• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

البيئة الإقتصادية.. الأداء والإستدامة

د. سالم توفيق النجفي

البيئة الإقتصادية.. الأداء والإستدامة

لابدّ من مدخل مفاهيمي للبيئة قبل تحليل تأثيرها في أوضاع الأمن الغذائي العربي. يشير المسار العام للمتضمنات البيئية إلى مجموعة النظم الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والثقافية التي وضعت لتنظيم الحياة الراهنة والمستقبلية، وللسيطرة على الطبيعة. وقد يحدث التلوث البيئي من جراء أنشطة مختلفة، ولا سيما الأنشطة الاقتصادية، ويختلّ التوازن الطبيعي للبيئة عند التعرض للمكونات البيئية، مثل إزالة الغابات وارتفاع درجات الحرارة وتلوث المياه والتصحر وتنامي انبعاث الغازات إلى غلاف الكرة الأرضية؛ إذ تشكل هذه المتغيرات مصفوفة معقدة من القيود والمحددات أمام التوازن الطبيعي للبيئة، ولا سيما إذا كان تأثير معطيات هذه المصفوفة من المتغيرات البعيدة الأمد[1].

وغالباً ما يرتبط مفهوم الأمن الغذائي بمفهوم "التنمية المستدامة". ويشير مفهوم الاستدامة إلى عدم انخفاض الأصول البيئية المهمة، كما تعرّف الاستدامة بأنها المخزون الشامل لرأس المال الطبيعي، ويجب ألا تؤدي العمليات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية إلى خفض الأصول البيئية التي تدعم الحياة. وإذا كان الخفض ضرورياً، فإنّ من الشروط الضرورية أيضاً أن يتم التعويض عن خسارتها من خلال إعادة بناء رأس المال الطبيعي[2]. بمعنى آخر، التنمية المستدامة هي الحالة التي لا يشهد فيها خزين رأس المال الطبيعي انخفاضاً وتدهوراً أو تآكلاً مع الزمن، ومن ثمّ يؤثر ذلك في إمكانات إنتاج الغذاء واستدامته.

في ضوء هذا المفهوم، وللحفاظ على مستويات مرضية من إنتاج الغذاء، فإنّه يمكن التصرف برأس المال الطبيعي وفق سياسة توصف بـ"السياسة البيئية"، كمثيلتها من السياسات المالية والنقدية، ويتم تنظيمها وفقاً لقواعد وأساليب تراكم رأس المال الطبيعي، وأسلوب استثماره وتنميته من أجل المحافظة على نصيب وحقوق الأجيال القادمة من هذا رأس المال، الأمر الذي يقتضي من السياسات الاقتصادية إعادة تحديد مفهوم الحسابات القومية في ظل احتساب "القيمة المضافة" بحيث يصبح نظام الحسابات المذكورة معدلاً بيئياً[3]. وهذا الوضع يحفظ الإمكانات الطبيعية التي تساعد على تعظيم حال الأمن الغذائي للأجيال القادمة، دون استنزافها أو تدهورها من قبل الأجيال الحالية؛ إذ غالباً ما تؤدي السياسات الاقتصادية غير الرشيدة إلى تدهور قاعدة الموارد الزراعية، سواء من حيث تعرية التربة وتملحها وتصحرها، وكذلك الاستخدام غير العقلاني للموارد المائية، الأمر الذي يؤثر بمجمله في تدهور التربة وتقييد إمكانات التوسع في إنتاج الغذاء من جانب، فضلاً عن أن تزايد السكان في ظل تناقص الأراضي الصالحة للزراعة جراء تدهور قابليتها الإنتاجية، يدفع المزارعين إلى البحث عن أراض جديدة للحصول على قدر من الغذاء بعيداً عن استخداماتها الاقتصادية من جانب آخر.

وقد شهد منتصف عقد الثمانينيات إعالة 850 مليون إنسان باستخدام الأراضي الجافة. ويعاني ما يقرب من 230 مليون من هؤلاء استخدام أراض تتسم بالتصحر الشديد[4]، وغالباً ما تكون إنتاجيتها الزراعية دون الحدية، وهو ما يشير إلى أنّ حالة الجوع والفقر قد تدفع البعض من أفراد المجتمع إلى استخدام جزء من قاعدة الموارد الزراعية بصورة بعيدة عن المفاهيم والقواعد الاقتصادية، ويترتب على ذلك تدهور حال هذه الموارد وتباطؤ قابليتها الإنتاجية. ولا تقتصر المشكلة على هذا النمط من الاستخدام من قبل الأفراد من ذوي الدخل المنخفض، بل إنّ الأكثر مساهمة في تدهور البيئة يتأتى من الأنشطة الإنتاجية الرأسمالية الواسعة والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتوصف هذه الحالة بـ"فشل السوق" للحفاظ على البيئة.

