• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأخلاق.. سلوك ومعرفة

محمّد العربي الخطابي

الأخلاق.. سلوك ومعرفة

الأخلاق اسمٌ جامع يُطلَقُ في لغةِ العرب على الفضائل والرذائل وكلِّ ما يصدر عن الإنسان في محيطه الاجتماعي من خيرٍ أو شرّ، من حَسَنٍ أو قبيح.

وقد أدّى تواتر النظر في سلوك الإنسان وطبيعته وأفعاله الإرادية والعفوية وتعامله مع الآخرين إلى نشوء علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق. فالعلمُ يُعنى أكثر شيءٍ بوصف أخلاق الذات محاولاً تصنيفها وتمييز المحمود منها والمذموم وبيان أصنافها وأثرها بحسب الأعراف المتواضع عليها في مجتمع ما وعصر ما. أمّا فلسفة الأخلاق فإنّها تذهب إلى ما هو أبعدُ من ذلك من حيث إنّها تُعنَى ببحث العِلَل والأسباب التي أجلها يُعدُّ هذا الخُلُقُ جميلاً أو قبيحاً مع محاولة تفسير ظواهر السلوك البشري في شتّى أوضاعه وتوجُّهاته، وذلك باستقراءِ النفس الإنسانية جُهدَ المستطاع والكشف عن خباياها ومعرفة تفاعل قُواها المختلفة التي حصرها الأقدمون في ثلاث: القوّة الشهوية، والقوّة الغضبية، والقوّة النطقية، وهو ما يُمكن تلخيصه بلغة عصرنا في هذه الكلمات؛ تنازعُ العقلِ والغرائز وما يترتّب عليه من نتائج سلبية أو إيجابية تطبع سلوك الفرد وأخلاق المجتمع في عصرٍ من العصور.

عُني حكماءُ الإسلام بمسألة الأخلاق وكان مَدَدَهم في ذلك روحُ الشريعة أوّلاً، ثمّ ما تأدّى إليهم من التراث اليوناني ومن حكمة الفُرس والهند، مع مراعاة أحوال عصرهم وتقلُّباته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وقد كان على هؤلاء الحكماء والدارسين أن يخوضوا في أبحاثهم المتعلّقة بعلم الأخلاق تجربة مثيرة فرضتها محاولةُ التوفيق بين مختلف تلك العناصر، وذلك أنّ النظام الخُلقي الإسلامي ينبني في أساسه على الوازع الدِّيني أي صوت الوجدان الذي يوجِّه صاحبه ويراقب سلوكه مع خالقه ومع نفسه وتجاه مجتمعه وفقاً لتعاليم القرآن والسُّنة النبويّة، وهما يقومان على دعامتين رئيسيتين: الإيمان والاستقامة وما يترتّب عليهما من اعتقاد وفعل واحتساب الأجر والثواب. والإيمانُ والاستقامة إنّما يتمّان بالتزام نهج التوحيد المطلق مع جملة من الفضائل العملية والإيجابية التي يعود نفعُها على صاحبها وعلى أفراد الجماعة كلّها، ومن هذه الفضائل: مراعاةُ الحقِّ والبرّ والعدل والأمانة والنصيحة والصدق في القول والعمل والإحسان والبذل في سبيل الصالح العام؛ وجماعُ ذلك كلّه التقوى التي هي قِوامُ الوازع الدِّيني ومقياسُ المفاضلة بين الناس.

والأخلاق الفاضلة لا تُلْمتمس - حسب المفهوم الإسلامي - لذاتها فقط، أي لأجل نَيلِ السعادة في الدنيا والآخرة، بل تُطلَب أيضاً بحُكمِ الواجب من حيث ترتبط بها مصلحة الجماعة ويتوقّف عليها تعاون أفرادها واستقرار أحوالها.

