• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اصداء نهضة الحسين (ع).. تنمية للوعي السياسي

أسرة البلاغ

اصداء نهضة الحسين (ع).. تنمية للوعي السياسي

يتحدّث الحسين (ع) عن سبب خروجه من المدينة ورفضه للسلطة اليزيديّة وإعلانه للثورة على يزيد، ويُجيبُ على تساؤلاتِ الكثيرين، ويحدِّد هويّةَ الحركة، ومعالم الانطلاقة، واُسس المواجهة مع النظام الأموي الجـديد، ويعلنها للملا من الناس في رسالة وجّهها لاخيه محمّد بن الحنفيّة.
ويؤكِّد فيها أن تردِّي الاوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية للاُمّة، والاحساس بمسؤولية الاصلاح هي الّتي دفعته للتحرّك والخروج من المدينة لقيادة المقاومة ومجابهة الحاكم الأموي الجديد.
فقد جاء في نص الرسالة :
 "لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفْسِداً ولا ظالِماً، وإنّما خرجتُ لطلبِ الاصلاحِ في اُمّةِ جدِّي رسول الله (ص)، أريدُ أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسيرَ بسيرةِ جدِّي وأبي" .
فالإسلام يشترط في القائد الّذي يقود الاُمّة، ويمسك بزمام الاُمور أن يلتزم بقواعد القسط والعدل، ويحترم قوانين الشريعة وإرادة الاُمّة، ويلتزم بسيادة القانون، ويتجرّد عن حبّ التسلّط واستغلال المنصب وجعله طريقاً للاثراء والمتع واللّذات والاستئثار.
ويزيد كما يعرفه الحسين (ع) وتعرفه طبقات الاُمّة ليس له أهليّة القيادة ولا أخلاقية الإمامة، فهو شخصية خليعة ماجنة، جلّ اهتمامه اللهو واللعب، وجلّ اشتغاله بالنِّساء والخمور وملاعبة الكلاب والقردة وإنشاد الشعر وسباق الخيل وصيد البراري.
إنّ الاُمّة الاسلامية تعرف أنّ الإمامة والقيادة لا تكون إلاّ لرجل قدوة في عمله وخلقه واستيعابه لأحكام الشريعة وقوانيها، وإلاّ لمن توفّرت فيه الحكمة والحنكة السياسية، فكيف يسلم الحسين (ع) ابن بنت رسول الله (ص) وزعيم الاُمّة الّذي تعقد عليه آمالها، وترى في شخصيته القدوة والقيادة لها؟ لذلك رفض الحسين (ع) مبايعة يزيد وأعلن الثورة والمواجهة المسلّحة، وشرح في كتبه ومراسلاته مع الأقطار والأنصار سبب تحرّكه، ووضّح مبرّرات ثورته، ليفقههم بنظرته السياسية، وتحليله للأوضاع والظروف الّتي صنعتها أجواء التسلّط والانحراف والاستبداد.
فقد جاء في رسالته لأهل الكوفة يعرِّفهم بالمواصفات الّتي يجب أن يتصف بها الإمام لينِّمي وعيهم السياسي، ويعرِّف بشخصية القائد الّذي تجب له البيعة والطاعة:
"فَلَعَمْري ما الإمامُ إلاّ الحاكِمُ بالكتابِ، القائمُ بالقسطِ، الدائنُ بدينِ الحقِّ، الحابِسُ نفسه على ذاتِ الله".
وكتب كتاباً إلى زعماء البصرة وقادة الرأي والمعارضة فيها (رؤساء الاخماس) وهم: مالكُ بن مسمع البكري، والاحنفُ بن قيس، والمُنذِرُ بن الجارود، ومَسعودُ ابن عمرو، وقيسُ بن الهيثم، وعمرُو بن عبيد بن معمر، وأرسله مع أحد رجاله (سليمان، أبي رزين)، وجاء في هذه الرِّسالة:
"وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيِّه (ص)، فإنّ السنّةَ قد اُميتَتْ، والبِدْعَةَ قد اُحْيِيَتْ،  فإنْ تسمعوا قولي أهدِكُم إلى سبيل الرّشاد".
وهكذا يثبِّت الإمام الحسـين (ع) الاُسسَ والاُصولَ السياسية لنظرية الحكم، ويثبِّت قواعدها واُصولها القانونية في شريعة القرآن.
