• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لقمان (ع) بين النبوة والحكمة

عبدالصاحب الحسني العاملي

لقمان (ع) بين النبوة والحكمة


لقد اختلفوا في انّه كان نبياً أم لا، بل هو صاحب الحكمة الإلهية، وقيل إنّه خيّر بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة، ويقال إنّه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل إنّه عاش ألف سنة، وأدرك داود (ع) وأخذ عنه العلم، وقيل دخل عليه وهو يسرد الدروع، وقد ليّن الله تعالى له الحديد فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال داود (ع): بحق ما سميت حكيماً، كما في تفسير جوامع الجامع، وقد اختلف في معنى الحكمة المنسوبة إليه ففسرت بمعانٍ كثيرة، قال سبحانه: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة/ 269)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان/ 12)، فهل الحكمة هي العلم والعمل به، أو انّها هي القرآن المجيد والفقه، أو العلم الذي يرفع الإنسان عن فعل القبيح، أو أنها هي فهم المعاني والتمييز الكامل المانع من الجهل، أو هي طاعة الله تعالى ومعرفة إمام زمانه، لكل قائل، فنقول لا مانعة جمع بينها فالكل مراد ولا غرابة فهي موجودة عند شخص الإمام بلا ريب بل وعند كل معصوم في الجملة، نعم وللإختصاص في جهة كمال الخصوصية وتمام الأهمية تأمل تفهم.
وفي مروج الذهب: لقمان الحكيم هو لقمان بن عنقاء بن مريد بن صاوون وكان ونوبياً مولى للقين بن جسر، وُلد على عشر سنين من مُلك داود (ع)، وكان عبداً صالحاً فمنّ الله عزّ وجلّ عليه بالحكمة، ولم يزل باقياً في الأرض مظهراً للحكمة والزهد في ذاك العالم إلى أيّام يونس بن متى حينما أرسل إلى أرض نينوى من بلاد الموصل... إلخ. والمروي عن الصادق (ع) حينما سئل عن لقمان وحكمته قال: أما والله ما أوتي الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسطة في جسم ولا جمال ولكنه كان رجلاً قويّاً في أمر الله متورعاً في الله ساكتاً سكيتاً عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعِبَر لم ينم نهاراً قط ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعمق نظره وتحفظه في أمره ولم يضحك من شيء قط ولم يمازح إنساناً قط ولم يفرح لشيء أتاه من أمر الدنيا ولا حزن منها على شيء فاته منها قط، وقد نكح من النساء وولد له الأولاد الكثيرة وقدّم أكثرهم أمامه فما بكى على موت أحد منهم، ولم يمرّ برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما ولم يمضِ عنهما حتى تحابا، ولم يسمع قولاً قط من أحد استحسنه إلا سأله عن تفسيره وعمن أخذه، وكان يُكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين، فكان يُرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرَّتهم بالله العظيم وطمأنينتهم في ذلك، وكان يعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان، وكان يداوي قلبه بالتفكير ويداوي نفسه بالعِبَر، وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه، فبذلك أوتي الحكمة ومُنح العصمة... إلخ. وقد ذكرنا من أنّه خيِّر بين النبوة والحكمة وأنّه اختار الحكمة، وبعد اختياره الحكمة ونام ليلاً أنزل الله تعالى عليه الحكمة فغشّاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم، فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه وخرج على الناس وهو ينطق بالحكمة، كما نقل ذلك.
وعن الطبرسي، قيل: إنّه كان عبداً أسوداً حبشياً غليظ المشافر مشقوق الرجلين. وذكر أنّ مولاه دعاه فقال له: اذبح شاة وأتني بأطيب مضغتين منها، فأتاه بالقلب واللسان، فسأله عن ذلك، فقال له: انهما أطيب شيء إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا. وكان مما وعظ به ابنه ان قال له: يا بني أنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدارٌ أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد، يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم فيمنعوك، وخذ من الدنيا بلاغاً ولا ترفضها فتكون عيالاً على الناس، وصم صوماً يقطع شهوتك ولا تصم صياماً يمنعك من الصلاة فإنّ الصلاة أحب إلى الله من الصيام، يا بني انّ الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالمٌ كثير فاجعل سفينتك فيها الإيمان واجعل شراعها التوكل واجعل زادك فيها تقوى الله فإن نجوت فبرحمة الله وان هلكت فبذنوبك، يا بني ان تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً، يا بني خف الله خوفاً لو اتيته يوم القيامة ببر الثقلين خفت ان يعذبك وأرج الله رجاء لو وافيته يوم القيامة بذنوب الثقلين رجوت ان يغفر لك، فقال له ابنه: يا أبت وكيف أطيق هذا وإنّما لي قلب واحد، فقال له: يا بني لو استخرج قلب المؤمن فشقَّ لوجد فيه نوران: نور للخوف ونور للرجاء، لو وزنا ما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرة، يا بني لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فما خلق الله خلقاً هو أهون عليه منها، الا ترى انّه لم يجعل نعيمها ثواباً للمطيعين ولم يجعل بلائها عقوبة للعاصين، وقال له: با بني إني حملت الجندل والحديد وكل حمل ثقيل فلم أحمل شيئاً أثقل من جار السوء، وذقت المرارات كلها فلِمَ أذق شيئاً أمرّ من الفقر، يا بني اتّخذ ألف صديق وألف قليل ولا تأخذ عدواً واحداً والواحد كثير. ولقد قيل له: ألست كنت ترعى الغنم معنا فمن أين أوتيت الحكمة، فقال: أداء الأمانة وصدق الحديث والصمت عما لا يعنيني.
وروي انّه قدم من سفر طويل فلقي غلامه في الطريق فسأله عن أبيه، فقال له: مات، فقال: ملكت أمري، وقال له: ما فعلت أمرأتي؟ فقال له: ماتت، قال: تجدد فراشي، فقال له: ما فعلت أختي؟ قال: ماتت، فقال: سترت عورتي، فقال له: ما فعل أخي؟ قال له: مات، قال: الآن انقطع ظهري. ومن كلام له يوصي به ابنه: اعلم أنك ستسئل غداً إذا وقفت بين يدي الله عزّ وجل عن أربع شبابك فيما ابليته وعمرك فيما أفنيته ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته فتأهب لذلك وأعد له جواباً. وقال له: يا بني تعلمت سبعة آلاف من الحكمة فاحفظ منها أربعة وسر معي إلى الجنة: احكم سفينتك فإن بحرك عميق، وخفف حملك فإنّ العقبة كؤد، واكثر الزاد فإنّ السفر بعيد، واخلص العمل فإنّ الناقد بصير، وهل يسعنا ذكر كل ما ورد من ذلك وأثر عنه من الحكم والنصائح؟ كلا، وقد تركنا الأكثر مما عثرنا عليه ووصل إلينا وبالله التوفيق وله جميل الثناء.
المصدر: كتاب الأنبياء حياتهم.. قصصم

ارسال التعليق

Top