أمّا حكماءُ اليونان، ولا سيما سقراط وأفلاطون وأرسطو، فيذهبون - على وَجْه الإجمال - إلى أنّ المعرفة هي أُمّ الفضيلة، وهي الطريقُ إليها، وأنّ الفضائل يُمكن اكتسابُها من طريقِ المِران ومُغالبة الغرائز وإعمال الفكر، وأنّ الفضيلة هي مبدأ الكمال المُوَصِّل إلى السعادة والخير الأسمى، والرذيلة هي مبدأُ النقصان، وأنّ الحكمة هي جماعُ الفضائل كُلِّها من شجاعةٍ وعِفّةٍ وعَدْل، على أن لا يقع فيها إفراطٌ ولا تفريط، إذ الزيادة أو النقصان في كلّ فضيلةٍ يجعلها تنقلب إلى رذيلة؛ والسعادة التي هي ثمرة الفضائل إنما تُطلَبُ لذاتها ولما يحصُل عنها من لَذّةٍ ومعرفةٍ وخير.

وقد أخذ جلّ حكماء الإسلام بما تَقدّم من أفكار، وبَرع كثيرٌ منهم في التوفيق بينها وبين النظام الخُلقي الإسلامي.

 

- تعريف الأخلاق:

الرأيُ المتّفَقُ عليه بين الحكماءِ هو أنّ الخُلُق حالٌ للنفس داعيةٌ لها إلى أفعالها من غير فِكر ولا رَوِية؛ وقد يُفهم من هذا القول أنّ الخُلُق طبيعة راسخة في النفس، خاضعةٌ لمزاج الإنسان ونابعةٌ من فطرته الأولى يصدُر عنها بصفة عفوية بحيث يصعب أو يمتنع تغييرها، مع أنّ المذهب الإسلامي العام يقول بإمكان تغيير الأخلاق المذمومة واكتساب الفضائل بالتعلّم والممارسة.

ويبدو أنّه لابدّ لنا هنا من التمييز بين لفظ "الخُلق" - بصيغة الإفراد - و"الأخلاق" بصيغة الجمع. فالخُلق طبيعةٌ أولى ملازمةٌ للنفس يُفطر عليها الإنسان ويَصدر عنها كلُّ فردٍ في أفعاله. أمّا "الأخلاق" فهي جملة قواعد السلوك المُتعارف عليها في محيطٍ إنساني معين وامتدادٍ زمني محدود، وهذه القواعد تفترضُ أن يتكيّف معها الجميع بقدر الوسع لضورة انتظام أحوال الاجتماع الإنساني وجريانها على نسقِ مقبول، وهذا النسق هو الأصل في القوانين والأعراف والمواضعات الإنسانية. ومن هنا يتّضح لنا ما ذهب إليه الحكماءُ من أنّ الأخلاق منها ما هو طبيعيٌ متأصِّلٌ في فطرة الإنسان، ومنها ما هو مكتسبٌ وقابلٌ للتغيير بالتعوُّد وتكرار الفعل وملازمة تهذيب النفس وحملها على اقتناء ما يتعارف عليه الناسُ من فضائل ومحامد. ويُشبه أن يكون هذا الفهمُ قريباً من الرأي القائل بنسبية الأخلاق وقبولها للتغيير واختلافها باختلاف الأُمّم والحضارات والعصور.

ومع ذلك هل يمكن الجزمُ بوجود قيم خُلُقيةٍ ثابتة يُجمِع عليها الناسُ على اختلاف أجناسهم وحضاراتهم من غير أن يتغيّر النظر إليها بسبب تقلُّبات أحوال العُمران البشري وتعاقُب الأزمان وما يطرأ عليها من تحوُّلات سياسية واجتماعية واقتصاديةٍ، ومكتشفاتٍ علمية وتكنولوجية؟

