• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«الكفّارات» مشروع سماوي غايته اليُسر

د. جليل علي

«الكفّارات» مشروع سماوي غايته اليُسر

◄(ذلك كفّارةُ أَيمانِكُم إذا حَلَفتُم) (المائدة/ 89).

(أو كفّارةٌ طَعامُ مَساكينَ أو عَدلُ ذلك صِياماً لِيَذوقَ وبالَ أمرِهِ عَفا اللهُ عَمّا سَلَفَ) (المائدة/ 95).

هناك باب في أبواب الفقه الإسلامي اسمه (الكفّارات)، وهذا الموضوع يُعتبر من معالم اليُسر والسماحة والتساهل في الشريعة الإسلامية، وقد وضعه الشارع المقدّس فريضة على العباد في حالات اقترافهم لبعض الذنوب لكي يُكفِّروا بها عن ذنوبهم ويرفع عنهم الوزر الذي يتحمّلونه بظلمهم لأنفسهم، وبهذه الصورة السهلة السمحاء يتمكّن المسلم من أن يتخلص من الإثم ويرتاح ضميره ووجدانه من ثقل الخطيئة، فيتوفر له بذلك أعذب ألوان الإرتياح النفسي وانشراح القلب بالشعور بأنّ عدم الرِّضا الإلهي قد ارتفع عنه بما يفعله من الكفّارة التي هي مشروع سماوي مليء بالبرّ والإحسان والرأفة.

كما أنّ أغلب صور التكفير تقتضي التيسير على الآخرين، وإعانتهم، وحلّ بعض مشاكلهم، ورفع القيود الثقيلة عنهم، كما في موارد عتق العبيد، وإطعام الفقراء أو كسوتهم، ولا تخفى عظمة مشروع تحرير العبيد وإنسانيته وارتباطه الواضح بجنبة اليُسر والتسهيل على العباد، وفكّ رقابهم وتخليصهم من المشقات والعناء التي على رأسها العبودية للآخرين.

وقد استطاع الإسلام بسماحته الرفيعة ومشروعه المبارك هذا، أي مشروع التكفير، أنْ يحرر العبيد جميعاً، حيث لا نرى اليوم أي أثر في العالم الإسلامي لشيء اسمه رقيق أو عبيد أو إماء، كما لا يخفى أيضاً تأثير موضوع الإطعام أو الإكساء أو الإعانة في حلّ مشكلة الفقر التي هي أهم مشكلات المجتمع البشري.

قال تعالى: (فَلا اقتَحَمَ العَقَبَةَ وَما أدرَاكَ ما العَقَبَةُ فَكُّ رَقبَةٍ أو إطعَامٌ في يَومٍ ذِي مَسغَبَةٍ) (البلد/ 11-14).

وبهذا الباب الفقهي الرائع المشرق بأنوار السماحة واليُسر، حاول الإسلام حل مشكلتين كبيرتين هما من أشق مشاكل الإنسانية (العبودية والفقر)، هذا إضافة إلى حل مشكلة الشخص المذنب المكلف بالكفارة حيث أتيح له عن طريقها التخلص من الإحساس بالإثم وتوقع الغضب الإلهي في الدنيا والعقوبة في الآخرة.

فأي لون من ألوان اليُسر أروع من هذا اللون؟ فما أروع الشريعة الإسلامية السمحاء، وما أعظم رأفتها وإحسانها؟

والجدير بالذكر أنّ بعض هذه الكفّارات جعلها الإسلام سبباً بيد المسلمين لرفع بعض القيود التي يفرضونها على أنفسهم في حالة نفسيّة خاصة من غضب وغيرة، ولو بقيت تلك القيود بلا رفع لسببت لهم مشاكل صعبة، وبعضها لا يُطاق، كما في حالة الظهار حيث يُحرِّم الرجل وبسبب انفعال نفسي زوجته عليه، ولسماحة الإسلام وسعة صدره فإنه أوجد باباً في الكفارة لرفع هذه المشكلة العسيرة، حيث تحل للمسلم بعد التكفير زوجته ويرجع إلى وضعه العائلي الطبيعي، كما أنّ المسلم في بعض الأحيان يُحرِّم على نفسه أشياءً، ويوجب عليها أشياء بالقَسَم أو العهد أو النذر، ثمّ يجد أنه يعسر عليه تحمل الإلتزام بالتحريم، أو الوجوب فيتوجّه إلى باب الكفارة، حيث يستطيع بعد مخالفته للإلزامات التي فرضها على نفسه أن يُكفِّر عن ذلك، بأُمور معيّنة وترتفع عنه تلك الأزمات، وفي هذا من الرفق الإسلامي ما يكشف عن روح الرسالة الفيّاضة بالسماح واللين والرحمة.

 

-        الكفّارة لغة:

لمادّة (كفّر) العديد من المعاني، منها الإنكار والجحود والمحو والتغطية، والمراد هنا بالكفّارة (بتشديد الفاء) ما يؤدّى بدلاً عن نقص أو ذنب تماماً كالعقوبة أو الأرش، أي ما يجبر النقص، وهذه العقوبة قد تكون مالية كإطعام عدد معيّن من المساكين أو كسوتهم، وقد تكون نفسيّة كالصيام والكف بعض الوقت عن الطيِّبات وضرورات الحياة.