لقد كان الحسين (ع) ينظر لشؤون الدولة والسياسة وقضايا الاُمّة والقيادة والإمامة بمنظار القرآن، وكان يزيد ينظر إليها بمنظار الحاكم المتسلِّط، فقد كان الحسين (ع) يرى القـيادة أداة ووسيلة لوضع الاُمّة على طريق الهدى والصلاح، والعمل على تربية الإنسان، وبناء شخصيّته، وتنظيم الحياة وتطويرها نحو الخير والكمال.
فهو يرى الدولة الإسلامية دولة تقوم على أساس الإسلام، وتستمدُّ منه قوانينَها وتشريعاتها وقيمها الحضارية، ويرى أنّ أجهزة السلطة هي القوّة الحامية للمبادئ، والحارسة لأهداف الاُمّة، والموكّلة نيابة عنها بتطبيق القانون وإقامة العدل وتقديم الخدمات، وهي مسؤولة عن كل ذلك أمام الاُمّة وأمام الله سبحانه.
ومن خلال استقراء الكتب والحوار والخطب والمراسلات ودراسة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمرحلة الّتي عاشها الحسين (ع) نجد:
1 ـ الاستبداد والاستئثار بالسلطة، فقد نشأت طبقةٌ سياسية متميِّزة وحزبٌ عشائري متفرِّد، هو الحزب الأموي فاستأثر بالسلطة والمال والإدارة وحرم بقيّة أبناء الاُمّة، حتّى غدت الدولة حَكْراً للأمويين، وملكاً خاصّاً لهم.
2 ـ القتل والإرهاب وسفك الدماء.
3 ـ العبث بأموال الاُمّة والدولة ونشوء طبقة رأسمالية إلى جانب الفقر والحاجة في ذلك المجتمع، وعدم أهليّة كثير من المتحكِّمين لاشغال المناصب وتولّي المسؤوليات.
4 ـ الانحراف السلوكي، فقد بدأ الانحراف يدبّ في الحياة العامّة، ومظاهر الفساد الاجتماعي تظهر في سلوك الافراد والجماعة.
5 ـ غياب القانون وتحكّم المزاج والمصلحة الشخصية للحاكم والولاة بدل الشريعة والقانون في مواقع خطرة ومهمّة من حياة الاُمّة.
6 ـ نشوء طبقة من وضّاع الحديث والمحرِّفين لسنّة رسول الله (ص) والدّاسِّين عليها، ونشوء فرق كلامية،كالجبرية وغيرها، لتبرير السلوك السياسي للسلطة والدفاع عنها.
وقد حفظ لنا التاريخ أرقاماً ووقائع تشهد بانحدار المجتمع وتباعده عن كثير من قيم الإسلام وقوانينه، ومن يقرأ تلك الفترة بإمعان يجد أنّ ثورة الحسين (ع) كانت ضرورة تأريخيّة، وأنّ الظّروف والاوضاع المتردِّية هي الّتي أفرزت عوامل الثورة وأسبابها، وأنّ الحسين (ع) لم يجد مَناصاً مِنَ التحرّك والثورة، فلنأخذ مثلاً على ذلك الوضع الأمني، والامن الاجتماعي الّذي ثبّتَهُ الاسلامُ بقوله:
(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا ا لْبَيْتِ * ا لَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفِ ) (قريش/3-4) 
(مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي ا لاَْرْضِ فَكَأَ نَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَ نَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُم بَعْدَ ذلِكَ فِي ا لاَْرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) (المائدة/ 32)
وقد تدهور وانحطّ الوضع الأمني إلى درجة الابادة والارهاب. فقد سلّط الحزُب الحاكم سيفَهُ وسوطَهُ وسجونَهُ ودعايتَهُ على الاُمّة رقاب وخصوصاً أتباعَ أهل البيت، وزعماء المعارضة من أنصار الإمام عليّ والحسن والحسين (ع). فقد وصف أحدهم تلك الظّروف الارهابيّة، مخاطباً أصحابَهُ ومذكِّراً لهم بالمحنة:
"إنّكم كنتم تُقْتَلُونَ وتُقْطَّعُ أيديكُم وأرجلُكُم، وتُسْملُ أعينُكُم، وتُرفعونَ على جذوع النّخلِ في حُبِّ أهلِ بيت نبيِّكم، وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعةِ عدوّكم".
وقرّر معاوية بن أبي سفيان استئصال زعماء المعارضة وقادة الرأي من أتباع أهل البيت وأعوانهم، فقتل منهم جماعات لم يُحصِها التأريخُ بشكل دقيق وواضح إلاّ إنّنا نذكر بعضاً منهم أمثال: حُجر بن عَدِي، وهو صحابي جليل: "وصفه الحاكم في المستدرك أنّه راهب أصحاب محمّد (ص)".
