إذا ما كان الدعاء تعبيراً عن إرادة في الرحيل، وفي نقض واقع، وإقامة آخر بديل عنه وأفضل منه، فهل يعقل أن يحدث ذلك بمعزل عن بعض ما هو حاصل، ودونما اعتماد على بعض المعطيات؛ التي من شأنها أن تكون خادمة للمشروع الذي يبشر به الدعاء ذاته؟ لا نظن أنّ شيئاً من ذلك يمكن أن يحدث إلا إذا اعتبرنا ما سيحدث مجرد شطحة وقفزة في الفراغ وتعلقاً بسراب، ونحن نربأ بالعقلاء عن ذلك إذ إنّ أعمالهم مبرّأة من العبث من جهة أولى، ولأننا لا نعرف في التاريخ تحولاً؛ لم يستفد من الأوضاع السابقة عنه، ولم يمدمج شيئاً منها في مشروعه إذ إنّ:
تجاوز + احتفاظ = التطوُّر
على حد تعبير الشيخ راشد الغنوشي من جهة ثانية.
وإنّ الاكتشافات الجديدة في كلِّ العلوم، ما هي إلا ثمار إعمال فكر الباحثين والعلماء فيما هو متاح لديهم من معارف، سواء بدفع المعطيات الحاصلة إلى نهاياتها، أو بإقامة الفرضيات والقيام بالتجارب المناسبة المفضية إلى تصديق هذه الفرضية أو تلك أو تفنيدها وما إلى ذلك، وهذا هو شأن الحياة في كلِّ المجالات، فلا تتولد مرحلة إلا من رحم التي سبقتها، واعتماداً على ما هو متوفر من الإمكانات الصالحة للتوظيف والقابلة للنماء والتوالد.
وهكذا نعلم أنّ المشروع المستقبلي الذي يبشر به الدعاء يمر حتماً عبر الوعي بالجوانب الإيجابية المتوفرة، وحسن الاستفادة منها، حتى يتسنى لها عند التقائها مع جهد الإنسان الصادق والمتواصل، إلى توليد المراد وإقامة صرحه الشامخ.
ولهذا السبب بالذات كان حمد الله على ما أتاحه للإنسان من نِعَم، يمثل مدخلاً ضرورياً، ومقوماً أساسياً من مداخل ومقومات الدعاء، كما جاء في الحديث النبوي "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله".
وإذ يقطع الإنسان مع جوانب السلب في واقعه من جهة أولى، ويحزم أمره مستفيداً من الجوانب الإيجابية مخصباً إياها بجده واجتهاده وشدة تعلقه بالرقي والنهوض بأوضاعه إلى ما لا نهاية له، من جهة ثانية؛ فإنّه يؤكد الأمور التالية:
أوّلاً: إصراره على أن يكون سيد نفسه ومصيره، جاعلاً منها صاحبة المبادرة فهو الذي يحدد وجهته ومهامه المرحلية الاستراتيجية.
ثانياً: الشجاعة الأدبية التي تجعله قادراً على الاعتراف بأخطائه وذنوبه، إذ بدون ذلك لن يتسنى له القطع مع جوانب البؤس في حياته.
ثالثاً: تمسُّكه الدائم بمسيرة الكدح الإنساني إلى الله والحرص على تمثل أسمائه سبحانه، والكفر بكلِّ المسارات التي تعرض عن هذا النهج التقدمي، أو تجعل أصحابها يتخاذلون في الطلب.
رابعاً: التزامه بالسلَّم المعياري للقيم الإسلامية؛ الذي يمثل الميثاق الذي يربط الناس فيما بينهم من جهة، والعهد الذي بينهم وبين الله من جهة ثانية.
خامساً: ثقته بجدوى سعيه الجاد على درب التجاوز للأخطاء السابقة، والنهوض لوعد الله بالعزة والتمكين والأمن والخير العميم في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة.
سادساً: وعيه بنسبية الجهود البشرية وثمارها، إذ هما مرتبطتان بقدر الاستطاعة، وهو ما يجعله يتفهم نسبية النتائج من جهة، ويحرص على بذل قصارى جهده من جهة أخرى.
سابعاً: الوعي بجوانب الخير والنعم المتاحة، وهو ما يفتح أمامه أبواب الاستمتاع بها، والرفع من نتائجها، وشكر الله على ذلك كلّه.
ونحن نجد هذه المعاني كلّها في دعاء أطلق عليه الرسول (ص) اسم سيد الاستغفار: "اللّهمّ أنت ربِّي لا إله إلّا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت".
المصدر: كتاب فلسفة الدعاء
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق