• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسباب أزمة الغذاء في العالم

المهندس عبدالحميد عبدالسّلام إرحيم

أسباب أزمة الغذاء في العالم

ثمة في العالم اليوم مليار ومائة مليون إنسان "أي سدس البشرية" يعانون الجوع وسوء التغذية. وحسب معطيات الأُمم المتحدة، فإنّ سبعة ملايين طفل يموتون سنوياً بسبب الجوع، أي 17 ألف طفل في اليوم، أي طفل واحد كلّ خمس ثوان! إنّه رقم مريع يصعب تصديقه، ولكنه مع الأسف الشديد حقيقي، يصفع بواقعيته كلّ ضمير حيّ.

إنّ ذلك يحدث في وقت يُنتج فيه في العالم ما يكفي لإطعام كلّ سكان الكوكب فنحن اليوم لا نعيش في عالم الندرة. إذ إنّ الثورة الصناعية بداية، ومن ثمّ الثورة العلمية المعرفية والتكنولوجية وتطبيقاتها في الميدان الزراعي، حررت المجتمع من "الندرة الاقتصادية"، وأزالت التناقض بين تزايد عدد السكان، وبين توافر الغذاء لإطعام الأعداد المتزايدة منهم. فقد بات الاقتصاد العالمي اليوم قادراً على إنتاج كميات من السلع والغذاء كافية لتأمين حاجات كلّ سكان العالم وإبعاد خطر الجوع عنهم. غير أنّ المشكلة لا تكمن فقط في الإنتاج وفي زيادة فعاليته، بقدر ما تكمن في التوزيع، التوزيع المتفاوت للموارد والثروات والإمكانات. إذ إنّ 10% فقط من ثروات حفنة من أصحاب المليارات في العالم، كافية لسد حاجات المليار فقير من الغذاء والمتطلبات الأولية لحياة كريمة.

تعتبر المشكلة الغذائية في العالم واحدة من المشكلات الكونية التي تواجهها البشرية جمعاء، لا بل ربما أكثرها حدة في عصرنا الراهن، كونها تمس مباشرة حياة وبقاء مئات الملايين من الناس. وتُظهر معطيات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأُمم المتحدة (الفاو) مدى حدة وحجم المشكلة الغذائية، حيث تشير هذه المعطيات إلى أنّ عشرات الملايين في العالم مهددون بالموت اليوم، بسبب الجوع والأمراض الناجمة عن سوء التغذية، في حين أنّ أكثر من المليار ونصف المليار إنسان يعانون الجوع ومن مختلف أشكال سوء التغذية، بما في ذلك ما يسمى سوء التغذية "غير المرئي" أو "الجوع الخفي". أي عندما تؤمن وجبات التغذية التقليدية الكمية الكافية من السعرات الحرارية، ولكنها لا تتضمن الحد الأدنى الضروري من البروتينات والدهون، ذات المصدر الحيواني خصوصاً، وكذلك العناصر الدقيقة، وثمة تقديرات تفيد بأنّ ربع أطفال البلدان النامية يعانون في الوقت الراهن "سوء التغذية غير المرئي". ومن الواضح أنّ نقص هذه المكونات الغذائية البالغة الأهمية ينعكس سلباً على صحة الناس، وينجم عنه انخفاض نسبي في نوعية وكفاءة اليد العاملة، التي تكون في الغالب غير صالحة للعمل في قطاعات الاقتصاد العصرية.

ثمّة جذور تاريخية عميقة لمسألة تأمين الغذاء لسكان الكوكب، فقد رافق النقص في المواد الغذائية البشرية على مدى تاريخها كلّه، الذي كان على الدوام تاريخاً للكفاح من أجل القوت. ونُسجت الأساطير حول الجوع. فعلى سبيل المثال، تتحدث أساطير هنود أمريكا اللاتينية عن آلهة الجوع. أما الأساطير اليونانية القديمة فتروي أنّه عندما فتحت "باندورا" العلبة التي أوكلتها إليها الآلهة، أفلتت منها كلّ العيوب البشرية والشرور، ومن بينها الجوع الذي انتشر في كلِّ أنحاء الكوكب.