واستنكر الامام الحسين بن عليّ (ع) قَتْلَ هذا الصحابي الجليل، وَقَتْلَ أصحابه، وجاء ذلك الاستنكار، في إحدى الرسائل الّتي كتبها الحسين (ع) إلى معاوية بن أبي سفيان، كما جاء فيها تعريف ووصف لتلك الشخصيات السياسية الصالحة:
قال الإمام الحسين في رسالته:
"أ لَستَ القاتِلَ حُجراً أخا كندة، والمصلِّين العابدين، الّذين كانوا يُنكرون الظّلمَ، ويَستعظمون البِدَعَ، ولا يخافونَ في اللهِ لومةَ لائم؟ قتلتَهُم ظُلْماً وعُدواناً من بعد ما كنتَ أعطيـتَهُمُ الإيمـانَ المغلّظة، والمواثيق المؤكّـدة (يشير إلى المادّة الخامسة من معاهدة الصّلح) أنْ لا تأخذَهُم بِحَدَث كانَ بينكَ وبينهم، ولا بِإحْنَة تجدها في نفسك عليهم".
وكان معاوية قد قتل مع حجر بن عدي جماعة من أصحابه لاعلانهم المعارضة لحكومة معاوية، والولاء للإمام عليّ وبنيه (ع)، وهم:
1 ـ شريك بن شدّاد الحضرمي.
2 ـ صيفي بن فضيل الشيباني.
3 ـ عبدالرّحمان بن حسان العنزي.
4 ـ قبيصة بن ضُبيعة العبسي.
5 ـ كدام بن حيان العنزي.
6 ـ محرز بن شهاب بن بجير بن سفيان بن خالد بن منقر التميمي.
وبالإضافة إلى هذه الطليعة من رجال المعارضة ممّن تحرّكوا مع حجر بن عدي وسيقوا معه إلى القتل، فقد قتل معاوية بن أبي سفيان شخصيات سياسية ورجالاً من المعارضة ممّن يوالون الإمامَ عليّاً (ع) وأبناءه وهم:
1 ـ عَمرُو بن الحَمْقِ الخُزاعي: وهو صحابيّ ومهاجر جليل القدر والمكانة عند رسول الله (ص)، قُتِلَ في الموصل وقُطِعَ رأسه، وحُمِلَ إلى دمشق، وكان رأسُهُ أوّلَ رأس في الإسـلام، يُنقلُ من بلد إلى بلد، ثمّ حمل رأسُهُ إلى زوجته الّتي كانت في سجن معاوية فقالت لرجال معاوية حين نظرت إلى الرأس، وقد اُلقي في حجرها، إمعاناً في إرهابها وتعذيبها بعد أن وضعت كفّها على جبينه وقبّلت فمه:
"غيّبتُموه عنِّي طويلاً، ثمّ أهدَيْتُموه إليَّ قتيلاً، فأهلاً به من هديّة غير قالِيَة ولا مَقلية".
2 ـ عبدالله بن يحيى الحضرمي وأصحابه.
3 ـ رشيد الهَجَري، وقد قُطِعَت يداه ورجلاه وهو حي.
4 ـ جويرية بن مسهر العبدي.
5 ـ أوفى بن حُصن، وهو أوّل قتيل قتله زياد بالكوفة أثر حوار وقع بينهما، وكان قد سأله عن عثمان ومعاوية فأجاب أجوبةً مَرضيّةً عند زياد، ثمّ سأله فما تقول فيَّ؟ قال:
"بلغني، أنّك قلتَ بالبصرة: والله لاخذنّ البريءَ بالسقيم، والمُقبلَ بالمُدبِرَ، قال: قد قلتُ ذاك: قال: خَبَطْتُها عشواءَ، فقال زياد: ليس النفاخ بشرِّ الزّمرة فَقُتِل".
ونقل إلينا ابن الاثير صوراً تاريخيّة دامية عن أحداث ووقائع وقعت في البصرة بعد الصلح بين الحسن (ع) ومعاوية قال:
"فلمّا استخلف زياد سمرة على البصرة أكثر القتل فيها، فقال ابن سيرين: قتلَ سمرةُ في غيبةِ زياد هذه ثمانية آلاف، فقال له زياد: أتخافُ أنْ تكونَ قتلتَ بريئاً؟ فقال: لو قتلتُ معهم مثلهم ما خشيتُ. وقال أبو السواري العدوي: قتل سمرةُ مِن قومي غداةً واحدةً سبعةً وأربعين كلّهم قد جَمَعَ القرآن".