ليس الجوابُ على هذا السؤال بالأمر الهيِّن، فنحن إذ نُسلّم بحصول الاتّفاق بين الشعوب التي لها نصيبٌ من المعرفة والحضارة على اعتبار الحكمة والحقّ والعدل والخير قيماً خُلقيةً وإنسانية ثابتة يَطمحُ إليها الناسُ ويُمجِّدونها حتى ولو لم يكونوا ملتزمين بها في حياتهم الخاصّة والعامّة، فإنّنا نجد مع ذلك اختلافاً ما في تفسير هذه القيم سواءٌ في مجال النظر الفكري أو في ميدان التطبيق العملي، وذلك بحُكم تأثير العقائد الدينية والتقاليد الاجتماعية وظروف المعاش ومستوى المعارف وما إلى ذلك. وكم كان (ول ديورانت) على حقّ حينما قال: "المُجتمع لا يقوم على المُثُلِ العليا بل على طبيعة الإنسان، أمّا مُثُلُه العليا فهي أشبه بمحاولةٍ لإخفاء طبيعته عن نفسه وعن العالم".

على أنّنا إذا نظرنا - مثلاً - إلى النظام الخُلقي الذي أقامته الشريعةُ على أُسس الإيمان والاستقامة وما ينبني عليها من توحيد عدل وإحسان وأمانةٍ وصدق وصبر وعفّة وبذل فإنّه يصعب على الباحث أن يتصوّر إمكان قبول أيِّ تغيير أو تبديل في هذه الدعائم الخُلقية، مهما تغيّرت الأزمانُ والأماكن لأنّها واردةٌ في أصول الشريعة، مع العلم بأنّ طابع الثبات هذا إنّما يبقى قائماً من الناحية النظرية عند أكثر الناس، أمّا من جهة الممارسة والفعل فإنّ تغيُّر العادات الحضارية وغلبة الأهواء والشهوات على طبائع البشر يُحدثان بمرور الزمن أثراً لا يُنكر بحيث يصير النظام الخُلقي المرسوم مُجرَّد مُثُلٍ سامية وقيم معنوية لا مكان لها في حيّز التطبيق، ومن هنا ينبغي التفريقُ بين المبادىء الخُلُقية والمعنوية المقبولة، نظرياً، وبين مظاهر السلوك المسايرة لسُّنة التطوّر والتغيُّر التي تُهيمن على سير التاريخ، مع أنّ الإنسان هو الإنسان بما جُبِل عليه، وما هو مركوز في طبعه ومزاجه من خيرٍ أو شرّ، ومن هنا نلاحظ أنّ الأصل الاشتقاقي لكلمة الأخلاق في اللغات الأوروبيةMorale Moers ، ترجع كلّها إلى مدلول العادات، والعادات محمولةٌ على التغير.

أنّ جلّة من العلماء المسلمين قد بحثوا مسألة الأخلاق وقوانينها بحثاً مستفيضاً يتّسم أحياناً بالطابع الوصفي التقريري أو بالتوجُّه الوعظي، ولكنّه لا يخلو من روح النقد والتحليل والغوص في أعماق النفس مع فهم لطبيعة الإنسان واعتبار للعوامل الاجتماعية والاقتصادية وسائر مظاهر العمران البشري.

لقد كان هَمُّ حكماءِ الإسلام فيما عانَوْه من النظر والبحث في مسائل الأخلاق مُنْصَبّاً على التوفيق - بقدر الإمكان - بين نهج الشريعة ومذاهب الفلسفة، وقد اتّفق رأيهم - جُملةً - على أنّ الفضائل لا تُطلَبُ لذاتها فحسب بل لما تؤدي إليه من انتظام أمور الجماعة واستقامة أحوالها، فالفضائل جميلةٌ ومحبَّبةٌ، ولكنها أيضاً واجبة في حقّ الفرد والجماعة، وثمرتُها نيلُ الخيرات والسعادة في الدنيا والآخرة: فخيرُ الدنيا طمأنينة النفس واستقرارُ الأحوال العامّة لمصلحة الجميع، وخيرُ الآخرة حصولُ الثواب والخلودُ في دار النّعيم.

 

المصدر: كتاب موسوعة التراث الفكري العربي الإسلامي/ ج1

ارسال التعليق

Top