إنّ وقوع الإنسان فريسة الجوع أو عدمه، يتوقف بالدرجة الأولى على "حقّه في الغذاء" أي على كمية الغذاء التي يمكنه الحصول عليها أو شرائها، وليس فقط على كمية المواد الغذائية المنتجة أو المتوافرة في البلد أو المنطقة التي يقطنها. أي بكلام آخر، لا يكفي أن ينتج البلد أو يقتني المواد الغذائية بكميات وفيرة حتى يزول الجوع فيه تلقائياً، بل الأهم من ذلك أن تكون هذه المواد الغذائية متاحة لأفراد المجتمع. وهذا يتوقف على توافر فرص العمل لهؤلاء الأفراد، وعلى قدراتهم الشرائية، وكذلك بالطبع على أسعار تلك المواد الغذائية.

في العصر الراهن تبرز حدة ومأساوية المشكلة الغذائية نتيجة لطابعها المتناقض. فمن جهة، يؤدي الجوع إلى هلاك الملايين: ففي النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين وحده هلكت بسبب الجوع أعداد من الناس، تزيد على كلِّ الذين هلكوا خلال المائة والخمسين سنة السابقة بسبب الحروب والنزاعات المسلحة والقلاقل الاجتماعية. ويموت سنوياً بسبب الجوع والأمراض الناجمة عنه في العالم أعداد من البشر أكثر بعدة مرات من أولئك الذين قتلوا نتيجة انفجار القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة الأمريكية على مدينتي "هيروشيما وناكازاكي" اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. أما من جهة أخرى، فإنّ مستوى تطور القوى المنتجة والتطورات العلمية والتكنولوجية المستخدمة في الإنتاج الزراعي، تجعل الإنتاج العالمي من المواد الغذائية قادراً عموماً على تلبية الحاجات الغذائية لسكان العالم كافة.

إنّ المشكلة الغذائية ذات بُعد عالمي شامل (كوني)، سواء من حيث طابعها الإنساني، أم من حيث ترابطها الوثيق مع المهمة المعقدة المتمثلة بتذليل التخلف الاقتصادي والاجتماعي في الدول المستعمرة سابقاً والتابعة. فعدم تلبية الحاجات الغذائية لعدد كبير من سكان البلدان النامية المتخلفة لا يشكل عائقاً أمام فرص التقدم فحسب، بل هو في الواقع مصدر دائم لعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي وللنزاعات في هذه البلدان. وتتجلى كونية المشكلة الغذائية على نحو آخر أيضاً. فإنتاج وتوزيع المواد الغذائية والمتاجرة بها بين الدول، تعتبر الشغل الشاغل للحكومات، إن لم يكن في كلِّ بلدان العالم، ففي الغالبية الساحقة منها وفي الوقت الذي تعاني بلدان الجوع وسوء التغذية، تسعى بلدان أخرى إلى تحقيق التوازن في الوجبات الغذائية وفي نوعية الغذاء، بينما تجهد بلدان معينة لحل مشكلة الفوائض في المواد الغذائية أو معالجة المشكلات الصحية الناجمة عن الإفراط في استهلاكها لدى بعض الشرائح الاجتماعية فيها.

أكّد توماس روبرت مالتوس "1766-1834" الباحث السكاني والاقتصادي الانجليزي في حينه أنّ ثمة علاقة وطيدة بين تطور عدد السكان وتطور كمية الإنتاج ولكنه على النقيض من ابن خلدون الذي تحدث منذ القرن الرابع عشر عن الصلة الوطيدة بين عدد السكان ومستوى الحضارة، حيث إنّ عدد السكان يشكل عاملاً مهماً في تقسيم العمل والنمو، زعم مالتوس بأنّ نمو عدد السكان يفوق الزيادة في إنتاج المواد الغذائية، قائلاً بحتمية النقص في المواد الغذائية نسبة إلى زيادة عدد السكان، إذ إنّ قوة السكان على التناسل أعظم من قوة الأرض على إنتاج القوت للإنسان. فقد اعتبر مالتوس أنّ عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية، بينما يزيد الإنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية، مما يؤدي حتماً إلى نقص الغذاء والسكن.