هذه صور دامية من صور تلك الفترة التاريخية، تحكي لنا عن طبيعة السلطة وأسلوبها في التعامل مع أبناء الاُمّة، ومع قوى المعارضة سواء الّتي كانت توالي أهل البيت أو الّتي تتحرّك بشكل مستقل ضدّ السلطة الحاكمة.
ونقل المؤرِّخون صوراً دعائية مضادة ومعادية للمعارضة الّتي كان يقودها الحسن والحسين (ع) سبطا رسول الله محمّد (ص)، وخُطباً استفزازية كانت السلطة المركزية قد تبنّتها، فقد تبنّى الحزب الأموي تشويه شخصية الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) وشنّ حملة تضليلية ضدّه، وإعلان سبّه والنّيل منه على منابر الجمعة والجماعة، فأثارَ هذا العمل مشاعر الاُمّة بشكل عام، والحسن والحسين وأنصارهم والصّحابة التابعين الّذين عرفوا فضل الإمام عليّ ومقامه وجهاده وعدله وعلمه وأدبه، بشكل خاص.
فقد نقل المسعودي حادثة جرت بين معاوية وسعد بن أبي وقاص تصوِّر تبنِّي معاوية لهذه الخطّة الدعائية، ورفض طلائع الاُمّة وأخيار الصحابة لها. قال:
"وحدّث أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، عن محمّد بن حميد الرّازي، عن أبي مجاهد، عن محمّد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، قال: لمّا حجَّ معاوية طافَ بالبيت ومعهُ سعد، فلمّا فرغَ انصرف معاوية إلى دار النـدوة، فأجلسه معه على سريره، ووقع معـاوية في عليّ وشرع في سبِّه، فزحف سـعد ثمّ قال: أجلستني معـك على سريرك ثمّ شرعت في سبِّ عليّ (ع)، والله لان يكون فيَّ خصلة واحدة مِن خصال كانت لعليّ أحبّ إليَّ مِن أن يكون لي ما طلعتْ عليه الشمس، والله لان أكونَ صهراً لرسول الله (ص) وأنّ لي من الولد ما لعليّ أحبّ إليَّ مِن أنْ يكونَ لي ما طلعتْ عليه الشمس، والله لان يكون رسول الله (ص) قال لي ما قاله يوم خيبر: (لاعطينّ الرّاية غداً رجلاً يُحِبُّهُ اللهُ ورسولُهُ، ويُحِبُّ اللهَ ورسولَهُ، ليسَ بِفَرّار، يفتحُ اللهُ على يديه) أحبّ إليَّ مِن أنْ يكون لي ما طلعتْ عليه الشمس، والله لان يكون رسول الله (ص) قال لي ما قال له في غزوة تبوك: (ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أ نّه لا نبيّ بعدي) أحبّ إليَّ مِن أن يكون لي ما طلعتْ عليه الشمس، وايمُ اللهِ لا دَخلتُ لك داراً ما بقيتُ، ثمّ نهض".
ونقل ابن الأثير:
"وكان بُسْر بن أبي أرطاة عند معاوية فنال من عليّ، وزيد بن عمر بن الخطّاب حاضر، واُمّه اُمّ كلثوم بنت عليّ، فَعَلاهُ بالعصا وشَجَّه"..
وذكر أيضاً:
"ولمّا وُلِّيَ المغيرةُ الكوفةَ استعمل كثيرَ بن شهاب على الرَّي، وكان يُكْثِرُ سَبَّ عليّ على منبر الرَّي، وبقي عليها إلى أن وُلِّيَ زياد الكوفة فأقرّه عليها".
"وكان زياد قد جمع الناس بالكوفةِ ببابِ قصرِهِ يُحرِّضهم على لعنِ عليّ، فمن بيَ ذلك عرضَهُ على السيف".
وبقيت هذه الحملة ضدّ عليّ بن أبي طالب (ع) حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز فأمر بتركها وقام بتطهير الجهاز الحكومي القائم قبله.
ونقل المسعودي:
"وكان عمر في نهاية النُّسك والتواضع، فصرف عمّال مَنْ كانَ قبله من بني اُميّة، واستعمل أصلَحَ مَن قَدِرَ عليه، فسلك عمّالُهُ طريقتَهُ، وتركَ لعنَ عليّ (ع) على المنابر، وجعلَ مكانه، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/10).
وقيل بل جعل مكان ذلك: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل/90).
وقيل بل جعلهما جميعاً، فاستعمل الناس ذلك في الخطبة إلى هذه الغاية".