ويظهر هذا الفشل في عدم قدرة آليات الأسعار على تأدية وظائفها في توجيه الموارد الزراعية وفقاً لمفهوم الإنتاج الزراعي المستدام، وبذلك يظهر التناقض بين المنافع الحدية للأنشطة الخاصة ونظيرتها المجتمعية، ومن ثمّ لا تعكس أسعار الغذاء في السوق بدقة المنافع والتكاليف الاجتماعية الحدية، الأمر الذي يقود أيضاً إلى الاضطراب في بنية السوق العالمية، إذ تلتقي في السوق المذكورة سلع تختلف في أسلوب إنتاجها، فالبعض منها قد تمّ إنتاجها وفقاً للمفاهيم والقواعد الاقتصادية والاجتماعية، وأخرى تمّ إنتاجها خارج هذه القواعد، مستفيدةً من الموارد البيئية المحلية. وهكذا يظهر الاختلاف في جدول تكاليف إنتاج السلعة ذاتها (القمح) في سوقين مختلفتين، في حين إنها تباع في سوق عالمية واحدة، وهو ما يخلق تشوهات في مبادئ التجارة الخارجية وقواعدها.

وترتبط هذه المسألة بتقلص الإمكانات المستقبلية لإنتاج الغذاء من جراء التدهور وتناقص تراكم رأس المال الطبيعي دون تعويضه، سواء من خلال الضرائب على استخدامات الموارد البيئية أو من خلال الوصول بقيمة الناتج الحدي لتلك الموارد إلى مستويات أسعارها الظلية (المحاسبية)، وهو ما يطلق عليه آليات الأسعار السوقية. ومن هذا المنطلق، فإنّ فشل السوق في الحفاظ على رأس المال الطبيعي يقتضي التدخل للحفاظ على قاعدة الموارد البيئية، سواء عند مستواها الراهن أو تنميتها لأغراض استفادة الأجيال القادمة. وغالباً ما يعجز المجتمع المدني في البلدان العربية عن تقييد هذا التدهور، سواء نتيجة عدم كفاءة تنظيمات هذا المجتمع أو عدم قدرته التساومية لتقليص الأضرار البيئية، ولذا يصبح للدولة الدور الرئيسي في هذا الشأن. ويواجه تدخل الدولة في البلدان العربية العديد القيود والعيوب من أجل حماية البيئة، منها افتقار تدخل الدولة في ترشيد الاقتصاد أو التخطيط له، إلى التوجه البيئي، وإخضاعه لاعتبارات قصيرة الأمد، وذلك في النصف الثاني من القرن الماضي. ولم يأخذ في الاعتبار التباين في الحاجات الرئيسية وفقاً للاختلافات البيئية، إذ تمتع معظم المناطق بإجراءات دعم متساوية وثابتة، بغض النظر عن الاختلافات البيئية بين المناطق الإقليمية المختلفة. كما لم تأخذ تلك السياسات في الاعتبار الأضرار التي تواجه القطاعات غير الزراعية من جراء الإفراط في حماية المزارعين، ولا سيما نتيجة الإعفاءات الضريبية في الأمد البعيد[5].

وقد انعكس اهتمام السياسات في البلدان العربية بإجراءات حماية البيئة في قيمة الرقم الدليلي للأداء البيئي (EPI)[6]؛ إذ جاءت تونس، أكثر البلدان العربية اهتماماً بالأداء البيئي، في الترتيب 59، في حين جاء ترتيب موريتانيا 146 ضمن دول العالم، وتوزّع باقي البلدان العربية بين الترتيبين المذكورين (كما موضح في الجدول)، وتراوحت قيمة دليل الأداء المذكور بين 78.1 كحدّ أقصى في تونس، و44.2 كحدّ أدنى في موريتانيا. ويشير الجدول المذكور إلى أنّ قيمة هذا المؤشر تنخفض في البلدان المنخفضة الدخل والعراق (تحت الاحتلال). وبذلك، فإنّه يصف التدهور في الأداء البيئي واستنزاف الموارد البيئية، في حين كان هذا الأداء أفضل نسبياً في بلدان المغرب العربي (باستثناء ليبيا) ومصر والأردن ولبنان وعُمان والسعودية عام 2008[7]. إذا انحصرت قيمة هذا المؤشر في البلدان المذكورة بين 70.1 و78.1، وبذلك ينحصر ترتيبها بين 59 و91 من دول العالم، وهو ما يعكس تواضع الاهتمام بالموارد البيئية مقارنةً بالمجموعة الخمسين الأولى من دول العالم.

ولم يكن مؤشر "دليل الاستدامة البيئية" (ESI) بأفضل من نظيره السابق، ولا سيما أنّه مرتبط به إلى حدٍ بعيد. ويعكس الدليل المذكور مدى قدرة السياسات الاقتصادية على الحفاظ على رأس المال الطبيعي مع الزمن؛ إذ لم تتجاوز قيمته 51.8 في تونس، وجاء ترتيبها الدولة 55 من بين دول العالم، وتعدّ الأولى على الصعيد العربي، في حين تراجعت قيمة المؤشر المذكور إلى 33.6، و35.9 و37.3 في كل من العراق (تحت الاحتلال) والسودان واليمن على الترتيب ، إنّ أكثر البلدان العربية استنزافاً لمواردها البيئية هي البلدان الثلاثة المذكورة، فقد جاء ترتيبها بالتسلسل 143، و140، و137 من بين دول العالم عام 2005.

