولها بحث تاريخي ولئن كانت فيه جنبة سياسية فهي أيضاً في التاريخ السياسي للأُمم[9].   الهوامش:
[1]- المدخل إلى التاريخ الإسلامي: 402. [2]- معجم مصطلحات عصر العولمة، ص150، رقم 893. [3]- معجم مصطلحات عصر العولمة، ص140، رقم 829. [4]- ينظر فصل القيم السياسية: العدل. [5]- محمد المبارك، نظام الإسلام الحكم والدولة: 35. [6]- بحار الأنوار 49: 275 وج70: 120 و78:354. [7]- دراسات في مصطلح السياسة عن العرب: 59. [8]- العقيدة والسياسة: 115.

[9]- صدر الدين القبانجي، المذهب السياسي في الإسلام، دار الأضواء بيروت: 66.

المصدر: كتاب معالم الفكر السياسي ونظرية الدولة

ارسال التعليق

Top