صاغ مالتوس نظريته حول السكان في كتابه "بحث في مبدأ السكان" الصادر عام 1798 يقول مالتوس: "إنّ الرجل الذي ليس له مَن يعيله، والذي لا يستطيع أن يجد عملاً له في المجتمع، سوف يجد أنّ ليس له نصيب من الغذاء على أرضه. فهو عضو زائد في وليمة الطبيعة، حيث لا صحن له بين الصحون فإنّ الطبيعة تأمره بمغادرة الزمن". أثارت هذه النظرية غير الإنسانية انتقادات حادة، كونها شكلت أساساً نظرياً للكثير من الممارسات اللاإنسانية في عدد من الدول. ومبرراً للإبادة الجماعية لكثير من الشعوب حيث أجبرت بعض العرقيات كالسود والهنود الحمر في أمريكا على إجراء التعقيم القسري.

رحل مالتوس، ولكن نظريته ظلت تجد لها مناصرين جّدداً، يرون أنّ ثمة ارتباطاً وثيقاً بين المشكلة الديموجرافية والمشكلة الغذائية في العالم، معتبرين بأنّ نمو سكان الكوكب يجري اليوم بوتائر أسرع بكثير من وتائر نمو إنتاج المواد الغذائية. والجدير بالذكر أنّ المالتوسية تنتعش دائماً وتجد لها أنصاراً جدداً، كلما واجهت الرأسمالية أزمات جديدة. فيسعى هؤلاء لإثبات أنّ البؤس والجوع ليسا وليدي النظام غير العادل نفسه، وإنما هما نتيجة مباشرة لظهور أفواه جديدة وبأعداد كبيرة ومتزايدة على نحو يعجز الكوكب بموارده المحدودة والمتناقصة باستمرار عن إطعامهم. أحد هؤلاء المالتوسيين الجدد "وليام بلوم" يرى بأنّ عدد سكان الكوكب تضخم على نحو مبالغ فيه، ويقترح تخفيض نسبة الولادة بصورة حادة، لأنّ خفض عدد السكان سيترك أثراً إيجابياً في ما يتعلق بمسألة تزايد الدفء على المستوى الكوني وتوافر الماء والطعام.

لتعليل رأيهم يقول: "المالتوسيون الجدد" بأنّ البشرية احتاجت إلى أربعة ملايين سنة لكي يصل عددها إلى ملياري نسمة وإلى 46 سنة لتضيف إلى عددها مليارين آخرين، ثمّ إلى 22 سنة فقط لكي تضيف المليارين التاليين. ولا ينفي المالتوسيون الجدد بأنّ نمو إنتاج المواد الغذائية في الماضي جرى على نحو أسرع من نمو عدد السكان، الأمر الذي أتاح زيادة حصة الفرد من المواد الغذائية، وذلك بفضل التطور التكنولوجي في المجال الزراعي غير أنهم يزعمون بأنّ بداية القرن الحادي والعشرين شهدت أمرين جديدين مثيرين للقلق فيما يتعلق بإنتاج المواد الغذائية.

أوّلهما: تمثل حسب رأيهم في أنّ نمو إنتاج المواد الغذائية أخذ يتباطأ تدريجياً (وهو أمر غير صحيح في الواقع) مقترناً بعوائق تكبح تخفيض كلفة الإنتاج وبالتالي الأسعار. والثاني، تمثل في ارتفاع الكلفة البينية التي تدفعها الطبيعة والبشرية جمعاء لقاء زيادة الإنتاج الزراعي. ويقول "المالتوسي الجديد بول إيرليخ" في هذا الصدد: إننا إذ نحاول إطعام العدد المتزايد من أبناء جلدتنا، فإننا نعرض بذلك للخطر عموماً قدرة الأرض نفسها في الحفاظ على حياة ما على سطحها.

 

المصدر: كتاب علاقة الحياة بالعلوم المعرفية

ارسال التعليق

Top