وجدير بالذكر أنّ انخفاض قيمة مؤشر الاستدامة البيئية يعكس التآكل في رأس المال الطبيعي، وعندما تتزامن قيمة هذا المؤشر مع نظيرها "الأداء البيئي"، كما في البلدان المنخفضة الدخل، فإنّ معالجة الإضرار في مسألة أمن الأجيال القادمة غذائياً تصبح أمراً صعباً مع الزمن، إذ أنّ الاستفادة الراهنة من قاعدة الموارد البيئية تكون أكبر على صعيد المنشأة الزراعية الخاصة، وبذلك يظهر التدهور البيئي وتتنامى التكاليف الاجتماعية بوضوح في المستقبل المنظور، من خلال القدرة على استدامة إنتاج الغذاء، وهو الأمر الذي انعكس في التنافس على "رغيف الخبز" في مصر عام 2008؛ فقد بلغ ترتيبها وفقاً لدليل الاستدامة البيئية 115 بين دول العالم، في حين لم تتجاوز قيمة المؤشر المذكور 44.0 في عام 2005.

وعلى الرغم من أنّ رغيف الخبز كان من السلع الغذائية الرئيسية المتاحة في سنوات القرن الماضي، فإنّ تزايد السكان وعدم الاهتمام بالبيئة الزراعية، وتراجع قدرة الدولة الاستيرادية من الغذاء، كل ذلك ترتب عليه تنامي فائض الطلب على العديد من السلع الغذائية وفي مقدمتها "رغيف الخبز"، ليس في مصر فقط، وإنما في معظم البلدان العربية المنخفضة الدخل. وجدير بالذكر أن توافره في البلدان العربية الأخرى لا يعني الاهتمام بقاعدة الموارد البيئية، إنما يتأتى من تزايد القدرة الاستيرادية للغذاء (الحبوب)، ولا سيما في البلدان العربية المرتفعة الدخل (النفطية)، إلا أنّ البلدان الأخيرة أكثر تعرضاً للآثار الضارة في مسألة الغذاء والناجمة عن الصدمات الاقتصادية أو المناخية، فدولة مثل العراق يعدّ فيها اثنان من كل ثلاثة أرغفة خبز مستوردة من خارج الوطن العربي منذ أكثر من ثلاثة عقود، وبذلك تعرض مستوى معيشة أفراد المجتمع إلى تقلبات واسعة، ويشكل معه خطراً متفاقماً على أوضاع الأمن الغذائي تصعب معالجته في الأمد القصير.

 

جـــــــدول

دليل الأداء البيئي ودليل الاستدامة البيئية في البلدان العربية

 

  البلدان دليل الأداء البيئي 2008   البلدان دليل الاستدامة البيئية 2005 EPI الترتيب ESI الترتيب تونس 78.1 59 تونس 51.8 55 الجزائر 77.0 66 عمان 47.9 83 الأردن 76.5 70 الأردن 41.8 84 مصر 76.3 71 الجزائر 46.0 96 السعودية 82.8 78 المغرب 44.9 105 المغرب 72.1 82 الإمارات 44.6 110 لبنان 70.3 90 مصر 44.0 115 عُمان 70.3 91 سورية 43.8 117 سورية 68.2 99 موريتانيا 42.6 124 الكويت 64.5 111 ليبيا 42.3 126 الإمارات 64.0 112 لبنان 40.5 129 السودان 55.5 129 السعودية 37.8 136 العراق 53.9 135 اليمن 37,3 137 جيبوتي 50.5 139 الكويت 36.6 138 اليمن 49.7 141 السودان 35.6 140 موريتانيا 44.2 146 العراق 33.6 143

الهوامش:

 

[1]- إياد بشير الجلبي، "التنمية الاقتصادية والبيئة بين فشل السوق والسياسة الاقتصادية: دراسة في اقتصاد البيئة"، (أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة الموصل، كلية الإدارة والاقتصاد، 2003).

[2]- دوناتو رومانو، الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة "أبوظبي: وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي (المركز الوطني للسياسات الزراعيّة) بالتعاون مع مشروع التّعاون الإيطالي ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، 2002"، ص187.

[3]- الجلبي، المصدر نفسه.

[4]- اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، مستقبلنا المشترك، ترجمة محمد كامل عارف، عالم المعرفة؛ 142 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1989)، ص188-192.

[5]- المصدر نفسه، ص196-197.

[6]- يشير الترتيب العالي للأداء البيئي في البلدان العربية إلى ارتفاع قدرتها على السيطرة على تلوث المياه والهواء والعناصر الأخرى من البناء التحتي البيئي، أما البلدان ذات المستوى المنخفض من الترتيب المذكور فإنّه يشير إلى ضعف النظام السياسي وعدم قدرته على الاستثمار في الأنشطة البيئية.

[7]- http://sedac.ciesin.colmbia.idu/es/epi/papers/2008EPI_rankingsandscores_23Jan08.pdf.

المصدر: كتاب الأمن الغذائي العربي..  مقاربات إلى صناعة الجوع

ارسال التعليق

Top