وإذا تركنا هذه الأسباب والعوامل الّتي أجّجت نار الثورة وحرّكت قوى المعارضة، والّتي كانت تدعو إلى تطبيق أحكام العدل والمساواة الّتي نادى بها الإسلام، واحترام إرادة الاُمّة، والالتزام الكامل بقيم الإسلام ومبادئه في الحكم والسياسة والتعامل مع الاُمّة.
إذا تركنا ذلك ودرسنا الاوضاع الاقتصادية، وكيف كان الجهاز الحاكم يعطِّل قوانين التوزيع الاقتصادي الّتي نادى بها الاسلام؟ وهي قوانين تنصُّ على المساواة في العطاء وتحريم الاحتكار ووجوب الكفالة والضّمان الاجتماعي للطبقات الفقيرة ومكافحة الفقر،  سنجد حافزاً ومحرّكاً قويّاً للثورة والتحرّك، حرّك جماهير الاُمّة وحفّزها للاستنجاد بالحسين (ع) والتوجّه نحوه وهو الحافز الاقتصادي بالإضافة إلى الحافز الأمني والسياسي والحوافز الاُخرى.
فقد شعرت الطبقات الضعيفة بضياع حقوقها وانتشار الفقر بين صفوفها، في حين تتكدّس الثروة بيد فئة وطبقة معيّنة، والقرآن ينادي:
(وَا لَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَا لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم) (التّوبة/34)
(مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ا لْقُرَى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ا لْقُرْبَى وَا لْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ا لاَْغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ ا لْعِقَابِ ) (الحشر/ 7)
لقد وصفَ لنا التاريخ التركيب الاقتصادي لتلك الفترة من حياة المجتمع واضطراب موازين التوزيع الاقتصـادي فيه، فذكر أرقـاماً لثروة أفراد كانت تعتبر في تلك المرحلة ثروات طائلة.
ذكر مثلاً أسماء أشخاص استفادوا على امتداد الظروف السياسية الّتي خلقها توغّل الحزب الأموي في السلطة في فترة من عهد الراشدين وحتّى عهد يزيد.
فقد ذكر المؤرِّخون مثلاً:
"أنّ عَمْرَو بن العاص والي مصر في عهد معاوية بلغت ثروته من العَين ثلاثمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار، ومن الوَرق ألف درهم، وغلة مائتي ألف دينار بمصر،  وضيعته المعروفة بمصر بالوهط قيمتها عشرة آلاف ألف درهم".
"وأنّ عبدالرّحمان بن عوف قُسِّمَ ميراثه على ستّة عشر سهماً فبلغ نصيب كلّ امرأة له ثمانين ألف درهم".
"وحصل مروان بن الحكم على خمسمائة ألف دينار من موارد أفريقيّة".
"وحصل ابن العاص على هديّة مقدارها مائة ألف درهم".
"كما حصل عبدالله بن خالد بن أسيد على هديّة مقدارها أربعمائة ألف درهم".
"وقُدِّرت ثروة يَعلى بن منية بخمسائة ألف دينار وديوناً على الناس وعقارات غير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار".
"وسعد بن أبي وقّاص ترك يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم".
"وذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خَلّفَ مِنَ الذهبِ والفضّةِ ما كان يُكسَر بالفؤوس غير ما خَلّفَ مِنَ الاموالِ والضِّياعِ بقيمة مئة ألف دينار".
إنّ هذه الأرقام والإحصائيّات الّتي نقلها إلينا المؤرِّخـون كوّنت طبقة مُترَفة متميِّزة، وهي ليست هذا النفر وحسب، بل هذه نماذج من الوضع الاقتصادي الّذي بدأ يفرزُ طبقتين في المجتمع الاسلامي، طبقة فقيرة محرومة، وطبقة غنيّة ثريّة تملك الأموال والأراضي والعقار، فنمت هذه الثروةُ ووُرّثت، فأثار هذا الوضع الرأي العام الإسـلامي الّذي ألِفَ المسـاواة في التوزيع، وآمن بحركة المال وتحريم الكنز والاحتكار والطّبقية.
فكانت هذه الأوضاع الاقتصادية هي أحد الأسباب الّتي أجّجت نار الثورة، وجعلت الطبقات المحرومة ومَن ينادون بالمساواة يتّجهون إلى الحسين (ع)، باعتباره القائد الّذي يستطيع أن يطبِّق أحكام الاسلام وقوانينه كما ألفوها أيّام رسول الله (ص).

ارسال التعليق

Top