وكلّ كفّارة تعتبر عبادة ويجب أن يؤتى بها بنيّة القربة، ولا تصح إلا من المسلم. كما يجب في الكفارة أن يقصد المكلّف بها التكفير عن ذنبه الذي كان سبباً في وجوب تلك الكفّارة عليه، فإذا اجتمعت عليه كفّارات متعددة وجب أن يعين كلّ واحدة منها عند أدائها، سواء كانت تلك الكفّارات متماثلة، كما لو كرر ذنباً واحداً مرّات عديدة، أو متغايرة كما لو ترتبت عليه كفّارات من أنواع شتّى بأسباب مختلفة.

مَن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً وجبت عليه الكفّارة وهو أن يختار القيام بأحد أُمور ثلاثة: عتق رقبة مؤمنة (أي مسلمة)، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً، فأي واحد من هذه الأُمور أتى به كفاه وكان تكفيراً عن ذنبه، وتُسمّى هذه الكفّارة من أجل ذلك بالكفّارة المخيّرة، لأنّ المكلّف فيها له الخيار بين ثلاثة أشياء وكلّ كفّارة من هذا القبيل يُطلق عليها اسم الكفّارة المخيّرة.

ومَن عاهد لله تعالى شيئاً بصورة صحيحة ثمّ خالف نذره، فعليه أن يُكفِّر ويكفيه تكفيراً أن يعتق رقبة أو يطعم ستين مسكيناً.

ومَن أقسم بالله يميناً بصورة صحيحة، ثمّ خالفه وجب عليه أن يُكفِّر، وكفّارته أن يختار القيام بأحد أُمور ثلاثة: عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام متواليات.

مَن أقسم بالله يميناً أنْ لا يواقع زوجته لمدّة لا تقل عن أربعة أشهر وجب عليه أن ينقض يمينه، ويعود إلى حياته الخاصة مع زوجته، فإذا نقض الزوج يمينه هذا وعاد إلى معاشرة زوجته وجبت عليه الكفّارة، وهي نفس كفّارة اليمين الآنفة الذكر.

إذا قال الزوج لزوجته: أنت عليَّ كظهر أُمّي، سُمِّي ذلك ظهاراً، وإذا توفرت الشروط الشرعية حرمت عليه مقاربة زوجته حتى يُكفِّر عن هذا الكلام، وكفّارته أنْ يعتق رقبة، فإن لم يتيسر له ذلك صام شهرين، فإن لم يتيسر أطعم ستين مسكيناً، وتُسمّى هذه الكفّارة بالكفّارة المرتبة وهي النوع الثاني من الكفّارات، لأنّ الاختيار لم يترك للمكلف، بل عيّن له نوع الكفارة على سبيل الترتيب.

والنوع الثالث من الكفّارات هو كفّارة الجمع، كأن يقتل شخصاً مؤمناً ظلماً وعدواناً، فعليه حينئذ مع القصاص، ثلاث كفّارات عتق رقبة، صيام شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكيناً. وكذلك مَن أفطر شهر رمضان على حرام، فعليه أيضاً كفّارة الجمع.

هذا مجمل عن الكفّارات، وهناك كفّارات تترتّب على المحرم للعمرة أو الحج إذا ارتكب أشياء معيّنة مما تحرم عليه.

وفي حالة تعذر العتق إذا كان على الإنسان كفّارة مخيّرة، فعليه أن يختار أحد بديليه، وإذا كان على الإنسان كفّارة مرتبة فعليه أن يختار الصيام، وإذا كان على الإنسان كفّارة الجمع سقط العتق وعوّض عنه بالاستغفار، يعتبر العتق متعذِّراً إذا تحرر كلّ العبيد والإماء وتخلصوا من هذا الأسر، أو لم يجد المكفّر قدرة على شراء مَن يعتقه لعدم توفر المال لديه بما يزيد عن ضرورات حياته من سكن وأثاث ونحو ذلك.

ويمكن لمن يصوم شهرين متتابعين بنيّة الكفارة أن يصوم شهراً ويوماً واحداً من الذي يليه ثمّ يصوم البقيّة، وفي حالة تعذر الصيام إذا كان عليه كفّارة مخيّرة، فعليه أن يختار ما تيسّر له من بدائلها.

وإذا كان على الإنسان كفّارة جمع سقط المتعذِّر وعوّض عنه بالاستغفار، ويعتبر الصيام متعذراً إذا كان عاجزاً عن صيام شهرين على النحو الذي قرر، أو كان فيه من المشقة أو الصعوبة والحرج ما لا يتحمّله عادة، أو كان ممّن يضرّ به الصيام المذكور.

وهناك أحكام عامّة للكفّارة نُلخِّصها فيما يلي:

1- كلّ مَن وجبت عليه كفّارة مخيّرة أو مرتّبة أو كفّارة جمع وعجز عن أدائها وجب عليه الاستغفار.

2- كلّ مَن وجب عليه الكفّارة، فالأجدر به إحتياطاً واستحباباً أن يُبادر ويسرع إلى القيام بها، ولكن ذلك ليس بواجب، فلو أجّلها أو دفعها تدريجياً صحّ ولم يكن آثماً.

3- كلّ مَن شكّ في أنه هل صدر منه ما يوجب عليه الكفّارة أو لا فلا يجب عليه شيء، وإذا علم بأنّ عليه كفّارة وشكّ في أنه أدّاها أم لا وجب عليه القيام بها.

4- وإذا علم بأنّه عليه كفّارات لسبب من الأسباب ولم يعلم عددها، فلم يدر ما هي؟ هل هي ثلاث كفارات أو أربع مثلاً؟ أدى ثلاثة ولا تجب عليه كفارة رابعة.

المصدر: كتاب الشريعة السمحاء

 

ارسال التعليق

Top